الإمام موسى الصدر وقضايا الوحدة والتعددية

الإمام موسى الصدر وقضايا الوحدة والتعددية
ثمّة مقتضيات ودواعٍ عديدةٌ، تدفعنا إلى قراءة ودراسة تجارب العظماء والمصلحين في الأمة، وذلك من أجل التعرّف بعمق على هذه التجارب والعطاءات، والتفاعل مع قضاياها المركزية والجوهرية، والعمل على تأسيس أعمالنا وأنشطتنا الفكرية والعملية على هدىً من هذه التجارب ومآلاتها. بما يشكّل لدينا عمقًا تاريخيًّا ومعرفيًّا واجتماعيًّا، نستند إليه ونعمل على إثرائه والإضافة إليه. ووحدها الأمم الحية والناهضة، هي التي تهتم برموزها وشخصياتها العلمية والجهادية.
وتشهد بذلك سجلّات ويوميات الراهن، فقديمًا وقبل بزوغ فجر الإسلام كانت القبيلة العربية تحتفل بنبوغ الشاعر إذا نبغ فيها؛ وذلك لأنه لسانها المعبّر، الذي يتغنّى بأمجادها، ويسجّل مآثرها، وينشر فضائلها، ويردّ كيد أعدائها.
وجاء الدين الإسلامي، فسنّ معرفة الفضل لأهله، والبوح بنعم الله عزّ وجل على الإنسان فردًا أو جماعة وحثّ عليه. وهكذا، فإنّ الأمم الحية، هي التي تعرف حقّ علمائها، وتحفظ لمجاهديها قدرهم، وتُنزل ذوي المواهب والطاقات بالمحل اللائق بهم.
لذلك، فإن الاهتمام بعلماء الأمّة وعظمائها ومصلحيها، والتعرّف على عطائهم الفكري والثقافي وجهدهم الإصلاحي والتغييري، هو من القضايا الإيجابية التي ينبغي أن نحثّ أبناء الأمة من مواقعهم المتعدّدة على القيام بها، والالتزام بمقتضياتها ومتطلباتها.
والإمام السيد موسى الصدر، هو من الشخصيات الإسلامية البارزة التي جمعت بين العلم والعمل، وبين الفكر والحركة، وبين الدعوة والجهاد. لذلك فحريٌّ بنا أن نتوقّف أمام هذه الشخصية المتميّزة، ونتعرّف على تجربتها الثرية وأفكارها النيّرة وجهادها الشامل.
ومنذ بواكير وعيي الحياتي والديني، كان للإمام الصدر حضوره المتميّز، بوصفه أحد أعلام الأمّة ومجاهديها وحاملي لواء الدفاع عن المحرومين والمظلومين في لبنان وفلسطين؛ إذ عمل ومنذ أن وطأت قدماه أرض آبائه وأجداده (لبنان) على توعية الناس وتعريفهم بالقيم الإسلامية والإنسانية، ونسج العلاقات مع العديد من الشخصيات والمؤسّسات الأهلية والمدنية في لبنان، بصرف النظر عن انتمائها الديني والأيديولوجي، وكافح لحشد وتعبئة كل المحرومين من أجل المطالبة بحقوقهم المشروعة والدفاع عن قضاياهم المقدّسة.
إنه يمارس الدعوة والتبليغ في المسجد والحسينية، كما يخطب ويحاضر في الكنيسة. ويلقي البحوث والندوات في المنتديات الأهلية وأروقة الجامعات والكلّيات. فهو شعلة من النشاط والحيوية، تجاوز من خلالها الكثير من القيود التي كانت سائدة آنذاك في لبنان.
وكانت الركيزة الأساسية التي يستند إليها الإمام الصدر في حركته ونشاطه المتعدّد، إيمانه العميق بالإسلام نظامًا شاملًا للحياة. وأنّ العالم المسلم ينبغي أن تكون ثقافته واسعة، وعلمه عميق، حتى يتسنّى له تعريف الإسلام للآخرين على نحو حضاري وإنساني، إذ يقول تبارك وتعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[1].
لذلك، ومن خلال الرؤية الحضارية التي حملها الإمام الصدر عن الإسلام، وعن دور المسلمين ولبنان الذي كان يسميه جنة الله في الأرض، فإنه أثرى الواقع بجملة من المؤسّسات والمبادرات والأطر التي تصب جميعها في مصلحة بناء لبنان الاجتماعي والثقافي والسياسي، على أسس العدالة والمساواة والاعتراف الكامل بالآخر وجودًا ورأيًا وحقوقًا.
لقد عايش الإمام الصدر مشكلات المسلمين المعاصرة، وأسهم من موقعه ومركزه وعلاقاته في علاج بعضها والتصدّي لبعضها الآخر. ومن خلال سيرته وعطائه المتواصل، وقصص معايشيه، نكتشف أن الإمام الصدر كان عالي الهمّة، صادق العزيمة، واسع الصدر، رفيقًا بالمخالف والمغاير، حليمًا مع الجاهل والغافل، متواضعًا مع العامّة، حكيمًا في أسلوبه، عزيز النفس، يكافح بلا كلل أو ملل، ويجاهد دون أن تلين له قناة، أو تضعف له همّة، ورغم العقبات والعراقيل والصعوبات. ويتوج كل هذه الخصال بخلق كريم وأدب جم استقاه من هدي الكتاب العزيز وسنّة المصطفى (ص)، وأهل بيته عليهم السلام ومنهج الصالحين من علماء الأمة.
ونحاول في هذه الدراسة المقتضبة، أن ندرس رؤية الإمام الصدر في قضايا الوحدة والتعددية، وذلك من أجل تأصيل حقائقنا الفكرية والاجتماعية، وتطوير مستوى التعاون والتضامن بين مختلف تعبيرات وأطياف الأمة.
الوحدة والتعددية.. أية علاقة؟
ولعلنا لا نأتي بجديد حين نقول: إننا لا يمكن أن نبني الوحدة بكل دوائرها ومستوياتها، إلا على قاعدة احترام عميق للتعددية الفكرية والسياسية، وتهيئة كل مستلزمات ومتطلّبات عملها ونشاطها في الفضاء الاجتماعي. وإن كل المحاولات الوحدوية، باءت بالفشل، لكونها تغافلت عن حقيقة التعدّدية وعملت على طمس معالمها وحقائقها، فزادتنا هذه المحاولات الوحدوية تفرّقًا وتجزئة. فالمشروع الوحدوي الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، الذي يستهدف توحيد الناس قسرًا ويتغافل أو يتجاهل حقائق التعدّد والتنوع. إن هذا المشروع سيفضي على الصعيد العملي إلى المزيد من التشظّي والتفتّت والتجزئة، فالوحدة لا تُبنى بالقسر، ووسيلتها الحضارية هو احترام عميق وقانوني لكل حقائق التعدّد والتنوع في الفضاء الاجتماعي والسياسي. فالإمام السيد الصدر يرى أن الوحدة من خصائص الثقافة الإسلامية. لذلك، فإن الإسلام في الرؤية الصدرية “يرّحب بكل حركة فكرية – إيجابية، وكل تطوير عقلي سليم، ويعتبر كل هذا جزءًا من رسالة الإنسان في الحياة، وواجبًا من واجباته. ولا تنتهي فاعلية الإسلام عند هذا الحد فهو يدخل هذا العنصر الجديد في جسمها الثقافي الكبير، ولا يبدي الإسلام أي تحفظ تجاه النشاطات الثقافية بسبب التخوف على ذاته، أو إضعاف الدين في نفوس أبنائه”[2].
فالإمام الصدر لم يتعاطَ مفهوم الوحدة ولم يتعامل معه برؤية شوفينية، تتجاوز حقائق الواقع ووقائع المجتمع. وإنما تعامل معه برؤية حضارية عميقة، قوامها تظهير العلاقة بين الوحدة والتعددية. فلا وحدة حقيقية وصلبة، إلا باحترام التعدّدية الدينية، والمذهبية، والفكرية، والسياسية، وتهيئة كل مستلزمات أمنها وحركتها وفعلها العام. كما أنه لا تعدّدية فعّالة وسليمة إلّا بأفق الوحدة والتماسك الوطني والاجتماعي.
فالتعدّدية لا تعني بأي حال من الأحوال، التشريع للفوضى والتشتّت والتفتّت الاجتماعي. وإنما ينبغي أن تتحرك في أفق الوحدة، وتعمل على تثمير حقائقها، باتجاه المزيد من تعزيز اللحمة الداخلية للمجتمع. فالوحدة – مفهومًا وممارسةً – لا تلغي التعدّدية ومتطلّباتها وحاجاتها. كما أنّ التعدّدية – بوصفها حقيقةً مجتمعيةً وسياسيةً – لا تعني القطع والقطيعة مع مفهوم التماسك والوحدة الاجتماعية.
ولعلّنا لا نجانب الصواب حين نقول: إن حركة الإمام السيد الصدر وتجربته السياسية والثقافية في لبنان، كانت أنموذجًا رائعًا لهذه العلاقة المطلوبة بين التعدّدية والوحدة، فهو دعا إلى الوحدة والاندماج الوطني، ولكن ليس على قاعدة الذوبان والتوحيد القسري للناس، وإنّما على قاعدة الاحترام العميق لكل التعدّديات والتنوّعات المتوافرة في الاجتماع اللبناني.
أصالة الوحدة.
والوحدة الاجتماعية والسياسية – سواء في الدائرة الوطنية أو الإسلامية – في المنظور الصدري، ليست رؤية فوقية أو مستعارة من النظريات السياسية المعاصرة، بل هي من صميم رؤيته وفهمه للإسلام بكل تشريعاته ونظمه، حيث إنه دين التوحيد والوحدة. لذلك فإنّ الإمام الصدر يتعامل مع الوحدة بكل مقتضياتها ومتطلّباتها ولوازمها، بوصفها جزءًا أصيلًا من مشروع الإسلام في الحياة. لهذا، فإن الوحدة بكل مستوياتها ودوائرها، هي من ثوابت مسيرته وقواعد حركته الاجتماعية والسياسية.
من هنا أكّد الإمام الصدر ومنذ الأيام الأولى لتأسيس حركة المحرومين، أنّها حركة لا طائفية، تنطلق من قلب الطائفة، وحركة شعبية تنطلق من مشاركة القيادة هموم شعبها ومجتمعها. والتشيّع بوصفه مبدأ وفكرة، لم يكن يعني الانعزال عن الأمة وهمومها، بل هو طليعة الأمة في تجسيد قيم الإسلام والدفاع عن مقدّساته ومبادئه.
ويقول الإمام الصدر في هذا الصدد: “وبذلك نتمكّن أن نعتبر التشيّع لعلي في ينابيعه هو رؤية الطليعة المناضلة وسلوك الرواد، وبتعبير آخر إنه محاولة الاحتفاظ بالإسلام بوصفه حركة، لا مؤسّسة ذات مصالح ومنافع ذاتية. وقد برز بعد وفاة الرسول موقف محدّد من علي وشيعته، وهو أنهم أصرّوا على ضرورة تعيين خليفة الرسول بالنص الديني لا بالاختيار والتعيين، واعتبروا أن هذه المهمّة، وهي بناء المجتمع الجديد على ضوء القيم والمفاهيم الإسلامية والذي بدأ ببنائه الرسول نفسه، إن هذه المهمة تبلغ من الدقة درجة لا يمكن تفويضها إلى الناس وهم في بداية إسلامهم؛ ذلك لأن تطبيق المبادئ للمرة الأولى بصورة تسمو على المصالح الذاتية وعلى الآراء المختلفة، هو مسألة بالغة الخطورة والتأثير على واقع الإسلام وعلى التاريخ.
ويضيف الإمام الصدر: “وبالرغم من هذا الموقف الأساسي، فإن عليًّا وشيعته بعد الإعلان عن موقفهم، لاحظوا خطورة الوضع وحداثة عهد الناس بالإسلام، وإمكانية انفجار المجتمع الجديد، فوقفوا مع الخلفاء مؤيدين، ناصحين، مدافعين عن النظام، وأمدّوا الأمّة بما كان عندهم من روايات نبوية، واجتهادات ومواقف، وكانوا في صميم المجتمع الإسلامي غير منفصلين ولا متربّصين ولا شامتين، حتى أصبح القول المأثور عن أحد الخلفاء الراشدين: لا أبقاني الله لمعضلة ليس فيها أبو الحسن، أصبح مثلًا. واستمر الأئمة من آل البيت في هذا الخط، يصونون الإسلام بمواقفهم، التي كانت تتنوع حسب مواقف الخلفاء، وحسب استجابة الأمة”[3].
فالوحدة في الرؤية الصدرية من المرتكزات الأساسية، والقواعد الكبرى لعمله وتجربته في كل أبعادها وآفاقها. ويقول في ذلك: “ولذلك نحن نعتبر أن لبنان بلد عربي، ونعتقد أن الوحدة العربية هدف لنا، وإننا في هذا المجال الرحب الكبير علينا أن نعمل ضمن حركة المحرومين، وضمن أيديولوجيتها، وضمن نطاقها السياسي والاقتصادي والإعلامي والاجتماعي، في كل هذه المجالات، بمقدار إمكاناتنا. نحن في الوقت الحاضر، لا نكون كما ذكر الأخ رؤوف شحوري، نريد تصحيح العالم وننسى العالم وننسى قريتنا! لا. ابتداء من هذا الوطن الذي – بحكم القوانين الموجودة – يحق لنا أن نتحرّك فيه، نشتغل، ولا ننسى أنه مجالنا الواسع، كل هذا المجال موجود. بطبيعة الحال هذا أيضًا لا يتنافى إطلاقًا مع أننا نؤمن بالآية الكريمة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[4]؛ يعني نحن نعتبر أن المسلم هو أخ المسلم أينما كان، ومن أية قومية كان. لكن المسلم الحقيقي، وليس المكتوب على هويته مسلم. لأنه نحن نعرف أن هناك عناصر بهويتهم مكتوب مسلم، حتى مكتوب عربي، وحتى لغتهم وحياتهم، ولكنهم في الحقيقة وفي نياتهم خصوم المسلمين، وخصوم العرب في كل شيء. ضمن الإطار المعين هؤلاء إخوتنا أيضًا، ونسعى في سبيل تقوية العلاقات معهم، والاستعانة بهم في قضايانا في مسيرتنا الحضارية”[5].
نقد الطائفية.
على المستوى الواقعي والفعلي، لا يمكن أن تلتزم بمتطلبات الوحدة الوطنية والإسلامية، إلا بنقد عميق وحقيقي لكل أشكال وحالات الطائفية المقيتة، فالوحدة تلزمنا جميعًا التعامل مع المسلمين على قدم المساواة، وبعيدًا عن كل حالات الحرمان والتهميش والتمييز والإقصاء.
وانخراط الإمام الصدر في الدفاع عن حقوق المحرومين الشيعة في لبنان، ليس مناقضًا لمفهومه للوحدة والاندماج الوطني والإسلامي، وذلك لأن الوحدة لا تُبنى بتهميش فئات أو حرمان وإقصاء أخرى. وإنما تُبنى على أرض صلبة، حينما تعطى كل الفئات والتعبيرات والأطياف حقوقها الدينية والمدنية. لذلك عمل وجاهد وكافح الإمام الصدر لينال الشيعة حقوقهم الدينية والمدنية. وإن سعيه وكفاحه في هذا السبيل هو لرفع الضيم والظلم والحرمان عن فئات اجتماعية ووطنية أصيلة.
ولعلّ هذه الرؤية هي التي دفعت الإمام الصدر، إلى تسمية حركته بحركة المحرومين، بعيدًا عن العناوين الطائفية والمناطقية الضيقة.
فالوحدة لا تُبنى إلّا بالعدل والمساواة. وكل عمل وكفاح لنيل الحقوق وإزالة الحرمان، هو من صميم بناء الوحدة على أسس سليمة بعيدًا عن الأوهام والشعارات الشوفينية، التي تتعامل مع مفهوم الوحدة بوصفه إبقاءً واحتكارًا للمكاسب والمسؤوليات.
فالإمام الصدر حارب الطائفية بكل تعبيراتها وعناوينها، ووقف بحزم ضد الحرمان والظلم وسياسات التهميش والتمييز، لأنها لا تنسجم ومقتضيات الوحدة والعدالة، فالعدالة والمساواة هي بوابة الوحدة، وأي بناء اجتماعي لا يُبنى على العدالة والمساواة فإن مآله الأخير هو الانهيار والتلاشي.
والتشيّع ليس انعزالًا عن الأمّة، أو هروبًا من مسؤوليات الراهن، بل هو طليعة الأمة وصفوتها التي تدافع عن مقدّسات الإسلام ومصالح المسلمين. ويشير إلى هذه الحقيقة الإمام الصدر بقوله: “مهما فعلوا بنا كشيعة نحن في خدمة المسلمين جميعًا، لسنا فئويين، فنحن طليعة المسلمين، نموت لأجل الجميع، وليس لأجلنا نحن، هذا هو السلوك التاريخي للشيعة. هكذا أنا أفهم التشيع. أما مذهب لهذا أو فئة لهذا لها مصالح وتنظيمات خاصة فليس هناك شيء من هذا. هذا التاريخ، هذا الملهم لنا في حركة المحرومين. من الطبيعي أن يكون هناك مواقف وآراء تختلف عن هذا الخط العام، سيما بعد القرن العاشر الهجري، عصر الانحطاط. كثير من الكتب والخطب والمواقف والعادات عند الشيعة كان في مقام ردّ فعل، والرد العاطفي على الاضطهاد العنيف الذي كان يمارس ضدهم”[6].
وفي موضع آخر، يوضح الإمام السيد موسى الصدر الخلفية الفكرية والسياسية لتأسيس حركة المحرومين بقوله: “إن هذه الحركة كانت عادلة وباتجاه تقدم الإنسان في التاريخ، لمجرد العوامل التي تحدثنا عنها في المادتين الأولى والثانية، ولكن الحركة هذه كانت من مقتضيات الضرورة التاريخية، بسبب المزيد من العوامل التي تعتبر على خلاف سير التاريخ. فالظلم واغتصاب حقوق أبناء الطائفة، وازداد بصورة واضحة خلال السبعينات، وازداد بوجه خاص عدد المحرومين لدى الطوائف الأخرى، وارتفع مستوى الوعي والثقافة لدى المحرومين. ومن جهة أخرى، فقد زرعت إسرائيل بشكل مجحف وعلى خلاف جميع القواعد المعروفة في قلب هذه المنطقة، وقد نتجت عن هذه الظاهرة نتائج كبيرة وخطيرة، ذات أبعاد حضارية وبشرية وثقافية وأمنية واقتصادية، تعد انتكاسة فريدة في تاريخ المنطقة بل وفي تاريخ العالم”[7].
وهكذا نرى أن التشيّع هو التزام عميق بقضايا الأمة الجوهرية، وكفاح متواصل نحو بناء الواقع الاجتماعي والإنساني على أسس الحرية والعدالة والمساواة.
وصعوبات الواقع وسيئاته، تحمّلنا مسؤولية العمل المتواصل لتغييره نحو الأحسن. فلا يكفي أن نحدّد نقاط السوء في الواقع السيء. والإيمان العميق بالله عز وجل هو حجر الأساس في مشروع تغيير الواقع نحو الأفضل، وتجاوز كل سيئاته وإحباطاته. و”نحن قلنا: الإيمان بالله لا يمكن أن يكون مع تجاهل شؤون المحرومين والمعذّبين. إذ، كما يجب علينا الصلاة، يجب علينا السعي لخدمة الناس. ثم قلنا: إن السعي لخدمة الناس. ثم قلنا: إن السعي لخدمة الناس يتجاوز في قوته، وصعوبته، ومشاكله طاقات الفرد.
الفرد ولو كان عملاقًا، ولو كان رأسه بالسماء، ما يقدر، الفرد محدود. إذن، لازم نحوّل الفرد للجماعة. وقلنا: إن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى[8]
للقيام لله بشكل متعدّد، إذن، نحن مسؤوليتنا أن نقوم لله، يعني للناس. والقيام لله يعني القيام للناس؛ لأن الإيمان بالله، لا ينفصل عن خدمة الناس كما نعرف ودائمًا نقول”[9].
ولكي نحمي ذواتنا ومكاسبنا العامة، نحن بحاجة إلى القبض على كل أسباب القوة والتمكّن في الأرض. لأنه لا يمكن أن نحافظ على مكاسبنا أو نطور من منجزاتنا، إلا بالمزيد من بناء قوتنا الحضارية. ويدعو الإمام الصدر بشكل واضح وجلي إلى ضرورة بناء قوتنا، وتنمية مستوى التعاون والتعاضد والتضامن مع بعضنا البعض، وذلك من أجل الوصول إلى أهدافنا، وإنجاز تطلعاتنا والدفاع عن وجودنا. إذ يقول: “نحن لا بد أن نقوى، لا إكرامًا لأنفسنا، بل إكرامًا لله، وإكرامًا للمعذّبين من أهلنا، ومن إخواننا، لا بدّ، في هذه الطريقة، هذه الصلاة، هذا الحج، هذه القبلة، هذا كل ديننا الآن، إنه علينا أن نسعى في سبيل قوتنا، وتشديد تنظيمنا، وتوعية شبابنا، والتزامهم الديني والثقافي والفكري، والوعي، والمسلك، حتى نقدر نحمي ذاتنا”[10].
فمشروع الإمام السيد الصدر يناقض الطائفية، ويعمل من خلال دوائره المتعدّدة لرفع الحيف والظلم والحرمان عن فئات المجتمع اللبناني بصرف النظر عن انتماءاتها الدينية والمذهبية. فهو مشروع للإنسان المحروم والمظلوم في لبنان كله. ويشدّد الإمام الصدر في الكثير من محاضراته وخطبه على هذا المعنى الحضاري لحركته في كل أبعادها ومستوياتها. إذ يقول: “رسالتنا دعوة عالمية، وانفتاح على جميع الشعوب، لتعميق مفاهيم المساواة والتعاون بين الخلق. وتحقيق وحدة القلوب، المعبرة عن حاجة نفسية، تربط الناس ببعضهم، وهذه الوحدة هي الوحدة الفكرية (الإلهية) الجامعة بين الناس، والتي لا تتأثّر بالمصالح الفردية، أو الطائفية أو العنصرية أو الحزبية أو الطبقية. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً[11].
أما الطائفية، فهي التعصّب الأرعن والتقوقع على الذات، ضمن إطار الطائفة الواحدة، واستعداء الآخرين، ولا بدّ من الإشارة إلى بعض سقطات الحركات التقدّمية التي لم تع المسألة الطائفية، فاعتبرتها عارضًا سطحيًّا طرأ على حياة المجتمع، لذلك يعتبر البعض منهم، أن الطائفية المسيحية ذات جوهر يميني رجعي، وأن الطائفية الإسلامية تقدّمية. على أساس التفاوت الموجود بين الطائفتين، بحيث يمكن أن يكون التفاوت السلاح الفعّال في قضية التغيير، إلا أن الواقع أن الطائفية سواء كانت مسيحية أم إسلامية فهي رجعية، وأنه لا يجوز استغلال هذا العارض المرضي من أجل التغيير، وإلا فإن صرح التغيير المرتقب، سيكون أساسه من ملح.
إن الفكر الديني المتطور، هو القادر على نزع الصبغة الطائفية التعصبية عن الدين. وما أحوجنا إلى ثورة تجديدية في عالم الأديان، تعيد إليه روحها الصحيحة، التي حاولت وتحاول باستمرار قوى النفاق والتعصّب طمسها”[12].
الوحدة في التنوع.
وهنا نصل إلى مسألة مهمّة في مشروع الوحدة بكل دوائرها ومستوياتها، وهذه المسألة هي: أن وحدة الأوطان والعرب والمسلمين، لا تتأتّى بقهر الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، وإنما بحمايتها وتهيئة كل أسباب مشاركتها في الشأن العام. وذلك لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُبنى الوحدة في أي دائرة من الدوائر، بدحر الخصوصيات وقهر التنوع بكل مستوياته.
فالوصول الحضاري للوحدة، يأتي من خلال حماية حق التنوع والتعدّد، وصيانة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية. وأي مشروع وحدوي، يتجه نحو دحر التنوعات ومحاربة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، فإن مآله الأخير هو المزيد من التشتّت والتشظّي.
وهذا ما يفسّر لنا تجارب الكثير من الموجودات الأيديولوجية والسياسية التي حملت لواء الوحدة، إلّا أنها على الصعيد العملي لم تنتج إلا المزيد من التفتيت والتجزئة.
فالوحدة أصل من أصول ثقافتنا وفكرنا، ولكن الطريق إليها، لا يكون من خلال ممارسة الاستبداد والقهر والحرمان للتنوعات المتوافرة في الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي. فقوتنا في صيانة تنوعنا، وعزتنا في حماية تعدّديتنا التقليدية والحديثة. ولا يمكن أن يُبنى مشروع الوحدة على أنقاض التعدّدية، وحقائق التنوّع المتوافرة في المجتمع. فصيانة التعدّدية على المستويين القانوني والسياسي، هو طريق بناء الوحدة على أسس صلبة ومتينة.
من هنا، نجد أن الإمام الصدر، لم يتجاهل حقائق المجتمع والوطن، وإنما عمل على التفاعل معها ودفعها إلى مشروع وأجندة وطنية حقيقية. وهذا ما يفسّر لنا تحالف الإمام الصدر مع الكثير من الشخصيات والوجودات، التي تلتقي مع مشروعه في محور من المحاور أو نقطة من النقاط.
ويحدّد الإمام الصدر رؤيته لمشروع التحالف بقوله: “إذن، شرط تحالفنا، وحدة الهدف ولو واحد، وحدة لبنان، ولكن أيضًا. الشرط الثاني، وحدة الوسيلة، يعني عدم الانتقام من الأبرياء، يعني عدم النهب للبيوت، يعني عدم الطعن في الظهر للحليف، يعني عدم إطلاق النار على المدنيين، يعني عدم قصف الأحياء المدنية بالمدافع، عدم إحراق سيارات الإسعاف، عدم الهجوم على المستشفيات، هذه مسائل كانت مثل شرب الماء في الأحداث”[13].
وفي محاضرة للإمام الصدر بعنوان: من الميثاق.. الكون مبني على الحق والعدل. جاء فيها: “لذلك، لسنا معقدين أمام الأحزاب إطلاقًا. نحترمهم ولو خطّأنا أحزابهم وأهدافهم ونقدناها. إنهم أفضل من المستسلمين والهاربين. ولأننا قدّمنا شيئًا سابقًا.
نقول: لا نصنف؛ لأن انحراف شاب قبل ذلك، ليس هو مسؤولًا عنه، لم يسمعني حتى يقبلني، ما سمع وثيقة الحركة، أو أي مدرسة فكرية تقترحونها. ما سمعها!
لو قَدِمتُ من عشر سنوات يمكن كان معنا، ما سمعوا اختاروا الغير، لأنهم أرادوا الحق فأخطؤوا. هؤلاء كانوا أفضل من الذين أرادوا الباطل فأصابوا. إذن، نحن لا نصنف الناس”[14].
فسبيل المواطنة الصالحة، ليس التوحيد القسري والقهري للناس، وإنما بالحرية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وكرامته، نخلق مواطنًا صالحًا وفاعلًا وشاهدًا.
وإن المطلوب أن ينال الإنسان المسلم حريته، وهي لا توهب، وإنما هي بحاجة إلى جهد وجهاد، سعي وكفاح، تدرّج وتواصل، حتى تتراكم تقاليد وحقائق الحرية في المحيطين الفردي والجماعي. وقوة العرب والمسلمين في حريتهم، لأنها بوابة الوحدة والإجماع، كما هي الوعاء الذي يستوعب جميع الطاقات والقدرات.
 
 
[1]  سورة يوسف، الآية 108.
[2]  الإمام موسى الصدر، الإسلام عقيدة راسخة ومنهج حياة، (دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1983)، الصفحة 55.
[3]  مسيرة الإمام السيد موسى الصدر، إعداء وتوثيق يعقوب ضاهر، (بيروت: دار بلال، الطبعة الأولى، بيروت 2000)، الجزء 12، الصفحة 28.
[4]سورة الحجرات، الآية 10.
[5]  المصدر السابق، الصفحة 152.    
 [6]  المصدر السابق، الصفحة 30.
[7]  المصدر سابق، الصفحة 48.
[8]  سورة سبأ، ألآية 46.
[9]  مسيرة الإمام السيد موسى الصدر، مصدر سابق، الصفحة 66.
[10]   المصدر السابق، الصفحة 69.
[11]  سورة سبأ، الآية 28.
[12] المصدر سابق، الصفحة 104.
[13]  المصدر سابق، الصفحة 68.
[14]  المصدر سابق، الصفحة 97.



المقالات المرتبطة

الفكر العربي الحديث والمعاصر | نصر حامد أبو زيد والتأويلية

يعتبر نصر حامد أبو زيد من الشخصيات المركزية في الفكر العربي المعاصر، ويتميز باتجاهه التأويلي، الذي حاول من خلاله إعادة

بناء الدولة الحديثة عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده)

محمد باقر الصدر(قده) مرجعًا دينيًّا تقليديًّا، اهتم بمسائل العبادات والمعاملات وحسب، بل كان إنسانًا عالمًا مطّلعًا على مسائل العصر بمختلف أنواعها

فينومينولوجيا الفاعل المعرفي: عناصر الخبرة الذاتية

في عالم العلوم الإنسانية، نعيش في الوقت الراهن ومنذ مدة خروجًا عن الأطر المنهجية ذات البعد الأحادي في دراسة الظواهر

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<