قراءة في كتاب “زاد المسير”
كتاب “زاد المسير” إصدار ثالث من سلسلة الأعمال الكاملة لآية الله الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله) الصادرة عن دار المعارف الحكميّة – بيروت سنة 2018م. يقع في 612 صفحة مقسّمة على تسعة وثلاثين درسًا في شرح وبيان المواعظ البليغة التي ألقاها رسول الله (ص) على مسمع الصحابي الجليل أبي ذرّ الغفاري، تمّ تحقيقها وتدوينها بقلم السيد كريم السبحاني، وترجمها السيّد عباس نور الدين.
هذه الوصية ذكرها العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، والشيخ الطوسي في كتابَيه مكارم الأخلاق والأمالي. والجدير بالذكر أنّ أبا ذر صحابي جليل مقرّب من رسول الله (ص)، وما يؤكّد ذلك قول محمّد (ص) حين طلب منه أبو ذرّ الوصية “نعم وأكرِم بك يا أبا ذرّ إنّك منّا أهل البيت”[1].
والوصية هنا بمعنى الموعظة والنصيحة لا بمعنى الوصية حين تحضر الوفاة. وما يصدر عن المعصوم بشكل عام هو دستور للحياة يضمن لسالكه النجاة في الدنيا والآخرة.
بدأ رسول الله (ص) وصيّته لأبي ذرّ بالتركيز على الأساس الأوّل الذي على كلّ فرد أن يتّكل عليه في مسيرته الحياتيّة منذ ولادته حتّى انتقاله إلى عالم الآخرة فيقول: “يا أبا ذرّ اعبد الله كأنّك تراه فإن كنت لا تراه فإنّه يراك”[2]. إذ إنّ أهمّ طريق لبلوغ مقام حضور الحقّ هو أن يدرك الإنسان أنّه دومًا في محضر الله، فإذا أنس بحضور معشوقه، ازداد عطشًا ولذة بالعبادة التي هي وسيلة للتكامل والترقّي.
وإذا كانت عبادة الله الحقيقيّة هي وحدها طريق الوصول إلى الكمال، فإنّ معرفته تعالى هي أوّل مراحل العبوديّة. والمعرفة مراتب لا تتمّ إلّا باقترانها بمحبّة أهل البيت (ع) التي شبّههم رسول الله بسفينة نوح من ركبها نجا، ومن رغب عنها غرق[3].
ثمّ بعد ذلك عدّد رسول الله (ص) النعم التي أعطاها الله سبحانه وتعالى للإنسان، وأشار الشيخ اليزدي لمرحلة الشباب التي يتمتّع فيها المرء بصحّة البدن، والقابليّات العالية لتقبّل العلوم، والإرادة والعزيمة لدفع الرذائل الأخلاقيّة، وامتلاك الملكات الفاضلة، على عكس مرحلة الشيخوخة؛ مرحلة الوهن والضعف وصعوبة التغيير، وعدم القدرة على تبديل الروحيّات.
هذه النعم التي أعطانا إيّاها الله هي فرصة الحياة الدنيويّة في استخدامها من أجل التكامل والرقيّ، فيشير محمّد (ص) إلى ضرورة استغلال الفرص في وقتها واجتناب الآمال الطوال، فيقول: “يا أبا ذرّ إيّاك والتسويف بأملك”[4]. إذ إنّ طلب الراحة والكسل يعدّ صفة سيّئة بالنسبة إلى المؤمن والكافر على حدّ سواء، وإن كان له قبحٌ خاص عند المؤمن، بل يزداد قبحًا حين يصبح عادة لتأجيل وتأخير الأعمال[5].
هذه الدنيا هي محطّة يمرّ بها المرء وسيتركها ولو بعد حين، وتبقى الأصالة للآخرة، لذا عليه أن يعمرها بما هو خير، ويهدم شهواته بذكر الموت دون أن يميتها إذ ليس مطلوبًا أن لا تنطفي لأنّ هذه القوى ضروريّة، لكن بحدّها المعقول الذي لا يتعارض مع الشرع المقدّس.
كما لذكر الموت أثر بالغ في معرفة عواقب المعصية، وأهميّة العمر في الاستفادة منه بأداء الواجبات في وقتها وعدم إشغال البال بما لم يأتِ من مال وثروة وغيرها. والتعلّم واكتساب العلم من أعظم الأمور التي توصل الإنسان إلى معرفة الله ما لم تكن الغاية منه خداع الناس واستغلاله للوصول إلى المنزلة الاجتماعية الرفيعة؛ “يا أبا ذرّ من ابتغى العلم ليخدع الناس لم يجد ريح الجنّة. وإنّ شرّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة عالمٌ لا ينتفع بعلمه”[6]، وأفضل تلك العلوم هو الاهتمام بالمسائل الأخلاقيّة والاجتماعية، واقتران العلم بالعمل.
“يا أبا ذرّ دع ما لست منه في شيء، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن ورقك”[7]؛ يوصي النبي (ص) أبا ذرّ بالابتعاد عن اللغو والعبث، واجتناب الكلام الذي لا يفيد، وأن يسعى أيضًا قدر الإمكان حتّى في اجتناب الكلام المباح، والسيطرة على اللسان لأنّه مكمن الخطأ والغيبة والكذب والاستهزاء بالآخرين، فحفظ اللسان أهمّ من حفظ المال والذهب. وأن يستفيد منه في ذكر الله والصلاة التي يصفها محمّد بأنّها قرّة عينه، وطريقًا للتواصل مع المحبوب، ومفتاح السعادة والتوفيق. ولا يكون إدراك حلاوة العبادة إلّا بسرّ المدوامة عليها لتذوّق لذّتها واستشعار فائدتها.
“يا أبا ذرّ والذي نفس محمد بيده لو أنّ الدنيا كانت تعدل عند الله جناح بعوضة أو ذباب ما سقى الكافر منها شربة من ماء”[8]. فلو كانت هذه الدنيا ذات قيمة عند الله عزّ وجل لما جعل الكافر يسيطر عليها ويتنعّم بها، وهي عند الله حقيرة، ليست ذات قيمة بل هي مجرّد وسيلة اختبار وامتحان. وإنّ حبّ الدنيا بلاء يكاد يشملنا جميعًا، إلّا أنّ علينا أن نسعى للاستفادة منها بقدر ما يعيننا على طاعة الله، وبقدر ما يكون طريقًا موصلًا إلى الدار الآخرة.
ومن أجل هذه الغاية، على الإنسان أن يتفكّر في كلّ ما خلق الله، وفي عظمة مخلوقاته وفائدة النعم التي أعطاها، وحكمته تعالى اللامتناهية فيما خلق، حينها يدرك الإنسان شدّة ضعفه وحقيقة عجزه وحاجته المطلقة إلى خالقه، فينشدّ إليه ويحبّه ويعشقه ويبغي رضاه؛ “يا أبا ذرّ، ركعتان مقتصدتان في تفكّر خيرٌ من قيام ليلة والقلب ساه”[9].
وعلى أن يكون الإنسان على قدر من الوعي والبصيرة لمعرفة الحقّ من الباطل، لئلّا تشتبه عليه الأمور، فينصر الحقّ برغم ثقله “يا أبا ذر، الحقّ ثقيل مرّ والباطل خفيف حلو، وربّ شهوة ساعة تورث حزنًا طويلًا”[10]، لأنّ طريق الحقّ طويل يحتاج إلى مجاهدة وصبر وحكمة.
وختم (ص) وصيّته لأبي ذرّ بقوله: “يا أبا ذر؛ إنّ الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. يا أبا ذرّ؛ التقوى ها هنا التقوى ها هنا وأشار إلى صدره”[11]، لأنّ الصدر مكمن الأسرار، وموطن القلب الذي يحبّ ويكره وموقع النيّة والميول الباطنيّة، ولأنّ قيمة الإنسان في التفاته إلى الجهة الملكوتيّة والإلهيّة من وجوده. فإذا أحبّ بصدق وبنيّة صادقة كان عمله خالصًا ومقبولًا من الله.
يشكّل الكتاب الذي بين أيدينا دستورًا عامًّا للدارين الدنيا والآخرة. لم يترك محمّد (ص) في وصيّته لأبي ذرّ شيئًا من أمورهما لم يتطرّق إليه بتفاصيله، وكيفيّة التعاطي والتعامل مع كلّ مورد من مواردهما ليجتاز الإنسان دار ممرّ إلى دار مقرّ، من بداية تكوينه وفطرته وقابليّاته واستعداداته، وما يتعرّض له في مسيرة حياته وكيف يمكنه أن يجتاز امتحانات الدنيا بخير وعافية، فيحاسب نفسه قبل أن يصل إلى يوم العرض الأكبر. فيكفي الإنسان أن يتقي ربّه ويحفظ أمانة نفسه ودينه ومجتمعه لينجو.
فكمال الإنسان في أن يذوب مقابل الحقّ فيفنى ولا يرى لنفسه استقلالًا، بل يراها عين التعلّق والاحتياج إلى الله. وكلّما رأى نفسه أشدّ احتياجًا وأشدّ حقارة سوف يقترب من الله أكثر.
[1] زاد المسير، الصفحة 18.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 19.
[3] المصدر نفسه، الصفحة 24.
[4] زاد المسير، الصفحة 39.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 40.
[6] المصدر نفسه، الصفحة 59.
[7] المصدر نفسه، الصفحة 97.
[8] زاد المسير، الصفحة 175.
[9] المصدر نفسه، الصفحة 270.
[10] المصدر نفسه، الصفحة 275.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 597.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الأخلاقالسير والسلوكرسول الرحمةرسول اللهالموعظةالدنياالنصيحةالوصيةمحضر اللهالحق المقالات المرتبطة
سؤال الصورة في الإسلام
تنتشر الصور والنصب والتماثيل اليوم بكثرة في العالمين العربي والإسلامي، بخلاف ما عاينه الرحالة والمستشرقون في القرن التاسع عشر أبان
قراءة في كتاب “الموعظة الخالدة”
لم تكن الوصية صكًّا من معصوم لمعصوم يرثه في الخلافة وأمور المسلمين، بل كانت كتاب حياة يُخَطّ بماء من ذهب
علي زيتون يحاور أمبرتو إيكو
“ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده”، هو الكوجيتو الإيكوي الذي يفرّغ به الناقد الدكتور علي زيتون العنوان الأصليّ لكتابه