قراءة في كتاب “الإسلام المحمّدي”
يجيب كتاب الإسلام المحمّدي لمؤلّفه شفيق جرادي، والصادر عن دار المعارف الحكميّة – بيروت، الطبعة الأولى عام 2018م عن إشكاليّة هامّة شغلت الذهن في ظلّ تنوّع الثقافات، وهي: هل الإسلام واحدٌ أم إسلامويّات متعدّدة؟ وما هي الأسباب المؤدّية لهذا الاختلاف؟
يعود طرح هذا السؤال المركزي إلى فكرة قراءة الإسلام لا كدين له فاعليّة مجتمعية مؤسّسة على رؤية ومعتقدات وتشريعات وسلوكيّات، بل باعتبار هذا الدين ثقافة مجتمعات تنتمي إليه. وهذا الاعتبار قابل للتبدّل بحسب الزمن والجغرافيا، فقالوا بإسلامويّات، يتمايز كل إسلام منها بهويّة على مزاج هويّته الجغرافيّة. والحقيقة أنّ الإسلام واحدٌ يرتكز على دعامتي النصّ والعقل، وأنّ الاجتهاد العلمي المرتكز على هاتين الدعامتين هو أمر متاح، وأنّ الاختلاف إنّما يكون في دائرة محوريّة النص والعقل الكاشف للحقائق، وما سوى ذلك هو مجرّد أفكار لا صلة لها بالإسلام من حيث هو دين وحياني.
ويرجّح مؤلّف الكتاب أسباب ظهور إسلامويّات متعدّدة إلى:
-
استبدال الفقه الإسلامي بالثقافة في حركة إنتاج البلاغ والإبلاغ الرسالي، والذي أدّى إلى ظهور أمواج العلمنة والعصبيّة.
-
الارتكاز على التاريخ المذهبي كبديل عن قيم الهدي القرآني والسيرة النبويّة، والذي أوقع الحركات بالماضويّة السلفيّة.
-
تغييب نظام المعنويّات الإسلاميّة عن ساحة الجهاد اليومي للحياة. وهو نظام يقوم على التكامل بين الشريعة والأخلاق.
هذه الأمور تخطّاها نهج الإمام الخميني (قده) من أجل إنشاء نمط حياة إسلامي متكامل قائم على أصالة النصّ وحاكميّته على التاريخ، وقدرته على مواكبة تغيرات الزمان والمكان. هذا النهج التكاملي مبني على قيم العرفان الجهادي والتطوير الإنمائي لسبل الحياة الإنسانيّة المعنويّة.
يعرض الشيخ شفيق جرادي سبيل تشكيل الحكومة الإسلاميّة مستندًا إلى كتاب الحكومة الإسلاميّة للإمام الخميني (قده)، ويشير إلى اقتباس منه بالقول: “علينا أن نسعى بجدّ لتشكيل الحكومة الإسلاميّة، ونبدأ عملنا بالنشاط الدعائيّ ونتقدّم فيه. ففي كلّ العالم على مرّ العصور كانت الأفكار تتفاعل عند مجموعة من الأشخاص، ثمّ يكون تصميم وتخطيط، ثم بدء العمل ومحاولة لنشر هذه الأفكار وبثّها من أجل إقناع الآخرين تدريجيًّا، ثمّ يكون لهؤلاء نفوذ داخل الحكومة يغيّرها على النحو الذي تريده تلك الأفكار ويريد ذووها، أو يكون هجوم من الخارج لاقتلاع أسسها وإحلال حكومة قائمة على هذه الأفكار محلّها. والأفكار تبدأ صغيرة ثمّ تكبر، ثمّ يتجّمع من حولها الناس، ثمّ تكتسب القوّة، ثمّ تأخذ بيدها زمام الأمور. ولم تكن القوة – كما ترون – حليفة الأفكار من أول يوم، وفي هذا كلّه ينبغي أن تتخذ من الشعب بكلّ قواه قاعدة رصينة يتركّز عليها ويركن إليها مع العمل الدائب على التوعية الجماهيريّة من أجل فضح خطط الإجرام، وكشف الانحراف الموجود لدى السلطات الوقتيّة، ويتمّ تدريجيًّا استقطاب الجماهير كلّ الجماهير، ويتمّ الوصول بعدها إلى الهدف”[1].
إنّ الهدف الأساسي من تشكيل الحكومة الإسلاميّة هو إقامة حكم الله على الأرض. هذا الحكم أو النهج هو النهج المحمّدي الأصيل الذي أرساه الإمام الخميني (قده)، ووثّق الإمام الخامنئي بنيانه، وقدّم له السيد حسن نصر الله نموذجه الرائد في بلد كلبنان.
النهج الذي لا تنفصل فيه الدنيا عن الاهتمام بالآخرة. إسلام محمّدي لا يتحجّر ولا يقع بالشطط الحداثوي والعلماني. إسلام يحفظ نظامه النظري والعملي في آنٍ واحد[2]. ولأجل هذه الغاية الكبرى، كان لا بدّ من أن يكون لهذه المسيرة قائد يتّصف بمواصفات معيّنة يتمكّن من قيادة هذه الأمّة. ومن هذه الميزات: ارتباط المعنويّة الإيمانيّة بالمعنويّات الأخلاقيّة، الهيبة القياديّة، القدرة على استنهاض النفوس، عدم محدوديّة الهدف، الذوبان في الإرادة الإلهيّة والتكليف الشرعي، الحالة المعنويّة والارتباط بالله، الصبر والتحكّم بالنفس والعزيمة. وهو ما كان يتمتّع به الإمام الخميني (قده) الذي قاد الثورة ضد الاستكبار العالمي، ونجح في إرساء هذه القدرة، واستطاع أن يعيد للأمّة الأمل في الخلاص من الزمرة الفاسدة.
وأكمل الإمام الخامنئي هذا الدرب العتيد للثورة الإسلاميّة، وقدّم أصولًا للنهج المحمّدي يجتمع فيه الأصل المعنوي والعقلائي والعدالة، عرضها الشيخ جرادي ضمن أبعاد خمسة مستقاة من كلمات وخطابات الخامنئي (حفظه الله).
يتمثّل البعد الأول في الأصالة الإسلاميّة، أي الاستناد في معرفة الإسلام والتزامه على الأصول البانية لهذا الدين، سواء منها القرآن، أو السنة الشريفة، أو العقل، وما تبانى عليه علماء الأمّة في اجتهاداتهم العلميّة.
أمّا البعد الثاني، فيتمثّل في المرتكزات المعنويّة في النهج المحمّدي الأصيل، وأساس تلك المرتكزات هو التقوى بأبعادها الفرديّة والسياسيّة، والتي “هي تكاليف دينيّة ومراعاتها تؤدّي إلى التحلّي بالتقوى الدينيّة. إذًا فهذه هي التقوى؛ التقوى الدينيّة، والتقوى السياسيّة تنضوي تحت لوائها، فلو تحقّقت التقوى الدينيّة، ستتحقّق التقوى السياسيّة إلى جانبها أيضًا. والتقوى السياسيّة تعني ابتعاد المرء عن المزالق التي يستطيع العدوّ استغلالها”[3].
ولا بدّ من الإشارة إلى الهمّ الثقافي الذي يحمله الإمام الخامنئي، إذ يعدّ هذه الجبهة من أعقد الأمور وأهمّها، لأنّ الثقافة “هي هويّة أي شعب. والقيم الثقافيّة هي روح الشعب ومعناه الحقيقي”[4]. وبها – أي الثقافة – يندفع الإنسان للعمل. لذا، وجب علينا أن ننشر الثقافة الإسلاميّة وقيمها الأخلاقيّة والاجتماعيّة من أجل بناء مجتمع توحيدي سليم.
وفي البعد الثالث والرابع، يشير الكاتب إلى الرؤية التوحيديّة وعلاقتها بشؤون الحياة والسياسة، والجهاد والانتظام العام، والبصيرة في معرفة العدو وتحديد سبل مواجهته. وفي البصيرة محذورات كثيرة، يصفها الإمام (حفظه الله) بأنّها “هذه الكلمة سهلة، لكنّها في العمل على قدر كبير من الصعوبة، بحيث إن أكثر الناس يسقطون ويتخلّفون بعد خطوتين”[5]. فيجب على الإنسان أن يتحرّى خطواته، ويتمرّن على قدرة تحديد الوضع والهدف، والمسار الموصل إليه بشكل واضح لا لبس فيه.
كما ويولي الخامنئي (حفظه الله) أهميّة لمشاركة الأمّة في الحكم في البعد الخامس وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وهو ما أسماها السيادة الشعبية الدينيّة. وهي طرحٌ إسلامي يهدف إلى يقظة الشعوب بقيم الاقتدار وقيم المعنويّة الإلهيّة في قبال مركزيّة التسلّط على الاجتماع الإنساني القائمة على تسلّط الدولة المركزيّة.
في الحكومة الإسلاميّة، لا مكان لتسلّط القويّ على الضعيف، ولا لاستبداد منطق العنف والقوّة على نداء التوحيد والتحرّر. في السيادة الشعبيّة الدينيّة أصولٌ لا يمكن للحاكم أن يتفلّت منها. فالحاكميّة المطلقة لله الواحد القهّار على الوجود والحياة، والوليّ فيه جندٌ من جنود لله، موكلٌ بخدمة الآخرين، لا التسلّط عليهم بمنطق القوّة والعظمة، والأصالة فيها أيضًا للشريعة الإسلاميّة السمحاء في بناء مؤسّسة الإدارة والحكم، ومراعاة الحقوق الشعبيّة التي أولاها الله للناس.
[1] الإسلام المحمّدي، الصفحة 23.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 50.
[3] المصدر نفسه، الصفحة 113.
[4] الإسلام المحمّدي، الصفحة 126.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 163.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الاسلام المحمديالامام الخمينيالسيادة الشعبيّة الدينيّةالحكومة الإسلاميةالحكومة المهدويةالامام الخامنئيالاسلام المقالات المرتبطة
“حوار الحضارات وصدامها” للمؤلّف سيّد صادق حقيقت
المقدّمة: بين أيدينا كتاب حوار الحضارات وصدامها كتبه باللغة الفارسيّة “سيّد صادق حقيقت” عرّبه السيّد عليّ الموسوي. طبع “بدار الهادي
“الدين في التصوّرات الإسلاميّة والمسيحيّة”
يعتبر البحث في موضوع الدين وعلاقته بالحياة، بالفرد وبالمجتمع، مـن أهم الموضوعات وأكثرها دقـة وحساسية، وجمالًا، سيمـا إذا كان الباحث
قراءة في كتاب: “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء”
هذا الكتاب وبالرغم من صغر حجمه، إلّا أنّه يفيض بعمق الإشكاليّة وعمق المعالجة التي تحتضن مشروعًا فكريًّا خاصًّا طرحه الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) مبنيًّا على أساسين: محوريّة الإنسان، والولاية.