أيُّ “إسلامٍ”؟ استكشافُ المعاني الكثيرة للكلمة
يسألُني النّاسُ كثيرًا عما يقولُه الإسلامُ عن هذا الأمر أو ذاك. عادةً ما أسألُهُم عن مقصدِهم بكلمةِ “إسلام”. ليسَ لدى الكثيرِ من النّاسِ أكثرَ من مجرّدِ فكرةٍ غامضةٍ عمّا يمكنُ أن تعنيه هذهِ الكلمة، ناهيكَ عن المعاني المتنوعةِ التي نُسبَت إليها عبرَ التاريخ.
من الواضحِ إلى حدٍ ما أنَّ النّاسَ يفكّرون ضمن دائرة حدودهم الخاصة. كلما كانَ المفهومُ أكثرَ عموميةً، تنوّع فهمهم بشكل أكبر. وينطبق مثل هذا الأمر على مفاهيمٌ مثلَ “الله”، وكذا كلماتٌ أخرى مثل “الدين”، أو أسماءِ الأديانِ المحدّدة. هناكَ الكثيرُ من “المسيحيينَ” بقدرِ ما يوجدُ من يفكّرُ فيها ويتحدثُ عنها. وكذا الحالُ مع “الإسلام”. يستخدمُ كلٌّ من المسلمينَ وغيرِ المسلمينَ الكلمةَ باستمرارٍ مع أخذ أجنداتهم الخاصةِ في الاعتبارِ وبدونِ أي إشارةٍ إلى معنَاها في القرآنِ، أو في الكتابِ المقدسِ أو في التراث الأخير.
سمعَ معظم الناس أنَّ “الإسلامَ” يعني حرفيًّا التسليَمَ، والاستسلامَ، وتسليمَ المرء نفسِه. ومن الممكن أنّهم سمعوا أنَّ جذرَ الكلمةِ هو”سلام” ومعناهُ السلمُ، وانعدامُ الفتنةِ، وغيابُ الصراعِ. “السلامُ” هو أحدُ أسماءِ الله في القرآن. بتسليمِ الشخصِ نفسه للسلامِ الحقيقيِّ ألا وهو الله، يمكنُ للمرءِ أن ينجو من النزاعِ والصراع ِوالحربِ وعدم الانسجامِ وهي صفاتٌ لكلَّ شيءٍ ما عدا الله.
عندما نتكلّم عن السلام في العالم أو في حياتنا، نعني بذلك تحقيق شيءٍ من الانسجام بين القوى المتضاربة والمتعارضة. تؤثّر هذه القوى بالضرورة على كل ما هو محدّد ومحدود، وليس أقلّه على الذات البشرية. الله وحده بمنأى عن التأثير الخارجي، وهذا يعني أنه وحده هو السلام الحقيقي. كل شيء آخر يتم دفعه من عدة اتجاهات، لذا إذا أردنا تحقيق السلام فنحن بحاجة باستمرارٍ إلى إجراء تعديلات متواصلة. هذا صحيح سواءً كنا نتكلم عن راحة البال، أو السلام في المجتمع، أو السلام بين الأمم.
يستخدمُ القرآنُ كلمةَ “إسلام” ومشتقاتِها مثل كلمةِ مسلمٍ (الإنسانُ الذي يتّصف بالإسلام) حوالي الثمانينَ مرة. يمكنُ تفسيرُ عددٍ قليلٍ من هذه الحالاتِ على أنها تسمياتٌ للدينِ الذي كانَ القرآنُ والنبيُّ في طورِ تأسيسِه. أشارَ المؤرخونَ إلى أنَّ الكلمةَ وبشكلٍ تدريجيٍّ فقط أصبحَت تستخدمُ كتسميةٍ متعارفة للدين، وهي عمليةٌ ازدادَت بشكلٍ كبيرٍ في العصرِ الحديث. مبكرًا في التاريخ، على سبيلِ المثال، كانَ من الشائعِ التحدثُ ببساطةٍ عن “الدين”.
على مدارِ التاريخِ، أنتجَت الظاهرةُ التاريخيةُ التي ندعوها الإسلام أشكالًا محلّيةً كثيرة. ما يربطُ الأشكالَ ببعضِها البعض ليس أي تنظيم مؤسّساتي أو طبقةٍ كهنوتيةٍ، بل التركيزُ على القرآنِ والنبيِّ كمصادرَ للتعاليمِ والممارساتِ والاتساقِ النسبيِّ في إحياءِ الشعائر. وبالتالي فالصلواتُ اليوميةُ في نيجيريا هي عمليًّا نفسُها تلكَ التي تؤدّى في بكين.
عندما نتحدثُ عن القرآن يجبُ أن نأخذَ بالاعتبارِ أنَّ المسلمينَ يقرأونَ القرآنَ دائمًا على أنَه كلامُ الله، وتعبيرُه عن نفسِه، وشرحُه الخاص عن من يكونُ هو وما يتوقعُه من الناس. وعلينا أن نتذكرَ دائمًا أنَهُ من سماتِ القرآنِ والفكرِ الإسلاميِّ ما قبل الحداثوي بشكلٍ عامٍ البدءُ بالله والتعاملُ مع العالمِ فقط بما هو معروفٌ عن الله.
أبسطُ ما يعرفُ عن الله هو أنَّه واحدٌ رغمَ تعدّدِ أسمائِه سواءً في القرآنِ أو في نصوص مقدّسةٍ أخرى. عندما يسمّي القرآنُ الله بأسمائِه: الحي، أو العليم، أو القادر، أو القوي، أو المجيب، أو الكريم، أو العادل، أو الرحيم، أو اللّطيف، أو المنتقم، أو الغفور، يُفهم أنَّ الأسماءَ تختلفُ وفقًا للعلاقة بين الله الواحدُ وبالتنوع ِاللامتناهي للحقائق المخلوقة. ما نسمّيهِ “الحقائق” هو في الواقعِ مجموعُ الظواهرِ التي تُظهرُ أسماءَ الله وصفاتِه.
عندما نبدأُ بمفهومِ الإسلامِ على أنَّه المصدرُ لكلِ الحقائقِ الأخرى يسهلُ علينا فهمُ سبب استخدام القرآنِ في بعضِ الأحيانِ كلمةَ “إسلام” لتعيينِ التسليمِ الجبريِّ الشامل لكلِّ شيءٍ في الكونِ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن ْفِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾[1]. هذا التسليمُ ليسَ لهُ علاقةٌ بالإرادةِ الحرّة، بل إنها حقيقةُ وجودٍ نواجهُها جميعًا في حياتِنا اليومية.
مهما كانتِ “الحريةُ” فهي مقيّدةٌ بشكلٍ كبيرٍ بالواقعٍ الحقيقيٍّ للتجاربِ في الحياة. الكثيرُ من العلماءِ، ومنهم كثيرونَ من علماءِ الاجتماع، قد ذهبوا بعيدًا حتى قالوا إنّ الحريّةَ هي محضُ وهمٍ، وبتعبيرٍ آخرَ لا يمكنُ الحديث عن شيءٍ مثلَ التسليمِ”الاختياريِّ”. نحنُ نسلّمِ للأشياءِ على ما هي عليه سواءً أردنا ذلكَ أم لا. هذا بدقّة ما تعنيه كلمةُ إسلام بمعنَاها القرآنيِّ الأبسطِ شرطَ أن المخفيَّ وراءَ “ما هي الأمورُ عليه” هو الله الواحدُ الرحيم.
إذا كانَت كلمةُ “الإسلام” في القرآنِ تعني تسليمِ المخلوقاتِ الجبريِّ لخالقِها فهذا يعني أن معظمُ الكتابِ هو كلامٌ فارغٌ؛ إذ تعاليمُه تفترضُ مسبقًا حريةَ الإنسان. إنَّه يخاطب إلى الإدراكِ البشريِّ الغريزيِّ الذي يحكم بأنَنا بحاجةٍ إلى التوجيه أو “التعليم”، إذا صح القول. لا نملكُ بنفسنَا المصادرَ لفهمِ ماهية الأشياءُ، أو لأن نعيشُ بانسجامٍ مع أنفسنَا ومع الآخرينَ ومع العالمِ بأسره. كلٌ من الكتبِ المقدّسةِ بشكلٍ عامٍ، والقرآن بشكلٍ خاصٍ يخاطبُون النّاسَ على أنَّهم كائناتٌ حرةٌ (نسبيًّا) لديها القدرةُ على اتخاذِ خياراتٍ لها تداعياتٌ كبيرةٌ على حياتِهم ومجتمعاتِهم وصيرورتِهم بعدَ وفاتهم.
باختصار المعنى القرآنيِّ الثاني والأكثرَ شيوعًا لكلمةِ إسلام هو التسليمُ الاختياريُّ لإرشادِ الله. يأتي هذا الإرشادُ على شكلِ وحيٍ يوحى “للأنبياءِ”، وهم، بتعريفِهم، الذينَ عيّنَهُم الله لإيصالِ تعليماتِه إلى البشر. ويخبرُ عبرَهم الله الناسَ كيفَ يرقون إلى مستوى إنسانيتِهم، وكيفَ يحقّقونَ السعادةَ والرضا المطلقَين. ولكي يكون لهذا التوجيهِ أيُّ تأثيرٍ على حياةِ الناس، يجبُ عليهِم قبولَه بحرية. كما قالَ القرآن: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[2].
كانَ أولُ نبيٍّ وأولُ مسلمٍ باختيارِه آدم أبُ البشرِ، وهذه نقطةٌ مهمّةٌ يختلفُ فيها الفهمُ الإسلاميُّ للطبيعةِ البشريةِ عن الفهم المسيحي. يتحدّثُ القرآنُ عن آدمَ وإبراهيمَ وغيرهم من أنبياء التوراة، وكذلكَ الحواريّون، كمسلمينَ؛ أي الأشخاصُ الذين سلّموا باختيارِهم لهدى الله واتبعوا تعليماتِه بسعادة. بالمناسبة لاحظ أنَّهم كانوا مسلمينَ من ناحيتَين: كانوا مسلمينَ مجبرينَ مثل أي شيءٍ في الكونِ، وكانوا مسلمينَ اختياريينَ بقدرِ ما قبلوا دورَهم كمخلوقاتِ الله التي وُجدَت في العالمِ لأسبابٍ معينة.
إحدى الطرقِ لفهمِ هذه الأسبابِ هي تذكّر قصةِ الرّوميِّ عن المحيطِ والأسماكِ التي رميتَ على اليابسة. جميعُ الأسماكِ – ناهيكَ عن اليابسةِ نفسِها- هم مسلمونَ مجبرون. بعضُ الأسماكِ هي أيضًا مسلمة اختيارًا لأنَها فهمت أنَّها أسماكٌ، وأنّ عليها التسليمَ لإرشادِ المحيطِ من أجلِ الوصولِ إلى منزلِهم.
[1] سورة آل عمران، الآية 83.
[2] سورة البقرة، الآية 256.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الحرّيّةاللهالاسم الأعظمالمسلمونالمسلمينالأسماء الحسنىالانسانيةالتسليمالظواهر الطبيعيةالقرآن الكريمالاسلام المقالات المرتبطة
قراءة في كتاب عالم المثال في الفلسفة الإسلامية: ابن سينا، والسهروردي، والشهرزوري وآخرين
هذا كتاب ممتاز من جميع الجوانب، يندرج ضمن سلسلة تبدو مثيرة للاهتمام للغاية. يتبع فان ليت في الأساس فكرة للسهروردي في حكمة الإشراق حيث يتحدث فيه عما يسميه بالمثل المعلقة، كما يطور نظرية جديدة تمامًا في الوجود والمعرفة.
“صدور الكثرة عن الواحد” بين الحكمة المتعالية والمدرسة الإشراقيّة
أثبت الفلاسفة المسلمون عددًا كبيرًا من القواعد والمبادئ المتّصلة بالمناقشات الكوزمولوجيّة التي حاولوا من خلالها توضيح وتفسير حوادث العالم، والعلاقات بين الموجودات، وتحليل الروابط بين عوالم الوجود المختلفة
الإيمان والمعرفة
أعتقد أنّ هناك تمييزًا بين العلم والمعرفة، فعلى الرغم من أنّنا نسمّي رجال الدين علماء، غالبًا ما يُظنّ أنّ المعرفة دينيّة، بينما العلم يختصّ بالعلوم الطبيعيّة والتجريبيّة.