قراءة في كتاب “الهواجس الثقافيّة في المشروع الحضاري المعاصر”
أوّلًا- الكتاب في سطور
عنوان الكتاب: الهواجس الثقافيّة في المشروع الحضاري المعاصر
اسم المؤلّف: الإمام الخامنئي (حفظه الله)
اسم المترجم: علي الحاج حسن
مراجعة ترجمة: عباس نور الدين وعزّة فرحات
دار النشر: دار المعارف الحكميّة
الطبعة: الثانية
تاريخ النشر: 2015م – 1436هـ
عدد الصفحات: 561 صفحة
مكان النشر: بيروت
ثانيًا- قراءة في الكتاب
الكتاب عبارة عن مقدّمة لسماحة الشيخ شفيق جرادي في الانهمام الثقافي ومشروع بناء حضارة الوعي عند الإمام الخامنئي (حفظه الله)، ومتن الخطبة الرئيسيّة للإمام (حفظه الله) التي ارتكز عليها الكتاب، وتسعة فصول في شرح الخطبة، مضافًا إلى ملحقين: الأول في رؤية الإمام الخامنئي للعلوم الإنسانيّة، والثاني إضاءات على أهمّ المصطلحات الواردة في الكتاب.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكتاب من جمع وتنظيم مركز صهبا في إيران الذي أشار في كلمته في بداية الكتاب إلى المنهج الذي اعتمده في إنتاج هذا العمل عبر مزج النصّ الأساس ونصوص خطابات أخرى شكّلت بمجموعها نصًّا جديدًا يُطلق عليه الشرح التركيبي أو المزجي.
يعود النصّ الأساس إلى لقاء جرى بتاريخ 22/4/1373ه. ش بين الإمام (حفظه الله) ومجموعة من المثقفين الثوريّين، وبعض المسؤولين الذين يعملون في الشأن الثقافي وبعض المثقّفين المستقلّين. ويمكن اعتبار هذا الخطاب وثيقة أرادها الخامنئي (حفظه الله) أن تخطّ سلوكًا ثقافيًّا ضروريًّا في التعامل مع الأحداث، أو ما يسمّيها بالحرب الناعمة.
هذه الحرب التي وجد فيها خطرًا محدقًا يتجاوز في همّها الحرب العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة. حربٌ تفوق حساسيّتها كلّ الميادين، لذا حثّ الجميع على توقّي الحذر من مخاطرها، والالتفات إليها وإعداد العدّة اللازمة لمواجهتها في كافّة الصعد.
ويشير الشيخ جرادي في مقدّمته إلى أنّ الثقافة في فكر الإمام الخامنئي (حفظه الله) همّ رساليّ مبني على إيمان قائدي وقيمي وشرعي، كما أنّه مبني على معرفة بأحوال المجتمع في مصالحه وصداقاته وخصوماته، وهو مبني أيضًا على تجربة تولّد أحاسيس وتحيّزات خاصّة في المواقف تجاه الأمور والمفاهيم والقيم والأوضاع[1].
والثقافة عند الخامنئي هويّة أمّة، ومشروع رسالة للعالمين، وبمقدار الإيمان بهذا المشروع الثقافي يمكن للأمّة أن تحفظ وجودها وخصائصها وحيثيّاتها. من هنا، كان انهمام الإمام (حفظه الله) بالثقافة انهمامًا غير عاديّ، قلقًا شديدًا بكلّ ما للكلمة من معنى؛ “هي من النوع الذي يؤرِّق صاحبه بحيث يوقظه في منتصف الليل ليتضرّع إلى الله تعالى”[2].
وبالرغم من هذه الهواجس التي يحملها قلبه، إلّا أنّه دائمًا يتطلّع بأمل إلى فئات المجتمع كافّة في مواجهتها، ومحاربتها بمضاعفة الجهد والإقدام والحركة.
هذا الخطاب يضع كلّ من كان حاضرًا، ومَن سيقرأه أمام مسؤولية كبرى؛ لأنّ ميدانها وساحتها أوسع بكثير من ساحات المواجهات التي نعرفها. هي ساحة التكليف الأعظم قبالة الجبهة الفكريّة التنويريّة التي تسعى جاهدة لحرف مسارات الحقّ بسلاسة ونعومة، وعلى الجميع أن يستشعروا هذا الخطر الداهم، ويسعوا إلى اكتشاف مكامن الضعف وأسبابه للسعي لمعالجة الثغرات قبل فوات الأوان.
ولا تخفى ثقافة الخامنئي (حفظه الله) في كلّ المسائل من خلال عرض مجموعة من الروايات التي يتأثر فيها الشباب، فعرضها عرضًا نقديًّا بيّن فيها ما يساهم في حرف مسار الفكر الشبابي، وانحلاله، وغيرها من النماذج الفنيّة والاقتصاديّة التسويقيّة حيث دعا إلى إيجاد نماذج إسلاميّة بديلة تربط المجتمعات بالعقيدة الإسلاميّة، وتوثّق عُرى الشباب بالثورة الإسلاميّة العظيمة التي قام بها الإمام الخميني العظيم. وهذا ما أسماه بالغزو الثقافي حيث لجأ العدو إلى الإعلام والفن والكتاب والقصص للتسلل إلى عقول وأعماق الشباب، والهجوم على الثقافة الثوريّة الإسلاميّة من خلال نقد الواقع الموجود للوصول إلى تشكيك العقول بالنظام الثوري.
تعرّض الفصل الأوّل من الكتاب لمعالجة وتوضيح الهموم الثقافيّة التي يحملها الإمام الخامنئي (حفظه الله)، والتي يوصّف القسم الأساس لها هو نفس عقائد فرد ما أو مجتمع وأخلاقيّاته بشقيّها الفردي والاجتماعي[3]. وهو لا يعني عدم بذل الجهد في سبيل تنمية أذهان الناس على المستوى السياسي، بل يعتبر هذا الأمر واجب الجميع، لكنّه بحدّ ذاته عمل ثقافي. فهو (حفظه الله) يردّ كلّ ما له علاقة بالوعي والبصيرة إلى الذهنيّة الثقافيّة التي يحملها كلّ فرد، يليها المجتمع. ولو دقّقنا النظر في الكثير من المشاكل التي تواجهنا في المجالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة لوجدناها تعود إلى المشاكل الثقافيّة[4].
وأُردف هذا الفصل بثلاثة فصول لإتمام البحث تحدّث حول تاريخ الحركة الثقافيّة في إيران بعد دخول الإسلام حتّى انتصار الثورة. عالج الفصل الثاني منشأ الثورة الإسلاميّة معرّجًا على الثورة الفرنسيّة الكبيرة، والثورة البلشفيّة، والثورة الجزائريّة التي كان منشؤها إسلاميًّا، لكنّها لم تستطع أن تحافظ على اللغة العربيّة، وليس فقط الدين الإسلامي. وما يميّز الثورة الإسلاميّة في إيران هو انطلاقها من الدوافع الإسلاميّة وثباتها على هذا النهج.
وعالج الفصل الثالث علاقة الثقافة والفن الإيراني بالثورة، ولفت الخامنئي (حفظه الله) إلى هذا الجانب المهم الذي يمكن أن يلج إلى القلوب والعقول بنحو سلس كما قُدِّم الإسلام عبر القرآن الكريم بلغة فنّية استثنائيّة تحدّت الأعراب في ذلك الحين وفي كلّ عصر ببلاغته. وأنّ الثقافة الغربيّة تبذل جهودًا كبيرة للدخول إلى البلاد الإسلاميّة، وقد استطاعت في بعض الأماكن أن تنفذ إلى عقول الشباب عبر السينما والمسرح أو التصوير والروايات وغيرها.
كما لفت في الفصل الرابع إلى خطورة الحركة التنويريّة الانحرافيّة التي ولدت في إيران مع خصلة الإلحاد واللامبالاة بالدين. هذه الحركة التي نشطت وسعت لتقديم نفسها كبديلٍ عن النظام الإسلامي، وسوّقت لنفسها من خلال حركات التحرر والديمقراطيّة المصطنعة. مع الإشارة إلى أنه (حفظه الله) لا يعارض الحركات الفكريّة التنويريّة ما لم تتعارض مع الدين والروحيّة التعبّدية[5].
وربط (حفظه الله) في الفصل الخامس بين الحركة التنويريّة والثورة، ودعا الفنّانين والكتّاب والشعراء والملحّنين والرسّامين إلى تحمّل مسؤوليّة التكليف الملتقى على عاتقهم في تقديم موادّ إسلاميّة راقية في خدمة الثورة[6]. وهذا له علاقة في رفع مستوى الوعي والبصيرة لدى الشعوب لأنّهم يستطيعون بأعمالهم أن يدخلوا إلى البيوت جميعها.
أمّا في الفصل السادس، فتحدّث (حفظه الله) عن التهديدات الداخليّة التي تتعرّض لها جبهة الثورة، وأهمّها الانصراف إلى الدنيا ومباهجها، فقد كان شعار الثورة بساطة العيش، فإذا ابتلي الخواصّ بالتكالب على الدنيا، فستظهر المشاكل، وعندما يشعر الفقراء والمستضعفون أنّ الخواصّ مشغولون بالدنيا وبأنفسهم وأقاربهم، سيفقدون إيمانهم، وسيحصل العدوّ وبسهولة على ما يريده بأيدينا نحن[7].
وفي الفصل السابع تفصيل في التهديدات الخارجيّة للثورة، والأساليب التي يتوسّلها العدوّ للنفوذ إلى الساحة الإسلاميّة عبر الغزو الثقافي الذي يختلف عن التبادل الثقافي الضروري للاستفادة في المجالات الاقتصاديّة والعلميّة وغيرها للتكامل. فالغزو الثقافي هو ممارسة تتسم بالهدوء وعدم إثارة الضجيج يسعى لتدمير الخلفيّة الدينيّة للأمّة وأخلاقها وإيمانها والقرآن والشهادة والجهاد.
وفي الفصل الثامن، يشير (حفظه الله) إلى أنّ الثورة تبدأ من الجبهة الثقافيّة، ومن العناصر الذاتيّة الداخليّة الموجودة في المجتمع من معالجة حالات الانحطاط والترهّل الثقافي عبر تربية القوى البشريّة، إذ إنّ صناعة الإنسان هي أكثر الأشياء أهميّة في أيّ ثورة[8]، وهو العمل الأساس والهام الذي من أجله بُعث الأنبياء. وهذا الأمر يجب أن يتمّ بأسلوب استدلالي جذّاب، لا على سبيل الحشو والتجميع بل بحذاقة ونباهة وتنظيم ذكيّ.
وختم (حفظه الله) في الفصل التاسع عرضًا للنتائج التي يمكن أن تصل إليها الحركة الثقافيّة التي تنطلق بالتوكّل على الله والقربى لوجهه الكريم. وأنّ الإخلاص في العمل في كلّ الاتجاهات تؤدّي إلى النتيجة المرجوّة؛ و”إنّ اللحظات التي يعيشها الإنسان لله، والصعوبات التي يتحمّلها في سبيله، والمسؤوليّة الثقيلة التي يحملها، والقلق الذي يساوره، والمحن التي يتقبّلها، هي أمور لا يمكن تعويضها بأيّ شيء آخر”[9].
إنّ الساحة الثقافية لا تقتصر على نحو معيّن فحسب، بل هي ساحة تفتح المجال للإبداع في المجالات كافّة، وعلى جميع الصعد، فلنسعَ جاهدين كي نقدّم الدين على نحوٍ من الجمال الذي يمكّن الآخرين أن ينجذبوا إليه، وكما قدّمه نبيّنا الكريم (صلّى الله عليه وآله)، ويبقى الشرط الوحيد الذي يعطي مفعولًا ونتيجة هو الصدق وإخلاص العمل لله وحده.
[1] الهواجس الثقافيّة في المشروع الحضاري المعاصر، الصفحة 22.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 40.
[3] المصدر نفسه، الصفحة 85.
[4] المصدر نفسه، الصفحة 91.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 161.
[6] المصدر نفسه، الصفحة 201.
[7] المصدر نفسه، الصفحة 224.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 281.
[9] المصدر نفسه، الصفحة 309.
المقالات المرتبطة
قراءة في كتاب “تكملة نهاية الحكمة” لكاتبه الشيخ علي أميني نجاد.
قراءة في كتاب “تكملة نهاية الحكمة” لكاتبه الشيخ علي أميني نجاد.
قراءة في كتاب “العروج إلى اللامتناهي”
فما هو العروج الذي أراده الكاتب؟ هل هو انفصال النفس عمّا هي عليه على نحو لاإرادي كما الموت؟ أم هو عبور واعٍ يتمكّن فيه السالك أن يلحظ ساعات الانتقال؟
قراءة في كتاب أصلح الناس وأفسدهم في نهج البلاغة
معيار المحبوبيّة عند الله هو الإيمان الثابت الذي لا يزول بعد مدّة حين تتغيّر الأحوال والظروف. وكلّما زادت مراتب إيمان الإنسان كان محبوبًا أكثر عند الله.