المفهوم الإسلامي للرحمة
يقول أحد معارفي، والذي شارك في الحوارات الأخيرة بين علماء الدين المسلمين والمسيحيين، مثل تلك التي تنظمها منظمة كلمة سواء A Common Word، إن إحدى أكبر المغالطات التي يعتقد بها علماء الدين المسيحيين هي أن الإسلام بالكاد يتحدث عن الحب، أو حتى لا يتحدث عنه مطلقًا.
إن إحدى الأسباب التي تعزى إليها المغالطة هذه، هي أن أوائل المستشرقين – أولئك الذين كانوا أول من درس الفكر الإسلامي في الغرب المعاصر- اعتبروا أن مدرسة الفكر التي تعرف بـ “علم الكلام” أدّت دورًا في الإسلام تمامًا كذلك الذي فعله “علم اللّاهوت” في المسيحية. في الواقع، يعتبر علم الكلام واحدًا من السّبل العديدة لمعرفة الله، لكنّه حتمًا ليس الأكثر تأثيرًا.
ارتبط علم الكلام بالفقهاء الإسلاميّين ارتباطًا وثيقًا، وبصورة نموذجية، صوّر الله على أنه المشّرع الأعلى. فعندما تحدّث علم الكلام عن الحبّ، زعم أن الله يحبّ البشر من خلال إصدار التّشريعات، وكذا يحبُّ البشر الله من خلال طاعته. وبالتالي، يكون مصير أولئك الذين يطيعونه الجنّة، وأولئك الذين يعصونه النّار. وعليه، فإن الله يتعامل مع البشر بصرامة من خلال مبدأ الثّواب والعقاب. بعيدًا كل البعد عن ما تحمله كلمة الحب من معنى طبيعي لها.
وعلى الرّغم من أنَّ المزيد من الدّراسات أدَّت دورًا أفضل بكثير في وصف المناهج الدّينيّة المتنوعة للفكر الإسلامي، كان لذلك أثر قليل نسبيًّا على الأحكام المسبقة التي تبنّاها علماء الدّين المسيحيين قبل أعوام في المدارس الدينية. وخير دليل على ذلك، البابا يوحنا بولس الثاني وإنجازاته الهائلة. إذ يقول في كتابه “العبور إلى الرجاء”: إن إله القرآن: “في النهاية، إله متعالٍ عن العالم، ذو جلال، لا “إلهنا معنا”، عمانوئيل”.
وبعد إلقاء نظرة سريعة على القرآن، يتساءل القارئ: إذا كان الله بهذا الجلال لماذا تبدأ إذًا كل سورة بعبارة الافتتاح، البسملة: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾. حتى في النّص القرآني نفسه تبدو الصفات والأسماء الإلهية المرتبطة بالرحمة واللطف أكثر شيوعًا من تلك المرتبطة بالعظمة والجلالة. تقول العديد من الآيات: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [1] سواء قبل أن يخلقك أو خلال إقامتك القصيرة في هذه الدنيا أو بعد موتك. هذه “المعية” الإلهية ترتبط بشدة بمفهوم الحب والرحمة.
تتضمن البسملة إسمين من أسماء الله، الرحمن “All-merciful” والرحيم .“Ever-merciful” ويشتق هذان الاسمان من كلمة “الرحمة”، التي تترجم إلى اللغة الإنجليزية بمعاني مختلفة مثل الرحمة “mercy”، والعطف “compassion”، والإحسان “benevolence”. والرحمة هي اسم مجرد مشتق من اسم الجماد: “الرحم”، وتتجلّى الرحمة تمامًا في سلوك الأم تجاه ثمرة رحمها. وعندما يقول الله في القرآن: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، [2] يعني أن رحمة الله تطال الكون بأكمله. وبالاستناد إلى هذا النوع من الآيات، وعلى مفهوم الرحمة بحد ذاته، اعتبر بعض علماء الدين أن عالم الطبيعة، أي الكون برمته، هو الرحم الإلهي.
تظهر العلاقة القوية بين الرحمة والأمومة بوضوح في أحاديث كثيرة للنبي (ص). على سبيل المثال، يقول النبي: “جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، به تعطف الوالدة على ولدها وترعى الدابة صغارها. فإذا كان يوم القيامة، أكمل الله هذا الجزء بالتسعة والتسعين الآخرين ليرحم بها عباده بعد موتهم في الجنة كانوا أو النار.” ومن ضمن النقاط الكثيرة المشار إليها في هذا الحديث، يبدو جليًّا التشديد على التوحيد، أي التأكيد على وحدانية الذات الإلهية، والتي تشكل ركيزة الفكر الإسلامي: ما نشهده من رحمة وعطف وحب ما هو إلا انعكاس باهت لجزء صغير من الرحمة الحقيقية.
وفي رواية أخرى، توقف الرسول في مخيم للبدو ليستريح، حيث كان هناك أم تخبز الخبز فوق النار ومعها صغيرها. انزلق الطفل وكاد يلامس النار، لكن الأم سحبته فورًا. عندها التفتت إلى الرسول وقالت له: “ألم تقل أن الله أرحم الرحمين؟” فأجابها: “نعم”، فقالت له: “ليس هنالك أي أم تلقي بولدها في النار”. التفت الرسول لدقائق وبكى، ثم قال: إن الله يضع في النار فقط أولئك الذين يرفضون الذهاب إلى مكان آخر.
وكميزة إلهية، لا تتطابق الرحمة مع الحب، لأن الحب يتطلب مبادلة: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [3]. في المقابل، نجد أن الرحمة من طرف واحد، أي أن الله رحيم بعباده، لا العكس. وعلى الناس أن يسعوا ليكونوا رحماء ولطفاء حتمًا، وهذا يعني أن يحبوا لجيرانهم ما يحبون لأنفسهم. والفشل في تحقيق هذا الأمر يؤدّي إلى عاقبة سيئة كما ورد مرارًا في القرآن في حق أولئك الذين يسيئون التصرف: “ولكن كانوا أنفسهم يظلمون”.
أمضى علماء الكلام التقليديين الكثير من الوقت في شرح الفوارق الخفية بين “الرحمن”، و”الرحيم”. عادة ما يقولون إن رحمة الرحمن عامة، أما رحمة الرحيم خاصة.
تبدأ الرحمة العامة من خلال منح الوجود. لا شيء يملك حقًا في وجوده الخاص أو فضائله الخاصة، كلها هدايا من الخالق. كل شيء غير الله، مهما كان يبدو واهيًا، يستمد حقيقته من الحقيقة الوحيدة الموجودة. نحن لا نُمنح الحياة والمعيشة بالصدفة، إنها تصلنا بفضل فعل الرحمن.
أما الرحمة الخاصة، فهي مقابل لأفعالنا. بعض الأشياء الجيدة تحدث معنا، لأننا في الأصل نسعى خلفها. مثلًا، إذا أردت أن تصبح لاعب كرة قدم أو عالمًا فيزيائيًّا، فطموحك بحدّ عينه هو هبة من الله، وأي قدرة تمتلكها هي هبة من الله أيضًا. لكن تحقيق الهدف مرتبط بالمجهود الذي تبذله أنت، كل أم ستخبرك بهذا الشيء؛ ما لم تكافح من أجل هدفك، لن تحققه.
إن رحمة الله الخاصة، ما هي إلا استجابة للجهد البشري، فهو يمنحك إياها بناء على الالتزام والعهد والحب الذي تبديه. فعندما يقول الله في القرآن: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[4]. يعني أنه لديه رحمة خاصة وحبًا خاصًا للذين يسعون إليه. الرحمة العامة تصل إلى الناس في جميع الأحوال، تمامًا مثل الأم التي لن تتوقف عن حب أولادها يومًا. أما الرحمة المخصوصة فهي غير مضمونة، لأن الأولاد قد يرفضون الاستفادة من وضعهم كبشر.
إن الهدف الأسمى للحب هو التغلّب على الفراق والهروب من العتمة والآلام التي تحدّد معاناتنا الوجودية والعبور إلى النور. أو أن تستفيد من الرحمة العامة التي تطال كل شيء، والسعيَ خلف الرحمة الخاصة، وهي المسار الذي بنته الهداية النبوية.
(تتوفر أفضل الإستبيانات حول المفاهيم الإسلامية والأمومة من قبل Sachiko Murata في كتاب: The Tao of Islam، وهو كتاب مرجعي عن العلاقات بين الجنسين في الفكر الإسلامي.)
[1] سورة النساء، الآية 57.
[2] سورة الأعراف، الآية 156.
[3] سورة المائدة، الآية 54.
[4] سورة البقرة، الآية 257.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الرسول الأكرمالاسلام المحمديالأمومةالرحمة الالهيةالجمادالحبّالاسلامالرسول الأعظمالرحمة المقالات المرتبطة
صناعة الإسلاموفوبيا: كيف يصنع اليمين أشخاصًا كارهين للمسلمين؟
على غرار ظاهرتَي معاداة السامية ورهاب الأجانب، تزدهر الإسلاموفوبيا في بيئة قومية مشحونة سياسيًّا تخدم أخبث العناصر في الطبيعة البشرية.
تأمّلات معنوية مختصرة حول الجائحة الحالية
يعاني الإنسان المعاصر من خطيئة الغرور، من الغطرسة. فلنأمل أن تعلّمنا الكارثة العالمية الحالية التغلّب على هذه الغطرسة، وأن نعيش بتواضع وتعاطف أكبر.
الفكر الإسلامي في العصور الوسطى: دراسات في النص والنقل والترجمة – تكريمًا لهانز دايبر
يمكن دائمًا التعويل على دراسات اللغة العربية وآدابها في العصور الوسطى للكشف عن النوادر والقواسم المشتركة في المنظور الثقافي للمجتمع.