قراءة في كتاب “العروج إلى اللامتناهي”
العروج إلى اللامتناهي هو عنوان كتاب من إصدار دار المعارف الحكميّة – بيروت، الطبعة الثانية عام 2019م، وتأليف الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي، وترجمة عباس نور الدين.
يلفتك عنوان هذا الكتاب الذي يحمل في دلالاته معانٍ مختلفة، تبحث في قاموس فكرك عن المعنى الحقيقي له. فترى أنّ العروج كلمة يستخدمها السالكون في رحلة مسيرهم نحو الحقّ تعالى. في العروج، رحلة تجرّدٍ للمادّة، ونقاءٍ يسمح للنفس أن تعبر دون قيد، أن تتخلّص من شوائب الدنيا تاركةً ما فيها نحو الملكوت، نحو اللامحدود واللامتناهي.
فما هو العروج الذي أراده الكاتب؟ هل هو انفصال النفس عمّا هي عليه على نحو لاإرادي كما الموت؟ أم هو عبور واعٍ يتمكّن فيه السالك أن يلحظ ساعات الانتقال؟
وإذا التفتنا إلى مؤلّف الكتاب، وهو العارف بالله، والسالك طريق الهدى، أمكن للقارئ أن يجعل خياله يغوص في رحلة الانتقال الإرادي من المتناهي إلى اللامتناهي والمطلق. لقد أمضى الشيخ اليزدي رحلة حياته في البحث عمّا يُبعده عن متعلّقات الخضوع لعالم المادّة الملوّث. رحل، وهو مشغول ينتقي من براثن تلك المادة الصمّاء بعض ما يعينه للتخلّص من آثارها، فكان عروجه إلى البارئ خاليًا من مُلكٍ ماديٍّ زائل، مفعمًا بما يقرّبه من المطلق الذي لا حدّ له ولا رسم.
والعروج الذي أراده الشيخ في الكتاب ليس هو الموت الطبيعي، بل إن صحّ، ربّما يكون الموت الاختياري الذي هو الانفصال الإرادي عن العالم السفلي نحو الملكوت الأعلى. عروج تتصل به الروح بمصدرها، هي الصلاة التي يحني فيها السالك رأسه للسجود، فيرمي ما يثقله من آثام نحو التراب، ويصعد نقيًّا نحو الله.
هي الصلاة قرّة عين رسول الله (ص)، أعظم ذكر يرفع حجاب السرّ عن البشر، يأخذه إلى عالم التجرّد المطلق حيث الصرافة والسماحة والرحمة تتجلّى في أبهى صورها، بعيدًا عن ضجيج ذلك العالم المتكثّر بالصور والأحداث. هي لحظة وصال المعشوق الحقيقي بالعاشق المشتاق. وفقط في هذه الجلسة، حين ينقطع الساجد عمّا حوله، يمكنه أن يلتقط فيوضات الإله حبة حبة، وقطعة قطعة، ينهل ولا يشبع لأنّ حبّ المجرّد يزيد العاشق ولهًا وعطشًا؛ ليغرف المزيد. وعندها فقط يشعر المحبّ بارتباطه الحقيقي بالله، ويمصداق ﴿ونفخت فيه من روحي﴾. كم جميل أن ينصهر المرء بمصدر خلقه ونعمه! كم جميل أن يلقي بذنوبه إلى الحضيض حين يسجد إلى بارئه، ويرتقي نحو اللامتناهي في رحلة سير لا تعرف الكلل والملل!
هذا الكتاب يحمل من كلمات وعبارات الشيخ اليزدي رحلة العبد في أثناء صلاته إلى الله، كيف يمكنه أن يحصّل حضور القلب فيها؛ لكي تؤدّي الهدف والغاية من هذا الفعل وكلّ حركة من حركاتها.
ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول. يحمل الفصل الأول عنوان “ضرورة التوجه القلبي إلى الله في الصلاة وكيفيّته”، ويشرح أهمية تحصيل التوجّه القلبي وكيفيته، من خلال أربع طرق وهي: التوجه إلى عظمة الله المطلقة، ولطفه تعالى، وعظمة استقباله سبحانه لعبده، كذلك التوسّل بأهل البيت عليهم السلام.
وفي الفصل الثاني، ينتقل الكاتب للحديث عن “وسائل تحصيل الإخلاص وقصد القربى في الصلاة”، وفيه يتحدّث الشيخ اليزدي عن موقعيّة الإخلاص في الصلاة باعتبارها طاعة لله وامتثالًا لأوامره وأنّ الرياء مفسدّ لها، ويشير بذلك إلى أنّ في الرياء ما هو خفيّ يدبّ دبيب النمل على صخرة صماء في ليلة ظلماء وينبغي للإنسان التنبّه منه.
أمّا الفصل الثالث، فخصص “في البحث عن روح الصلاة”، وأشار من خلاله سماحته إلى أنّ الصلاة الحقيقيّة معراج المؤمن، وطرح ثلاث خطوات لأجل الوصول إلى روح الصلاة وحقيقتها. واقترح طرقًا لتحقيق حضور القلب، وكيفية تحصيل حالة الخشوع في الصلاة وعوامل نشوئه، وتحدث عن الخشوع الذي هو نفي الإنيّة والأنانيّة، وهو يختلف عن الخوف والخشية؛ لأنّه شعور خاص بالانكسار والتفتّت والمذلّة التي تحصل للإنسان مقابل العزّة الإلهيّة، والتي تؤدّي في نهاية الأمر للوصول إلى محبّة الله ورسوخها في القلب عبر ملاحظة عظمة النعم الماديّة والمعنويّة.
كما كان “على عتبة المعشوق” عنوان الفصل الرابع الذي يفصّل في دور النيّة في ارتقاء الإنسان وسقوطه وفي أنواع النيّة، ويقترح خطوات عملية نحو تصحيح النوايا، وأنّ أعلى مراتب النيّة العالية أن يعبد الإنسان ربّه غير طامعٍ بجنّة ولا خائفٍ من جهنّم. كما أنّه تعرّض لنظرة عامّة إلى آذان الصلاة ومعاني الأذكار الواردة فيه.
وفي الفصل الخامس “الصلاة المقبولة وآثارها”، يذكر العلّامة شرائط قبول الصلاة وآثارها على الفرد العبد في الدنيا والآخرة.
وختم كتابه بسؤال طالما طرحناه على أنفسنا، وهو لماذا رغم أنّنا نصلّي، لا نشاهد آثارها في وجودنا؟ لماذا لا نشعر مرّة واحدة بأنّ صلاتنا أصبحت معراجًا لنا؟ أو أنّنا نعرج بها؟ ولماذا ما زلنا نرتكب الأعمال القبيحة؟ وجوابه هو أنّنا نحن حقيقة لا نصلّي[1]. نحن نقوم فقط بصورة الصلاة الظاهريّة من أداء الأفعال والحركات؛ لكي يسقط عنّا التكليف.
فتكرار الصلاة بظاهرها من الألفاظ والحركات ليست صلاة العروج، ولو كنّا نصلّي صلاة حقيقيّة لكنّا سنرى حتمًا آثارها وبركاتها سواء في دار الدنيا أو على صعيد الارتقاء والتكامل المعنوي والروحي.
[1] العروج إلى اللامتناهي، الصفحة 138.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الفلسفةالشيخ اليزديالعابدالعرفانالسير والسلوكالعارفالعروجزاد السالكالعبد المقالات المرتبطة
قانون الحرب في الإسلام: علله وأحكامه
إن عمل الداوودي هو مساهمة مرحب بها في البحث العلمي حول موضوع الإسلام والتنظيم الحضاري للقوة المسلحة. ويستحق كتابه هذا أن يُقرأ ويناقش على نطاق واسع.
المثقّف والهروب من الالتزام في رواية “سمرقند” لأمين معلوف
تشكّل شخصيّة عمر الخيّام في رواية “سمرقند” أنموذجًا تجتمع فيه صفات المثقّف الذي نجده في كلّ روايات أمين معلوف، المثقّف الذي يحمل الخصال المضادّة للبطولة. يطلق عليه الناقد جورج لوكاتش
الرؤية الإسلامية لأوروبا
لقد أضافت الثورة الفرنسية، في عرف زيادة، ملمحًا جديدًا إلى صورة أوروبا: النظام السياسي المستند إلى مبدأ “الحرية” ومفهوم “الجمهورية” كتعبير عن إرادة الشعب.