اعلموا أني فاطمة…
ما أبلغ هذه العبارة (اعلموا أني فاطمة) التي تختصر كل مراتب الكمال الإلهي، وتعكس كل الصفات الجلالية والجمالية في تعريف فيه ما فيه من أسرار قلّ نظيرها.
إن حياة الصديقة الزهراء (ع)- من ولادتها إلى استشهادها- كانت في أسمى درجات العز والشرف، وكل أفعالها وأقوالها وخطواتها في كل ساعاتها ولحظاتها مشاعل نور ونفحات سرور في ظلمات هذا الكون، بل كل آناتها معاجز لا يدرك ولا يوصف بالعقول البشرية.
فهي التي أوقاتها بذكر الله تعالى معمورة، فكانت المصداق الأكمل للآية الكريمة:
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَمًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَطِلاً سُبْحَنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [1].
ويكفي شهادة الإمام الحسن المجتبى بحقها، رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء فقلت لها: يا أماه! لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك. فقالت: يا بني! الجار ثم الدار[2].
وهي التي على معرفتها دارت القرون الأولى [3] وقد عرّف الله تعالى مقامها الأعظم لكل الأنبياء (ع) عبر التاريخ، فهي ضمنَ الخمسة الذين كانت أنوارُهم مخلوقةً قبل الدنيا محدقةً حول العرش، وهي أنوارُ النبيِّ الكريم (ص) وعليٍّ، وفاطمة، والحسن، والحسين (ع) وكذلك الأئمة من ذرية الحسين (ع) فقد تظافرت الروايات في ذلك، وورد في بعضها أنَّ آدم (ع) كان قد استشفع بأسمائهم وكذلك الأنبياء، وإنَّما يستشفعون بشيءٍ يعرفونه لذلك كانت معرفتُها ممَّا دارت عليها القرونُ الأولى.
وكلما علا مقام الإنسان عند الله تعالى كان مقامه في قلب من عرف الله تعالى أعظم، ومن هنا كانت السيدة الزهراء (ع) مهجة الرسول (ص) وروحه التي بين جنبيه، وكانت روحي فداها معيار سخطه ورضاه، كيف لا، وهي التي يرضى الله لرضاها ويسخط لسخطها.
خطاب الرسول (ص) للزهراء (ع) عند احتضاره.
روى جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: دخلت فاطمة (ع) على رسول الله (ص) وهو في سكرات الموت، فانكبَّت عليه تبكي. ففتح عينيه وأفاق، ثم قال:
يا بنية، أنت المظلومة بعدي وأنت المستضعفة بعدي؛ فمن آذاك فقد آذاني، ومن غاظك فقد غاظني، ومن سرّك فقد سرني، ومن برّك فقد برّني، ومن جفاك فقد جفاني، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن أنصفك فقد أنصفني، ومن ظلمك فقد ظلمني، لأنك مني وأنا منك، وأنت بضعة مني، وروحي التي بين جنبَيَّ. ثم قال: إلى الله أشكو ظالميك من أمتي…
ثم يصف رسول الله (ص) ما سيجري عليها من بعده قائلًا:
وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحيَ التي بين جنبيَّ وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عز وجل لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى أَمَتي فاطمة سيدة نساء إمائي قائمة بين يديَّ ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد أمّنت شيعتها من النار؛ وإني لما رأيتها ذكرت ما يُصنَع بها بعدي؛ كأني بها وقد دخل الذل بيتها وانتُهِكت حرمتها، وغُصِبت حقها ومُنِعت إرثها وكُسِر جنبها وأُسقِطت جنينها، وهي تنادي: يا محمداه، فلا تُجاب، وتستغيث فلا تُغاث.
فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، تتذكَّر انقطاع الوحي عن بيتها مرة وتتذكَّر فراقي أخرى وتستوحش إذا جنَّها الليل لفَقْد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجَّدتُ بالقرآن. ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنِسُها الله تعالى ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، “إن الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين”؛ يا فاطمة، “اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين”.
ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض، فيبعث الله عز وجل إليها مريم بنت عمران تمرِّضها وتؤنسها في علتها. فتقول عند ذلك: يا رب، إني قد سئمت الحياة وتبرَّمت بأهل الدنيا، فألحقني بأبي. فيُلحقها الله عز وجل بي، فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي؛ فتقدم عليَّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة.
فأقول عند ذلك: اللهم العن من ظلمها وعاقِب من غصبها وذِلّ من أذلَّها وخلِّد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها. فتقول الملائكة عند ذلك: آمين.[4]
وصيّة السيدة الزهراء (ع) لأمير المؤمنين “ع”:
إنها ساعات الفراق، وكيف يصبر الحبيب على فراق حبيبه، إنها ساعات الولاء لسيد الأوصياء (ع)، يا علي تولى أمري وادفني سرًّا، لأحيي ذكرك جهرًّا؛ أي لتنصر عليّ جهرًا، ولتظهر حقّه (ع) علنًا.
قال الإمام الصادق (ع): إنّ فاطمة (ع) لمّا احتضرت أوصت عليًّا، فقالت: إذا أنا متّ فتولّ أنت غسلي وجهّزني، وصلّ عليّ وأنزلني قبري، وألحدني وسوّ التراب عليّ، واجلس عند رأسي قبالة وجهي، فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء فإنّها ساعة يحتاج الميّت فيها إلى اُنس الأحياء.
ثمّ أنّها (ع) أوصته (ع) أن يدفنها ليلًا وأن لا يحضر جنازتها أحد من الذين ظلموها، وأنكروا حقّها، وأن يخفي موضع قبرها.[5]
لقد هدفت الزهراء في تحرّكها إلى فرض القبول بها وبزوجها وبنيها تبعًا للأدلة القرآنية والأحاديث الثابتة لدى الخصوم كنماذج تخلّف الرسول في أداء الرسالة، وفي حماية استمراريتها، فسجلت الصدمة الأولى لمن ظلمها، ولا زال نداء الحق يصدع إلى يومنا هذا ليبقى السؤال لماذا دفنت بضعة الرسول (ص) سرًّا؟
وهذا علي (ع) قد أنجز الوصية، وفاض القلب شوقًا، فكانت الشكوى إلى حبيبه المصطفى (ص)، فبثّ إليه الشكوى وحوَّل وجهه إلى قبر رسول الله (ص) فقال:
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك والبائتة ببقيعك، المختار الله لها سرعة اللحاق بك. قلَّ يا رسول الله عن صفيَّتك صبري وضعف عن سيدة النساء (ع) تجلُّدي، إلا أن في التأسِّي لي بسنتك والحزن الذي حلَّ بي لفراقك موضع التعزِّي، ولقد وسَّدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري وغمّضتك بيدي وتولَّيت أمرك بنفسي. نعم، وفي كتاب الله أنعم القبول؛ إنا لله وإنا إليه راجعون.
قد استُرجِعَت الوديعة وأُخِذَت الرهينة واختُلِسَت الزهراء (ع)، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله.
أما حزني فسرمد وأما ليلي فمسهَّد، لا يبرح الحزن من قبلي أو يختار الله لي دارك التي فيها أنت مقيم؛ كَمَدٌ مُقيح، وهَمٌّ مهيج. سرعان ما فرَّق الله بيننا، وإلى الله أشكو. ستنبِّئك ابنتك بتظاهر أمتك عليَّ وعلى هضمها حقها؛ فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها، لم تجد إلى بثِّه سبيلًا، وستقول: ويَحكم الله وهو خير الحاكمين.[6]
[1] سورة آل عمران، الآية 191.
[2] المجلسي، بحار الآنوار، الجزء 43، الصفحة 81.
[3] الطوسي، الآمالي، الصفحة 668.
[4] الطبري، بشارة المصطفى (ص) لشيعة المرتضى، الصفحة 197.
[5] المجلسي، بحار الآنوار، الجزء 79، الصفحة 27.
[6] الدمعة الساكبة، الجزء 1، الصفحة 288.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
تسبيح السيدة الزهراءسيدة نساء العالمينأم أبيهافاطمةالسيدة فاطمةالزهراءالحوراء الإنسية المقالات المرتبطة
علم الوجود عند الملّا صدرا
المصطلح الأول كلمة «الوجود» في الفلسفة الإسلامية. مفهوم «الوجود» أمر ذهني يقف على الجهة المعاكسة لمفهوم «العدم».
الهوية من منظور فلسفة الأديان
نطرح مسألة الهوية (كإحدى مكونات شخصية أي شعب) أما استنادًا على مقياس إقليمي قومي