“جمال اتباع الهداية الإلهية”
الفكر الإسلامي يقسّم الجمال البشري إلى نوعينِ أساسيينِ: فطري ومحصّل.
إنّ الجمال الفطري هو التوازن المتّسق لجميع الصفات الإلهية الحاضرة في التركيبة البشرية، كالحياة والوعي والرغبة والقوة والكلام والرحمة والعدل والعطف. يمكن تسمية الجمال المحصَّل أيضًا “بالجمال المستعاد”، إذ إنّه ليس جمالًا جديدًا، بل هو ببساطة جمالٌ فطري أُظهِرَ إلى العلن. وعلى الرغمِ من أننا جميلون بالفطرة، إلّا أننا فقدنا صلتنا بأنفسنا.
إنها قصّةٌ قديمةٌ جدًّا، يعادُ سردها دومًا في حياتنا اليومية. ويعلم الجميع أننا خسرنا جمالنا. ومن الواضح جدًّا أن كثيرًا من النّاس يرفضون أخذ فكرةِ وجود أي شيءٍ من هذا القبيل بالاعتبار. ويجيبون “بكلا”، فالإنسان فاسدٌ حتّى النخاع، وعديم الرحمة، وفاقدٌ للروح، ومستغرقٌ في الأوهام الأنانية، وغير مبالٍ بمعاناة الآخرين. فأولئك الذين يتعاطفون مع هذا الجواب عليهم أن يتساءلوا، إذا كنا سيئينَ للغاية، فلماذا نشعر بالسوء لكوننا سيئين؟
يشرح القرآن بطرق متعدّدة أن النّاس لم يوفوا جمالهم حقّه. فكما ورد في سفر التكوين، تبدأ القصة مع آدم، ولكن ثمة اختلافات مهمة في الرواية القرآنية. فقال الله لآدم وحواء أن لا يقربا الشجرة، ولكنهما فعلا وأكلا الفاكهة لا لأنّ نواياهما أصبحت فاسدة، كما يحلو للاهوتيينَ المسيحيينَ القول، بل لأنّ آدم ﴿نَسِيَ﴾[1]ببساطة. لماذا نسيَ؟ (يأتي الجواب القرآني)[2] ﴿خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[3]، وكيف لشخصٍ ضعيفٍ أن يتحمّل عبء الصفات الإلهية؟ وما من أحد قوي إلا الله.
في هذا الجانب من الحكاية، وبحرص كحرص الأم، أرسل الله الأنبياء واحدًا تلو الآخر ليقي الإنسان من ضعفه. وبعددٍ أنبياءٍ بلغ 124000، كما هو مشهور، بات المفهوم واضحًا؛ إنّ النسيان مرضٌ متوطّنٌ لدى العرق البشري، على الرغم من أننا لسنا بحاجة للأرقام لندرك هذا. ومهمة الأنبياء هي أن يساعدوا النّاس في استعادة جمالهم الفطري.
يعلم الجميع أننا خسرناه، ولكن النّاس ليسوا متفقين على ماهيّته. وتملأ أوصاف الأمراض البشرية والوصفات للشفاء منها كتابات المؤرخينَ والفلاسفة والناقدينَ الاجتماعيينَ، ويقدّم هؤلاء مادةً خاميةً للأخبار اليومية والمحاورات، ويقودون حركات سياسية واجتماعية. فإذا كان الإنسان على ما يرام، فلماذا كل هذه الجلبة؟ “إذا لم يكن محطّمًا…”[4] ولكنّه كذلك.
يقدّم الناس وصفات الشفاء للمرض وفقًا لتشخيصهم الخاص. وفي السياق الإسلامي ثمة مقاربتان أساسيّتان، تركّز الأولى على السياق الاجتماعي، والأخرى على الطبيعة البشرية، ويمكن تسمية الأولى “بالعقلية الشرعية”، والثانية “بالمعنوية”.
إنّ المقاربة بعقليّة شرعيّة منهج الفقهاء المسلمينَ وحلفائهم من علماء الكلام. وهم يعتقدون أن المرض يكمن في عدم طاعة الإنسان ربّه، ويدّعون أننا نحن الآدميون قادرون على أن نصلح الأمور عبر طاعة الشريعة، التي يقصدون بها تعليمات القرآن والرسول فيما يتعلق بالفعل الصحيح وفقًا لفهمهم. وفي العصر الحديث، انضمت هذه المقاربة إلى أيديولوجيات متعدّدة كانت نتاجًا للفكر التنويري، وجميعها تهدف لتأسيس الفردوس على الأرض. كما وإنّ هذه المقاربة تكاد تطابق مقاربة الحكومات والمشرّعينَ في كل مكان؛ إنما يكمن الفرق في مصدر التشريعات.
تقرّ المقاربة الروحية بضرورة الشريعة، إلّا أنّها ترفض فكرة قدرتها على حلّ المشكلة، وللمنظور المتضمن في هذه المقاربة ما يشبهه في معظم الأديان. التفتُ إلى هذه الفكرة لأول مرة عندما مررت بها منذ سنوات عدة في كاريكاتيري المفضل “بوجو” (Pogo): “لقد التقينا العدو، وإنّه نحن”، أي أنّ المشكلة تكمن في نفسي أنا بالذات وكذلك الحلّ لإصلاحها. أمّا في المقاربة الأيديولوجية التي تبنّاها ذوي العقلية الشرعية، تكمن المشكلة في الشخص الآخر”لقد التقنيا العدو، وإنه الآخرون”.
إذا كان المرض هو النسيان، فماذا نسيَ آدم بالتحديد؟ لقد نسيَ من كان، ثم حاول أن يعالج الأمر.
من الجليّ أنّ التشريعات غير قادرة على حلّ المشكلة، رغم أنها تبقي المحامينَ والبيروقراطيينَ سعداء. كان من المحتمل أن نكون في حال أفضل إن اتبع الجميع التشريعات، ولكن كان المرض ليظهر في مكان آخر. فبالتّالي، يكمن العلاج في التّذكر، لا في معالجة العوارض.
لاحظوا أن مفهوم النسيان يشير إلى أمر نعرفه مسبقًا وغاب عن أذهاننا. فبكلمة واحدة، نسيَ آدم “الله”، وأكثر تحديدًا، لقد نسيَ حقيقة أن لا إله إلا “الله”، وبنسيانه اتبع إلهًا زائفًا صنمًا، سواء كان الشيطان، أو رغباته هو، أو أناه. كل هذا يُختَزلُ في الأخيرة، إذ إننا نحن من نختار، ولا يمكنهم أن يدفعونا لاختيار ما نختار اختياره.
يخبرنا أحد أعظم أساتذة الأدبيات المعنوية “الرومي” أنّ “الأنا هي أم كل الأًصنام”، حيث يقوم بتكرار الطرح القرآني لما يسميه “بالهوى” في آية ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ﴾[5]، ويقدّمها النبي محمدﷺكالتالي: “أعدى أعدائك نفسُك التي بين جنبيك”.
وفي الجانب القرآني لهذه القصة القديمة، طلب آدم وحواء المغفرة لتناولهم الفاكهة المحرّمة، وغفر لهم الله على الفور وأرسلهما إلى الأرض، وعيّن آدم ليكون نبيًّا أي مرشدًا لأبنائه. فإنّ كل الأنبياء، كما يخبرنا القرآن، جلبوا الذكر لشعوبهم. وإنّ الاستجابة المناسبة للمذكِّر هي “الذكر”.
من وجهة النظر القرآنية، جميع الأديان السماويّة تؤمن “بالتوحيد”، أي حقيقة أن لا اله إلا “الله”، كما يقول كتاب القرآن في آية ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[6]. وبالتالي، “العبادة” هي الفعل المناسب والمتوافق مع التوحيد.
على خلاف التّوحيد، يعتمد الفعل المناسب بدرجة كبيرة على السياق التاريخي. إذ يرسل الله كل نبي بـ ﴿ِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾[7] فحسب. فهذا هو الأساس المنطقي القرآني للتنوع الاستثنائي في التعاليم والممارسات الدينية.
باختصار، ترى الأدبيات الإسلامية أنّ الإنسان جميلٌ بالفطرة بسبب الصورة الإلهية الخفية، ولكنهم نسوا الله وفقدوا صلتهم بأنفسهم. فبالتالي، إن هدف الحياة هو استعادة الحق الطبيعي للإنسان، والسبيل إلى ذلك هو اتباع الهداية الظاهرة.
(من بين الكتب القيمة التي تتوجه إلى تجاوزات العقلية الشرعية، يمكننا أن نذكر كتب الفقية المسلم “خالد أبو الفضل”، وبخاصة كتابه البحث عن الجمال في الإسلام).
[1] سورة طه، الآية 115
[2] إن هذه العبارة لم ترد في النص الأصلي، ولكن قمنا بإضافتها لتفادي الإخلال بتركيبة الجملة في اللغة العربية.(المترجم).
[3] سورة النساء، الآية 28
[4] إن هذا اقتباس مقتطع من المثل الإنجليزي “If it ain’t broke, don’t fix it”. (المترجم).
[5] سورة القصص، الآية 50
[6] سورة الأنبياء، الآية 25
[7] سورة ابراهيم، الآية 4
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الفلسفةالعبادةالهداية الفطريّةالهدايةالسير والسلوكالعرفان الجهاديالجمال المقالات المرتبطة
صعوبات تحديد الدين
اصطدم المؤلفون، منذ القرن الثامن عشر ميلادي، عندما بدأت المحاولات الأولى لدراسة الدين دراسة علمية، بمشكلة تحديده، وهي مشكلة ستتعقد بقدر ترسّخ المذهب الإنسي الفلسفي
قانون الحرب في الإسلام: علله وأحكامه
إن عمل الداوودي هو مساهمة مرحب بها في البحث العلمي حول موضوع الإسلام والتنظيم الحضاري للقوة المسلحة. ويستحق كتابه هذا أن يُقرأ ويناقش على نطاق واسع.
النظرة الخصوصية سبيل إلى الإرشاد
ترجمة: خالد كريم لقد أصبحت التعددية الدينية أمرًا واقعًا في هذا العصر تمامًا كما جاء في سياق بشارة القديس