السعادة عند الشيخ الفياضي: مفهومها ومصداقها.
البحث في سعادة النفس من الأبحاث العريقة في علم النفس الفلسفي، والتي تصدّى العلماء للبحث في مفهومها ومصداقها. فعرّفها الفارابي بأنها (الخير المطلوب لذاته الذي ليس وراءه شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان)[1]، بينما ذكر ابن سينا عدّة تعريفات لها: منها ما ذكره في رسالة السعادة بأنها (أفضل ما سعى الحي لتحصيله)[2]، ومنها أيضًا أنها (الكمال الأخير اللائق به من حيث هو إنسان)[3]. ثم توالى الباحثون على تعريفها، كالعلامة الطباطبائي[4] والشهيد مطهري[5] والشيخ مصباح اليزدي[6].
ونريد في هذه العجالة أن نقف على رأي أحد الفلاسفة المعاصرين وهو الشيخ غلام رضا الفياضي، حيث تصدّى لبيان مفهوم سعادة النفس ومصداقها[7].
المبحث الأول: مفهوم السعادة.
يعتقد الشيخ الفياضي أن السعادة هي (رجحان الالتذاذ رجحانًا مطلقًا). ولكي يتّضح التعريف أكثر، نشير إلى النقاط التالية:
النقطة الأولى: رجحان الالتذاذ مطلقًا على قسمين:
القسم الأول: الالتذاذ المحض: وهو حيث لا يوجد لذة أو ألم في البين. وبالتالي، من يعيش حياة خالية من الألم والمحَن ويتمتّع باللذة فقط، يكون إنسانًا سعيدًا.
القسم الثاني: هو حيث يكون ألم ولذة، لكن اللذة أكثر. والإنسان الذي تكون لذته أكبر من ألمه يكون سعيدًا.
النقطة الثانية: المراد من اللذة ما يشمل اللذة الكمية والكيفية أيضًا.
النقطة الثالثة: السعادة على نحوين:
-
السعادة المطلقة: ولها معنى عندما نلاحظ مجموع الحياة الدنيوية والأخروية. وبالتالي، من لا يعِش ألمًا في حياتيه الدنيوية والأخروية، أو تكون لذاته فيهما أكثر من آلامه، يكون إنسانًا سعيدًا.
-
السعادة النسبية: وهي حيث يكون الإنسان سعيدًا في فترة من حياته، وشقيًا في فترة أخرى؛ كمن يكون سعيدًا في دنياه شقيًا في آخرته.
النقطة الرابعة: المراد من اللذة ما يشمل اللذة المادية والمعنوية، أي ما يشمل: اللذة الحسية والخيالية والوهمية والعقلية والشهودية.
ومن خلال ما تقدّم يتّضح أن السعادة هي أن تكون اللذات أكثر من الآلام، بحيث إما لا يكون ألم في البين، أو تكون اللذات أكثر من الآلام، سواء كانت اللذات كمية أو كيفية، وسواء كانت السعادة مطلقة أو نسبية، وسواء كانت اللذة مادية أو معنوية.
المبحث الثاني: مصداق السعادة.
بعد بيان مفهوم السعادة، يقفز إلى الذهن السؤال التالي: هل يستطيع العقل أن يحدّد مصداق السعادة والشقاوة؟
يذهب الشيخ الفياضي إلى أن الجواب ليس واحدًا في أقسام السعادة كلها. وفي الحقيقة، إن تعيين مصداق السعادة المطلقة يحتاج إلى إحاطة علمية واسعة جدًّا خارجة عن دائرة العقل ولا تطالها يده. فالإحاطة بجميع أسباب السعادة والشقاوة ونتائجها وارتباطهما بالأعمال، لهو أمرٌ مختص بالعلم الإلهي وخارج عن قدرة البشر. فلا يمكن تحديد مصداق السعادة المطلقة إلا من خلال الوحي.
وعلى هذا الأساس، لن يستطيع العقل تشخيص مصداق السعادة المطلقة؛ نعم بإمكانه تحديد مصاديق السعادة النسبية.
وبما أنه لا بد من الرجوع إلى الوحي، بناء على ما وصل إليه الشيخ الفياضي، فإنه ذكر أن الوحي يدلّنا على أن مصداق السعادة هو (النجاةُ من عذاب جهنم والخلودُ في الجنة)، والسبيل إلى ذلك من خلال الإيمان والعمل الصالح، استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ…﴾[8]، و ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾[9]، وغيرهما من الآيات أيضًا.
والحمد لله رب العالمين.
[1] أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، تقديم وتعليق: علي ملحم، الصفحة 101.
[2] ابن سينا، الحسين بن عبد الله، رسائل، رسالة في السعادة، الجزء 1، الصفحة 216.
[3] المصدر نفسه، الصفحات 260- 262.
[4] انظر: الميزان، الجزء 1، الصفحة 185.
[5] مطهري، مجموعه آثار، الجزء 7، الصفحات 60- 65.
[6] انظر، محمد تقي مصباح اليزدي، اخلاق در قرآن، تحقيق وكتابة: محمد حسين اسكندري، الجزء 1، الصفحات 31- 39، و 98.
[7] انظر، غلام رضا الفياضي، علم النفس الفلسفي، تحقيق وتدوين: محمد تقي يوسفي، (انتشارات مؤسسه آموزشى وپژوهشی امام خمينى (ره)، الطبعة الثالثة، 1393)، الصفحات 589 إلى 622.
[8] سورة آل عمران، الآية 185.
[9] سورة الجاثية، الآية 30.
المقالات المرتبطة
الحسين كتاب الله التكوينيّ
جرَت عادة الصحف منذ سنوات أن تفرد عددًا خاصًّا في الحسين سلام الله عليه، عند رأس السنة، مستهلّ محرّم من كلّ عام. فيستنهضون أقلام الكتّاب
القرآن الرسالة
هذه القلوب تتأهّب لقدوم شهر رمضان، والأرواح المؤمنة تتجهّز لاستقبال شهر القرآن الكريم، متلهّفةً لأيّام الله اشتياقًا بالمعشوق الأوحد عزّ وجل، إنَّ لهذا الشهر الكريم مكانةً خاصّة ومنزلةً رفيعةً لا تقارن بباقي الشهور،
سيدة النساء
من قبل القوانين الإنسانيّة والشرائع البشريّة المعاصرة كنتِ أنت سيّدة النساء ولا فخر، استمدّيت السيادة من سيّد الخلق الذي ابتعثه الله تعالى رحمةً للعالمين، وعلمًا يهتدي بضيائه عباد الله المؤمنين.