دور الدعاء في تكامل الإنسان

دور الدعاء في تكامل الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ﴾[1].

﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ﴾[2].

﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ[3].

﴿لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ[4].

﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾[5]

﴿فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[6].

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾”[7].

العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فحقيقة العبودية بأن يدرك الإنسان بأن له رب مالك الملك، وهو مفردة من مفردات السموات والأرض، جامعة التكوين. ويوصف الدعاء بأنه أحد أشكال العبودية، ويدخله بعض مفكّري علم الاجتماع ضمن تصنيفات الشعائر والطقوس، ويذهب بعض علماء النفس لاعتباره من أبرز تقنيات التفريغ لتحقيق السلام الداخلي، كما استُخدم لإفراغ الطاقة السلبية.

 فهل الدعاء مجرد تعابير وألفاظ ظاهرية يحقّق فيها المؤمن الثواب والأجر الأخروي، وعليه تكون الغاية من تكرار الدعاء تحقيق المزيد من الثواب، أم أن نفس الدعاء يطوي طريق العبودية بعروج الروح باتجاه الكمال الإنساني؟

وفق نظرية “الشهيد مطهري” الاجتماعية التي تنظر إلى الإنسان في دائرة وجوده المجتمعي، غير معزول عن علاقته بالله، ذلك أن الإنسان بوجوده يحيا في الدائرة الاجتماعية العلائقية بين علاقته بنفسه، وعلاقته مع ربه، وعلاقته بالمجتمع أو الآخرين، كعبدٍ تتحقّق العبودية فيه حين يمتلك بصيرة فردية، وبصيرة روحية، وبصيرة اجتماعية، ومقتدى البصيرة بأن يميّز بين الحق وأنواع الباطل. ووفق مدرسة العرفان الاجتماعي للإمام الخميني (قده)، التي لا تعتبر هناك انفصال بين الحركات المعنوية والسياسية والاجتماعية، بل هي حركة روحية للوصول إلى تهذيب النفس وتزكيتها، للوصول بها إلى درجات الكمال الإنساني، بحسب سعة وجودها وحركتها في الدنيا، في حركة باطنية معنوية وحركة ظاهرية تتحدد ببناء المجتمع الإنساني، والدفاع عن حقوق الإنسان فيه. هذه الحركة تشكّل مسار منهجي لفهم حقيقة العبودية الاجتماعية ما يسمح لنا باستخدام هذا العرفان الاجتماعي منهجًا لفهم ودراسة ظاهرة الدعاء.

فهل الإنسان بدن وروح، أم بدن ونفس، أم بدن ونفس وروح؟ تباينت التحديدات المعرفية في ماهية الإنسان، إلّا أنه ثمة إجماع فلسفي واجتماعي وعرفاني على وجود بدنٍ، ونفسٍ بقواها، وروح في الحقيقة الوجودية للإنسان.

وحين نسلّم مع الآية القرآنية بأن غاية الخلق الوصول للعبودية، ويأتي تفصيل ذلك في عالم الدنيا بتوصيفه عالم الخلق، الذي عبّرت فيه مدرسة العرفان عن الوجه الخلقي للإنسان، فيه عالم البدن والنفس بقواها المجتمعة، والله تعالى بفيوضاته الرحمانية، أنزل الإنسان إلى عالم الدنيا ليعبر فيها عابدًا بجمال الله ولطفه. وعالم الآخرة بتوصيفه عالم الإمرة الذي هو عالم الأرواح والأنوار، يطوي الإنسان طريقة عبودية ربه بجلال الله وجبروته. إلّا المخلصين الذين طووا طريق العبادة في الدنيا، وغرقوا حبًّا وشوقًا للقائه، فجذبتهم الفيوضات الإلهية لتقديم أنفسهم في سبيل الله من الشهداء والصالحين الخلّص. فقد جاء في تفسير الطبري يَقُول: “إِلَّا مَنْ أَخْلَصْته مِنْهُمْ لِعِبَادَتِك، وَعَصَمْته مِنْ إِضْلَالِي، فَلَمْ تَجْعَل لِي عَلَيْهِ سَبِيلًا، فَإِنِّي لَا أَقْدِر عَلَى إِضْلَاله وَإِغْوَائِهِ”[8]. وأكّد على ذلك ما جاء في تفسير الميزان بأن “الباء في: فبعزتك” للقسم، أقسم بعزته ليغوينهم أجمعين، واستثنى منهم المخلصين، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه، فلا نصيب فيهم لإبليس ولا لغيره، وأتى جواب إبليس جوابه تعالى “فالحق” مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدأ، والفاء لترتيب ما بعده على ما قبله، والمراد بالحق ما يقابل الباطل على ما يؤيده إعادة الحق ثانيًا باللام، والمراد به ما يقابل الباطل قطعًا، والتقدير فالحق أقسم به، “والحق أقول” جملة معترضة تشير إلى حتمية القضاء، وترد على إبليس ما يلوح إليه قوله: “أنا خير منه” إلخ… من كون قوله تعالى وهو أمره بالسجود غير حق، وتقديم الحق في “والحق أقول” وتحليته باللام لإفادة الحصر[9].

ونلحظ بأن خطاب الإغواء جاء للصدور؛ أي القلوب التي يعبّر عنها بالعرفان الروح أيضًا، ولم يأتِ الخطاب إغواءً للأبصار والأسماع وللحواس من عالم النفس وقواها، وبالمقابل أعطى الله الرسول (ص) والأئمة(ع) خطاب الهداية للقلوب ما يجعله خطاب للروح أيضًا، والدعاء من أَجّل طرق العبادة، اهتم به الأنبياء والأئمة والصالحين، به يغير الله الأحوال، وينزل به المعجزات، فما هي حقيقة الدعاء وما الغاية من تكراره؟

العبادة أمر عملي، والدعاء أسلوب تربوي للنفاذ إلى القلب، ومن خلال هذا القلب يزكّي النفس، ما يعني ينقيها من الشوائب المادية المتعلقة فيها في عالم الدنيا المادي، ليتدرج بها إلى مراتب الكمال الآخروي حيث النفس في الأنفس والروح في الأرواح، وهو تعبير عن استعدادات الإنسان الفريدة في التكامل باتجاه المطلق الآحادي ليصل فيها إلى معرفة حقيقة الربوبية واسم الله الأعظم.

ولأن الدعاء أسلوب تربوي، لا يصبح ملكة عند الإنسان إلّا بالتكرار للوصول به إلى استحضار القلب، حيث يشير “ابن سينا” بأن تكرار العبادة يورث الإنسان معرفة، وهذه المعرفة ليست معرفة حصولية أو حضورية، إنما معرفة يكثر فيها ضبط النفس لتزكيتها. فبالدعاء وما يحضر فيه من معاني تشير إلى ضعف النفس وإذلالها وعجزها أمام عظمة الله وجبروته، تزيد معرفة الإنسان وقناعته وإقراره لضعف قواه النفسية أمام خالقها، إضافة إلى استحضار هذا الضعف بشعور باطني يضبط قوى نفسه ويكبحها من الانجرار وراء النداءات الشيطانية، والشيطان بنفسه يؤكّد بأنه عاجز ولا قوة وسلطة له على الإنسان أكثر من إغوائه.

معرفة الحقيقة الشيطانية، التي وردت في كثير من الأدعية، مع الكثير من المعارف الربوبية الحقة، وباستحضار القلب يركّز الإنسان ذهنه في هذه الحقائق، ويعرج بروحه من عالم المفاهيم ليكتسب ما يعرف بمهارة ضبط النفس، من هنا ربط القرآن الكريم تلاوة الآيات والدعاء بما يتضمنه من معارف بالزكية “ويزكيهم”.

   وقد أشارت السيدة فاطمة (ع) إلى هذه المعارف، في دعائها في عدة مواضع، منها: “أتوسل إليك بحقهم العظيم الذي لا يعلم كنهه سواك”، و”أسألك …، وبحق محمد وآل محمد”، و”وتسمع محمدًا وعليًّا وفاطمة … صوتي فيشفعوا لي إليك وتشفعهم فيِّ”، و”بحق محمد وآل محمد …يا كريم”. ولا شك من وجود أسرار تكمن من وراء قصد السيدة الزهراء (ع) لتكرار الأسماء الحسنى في دعائها بصورة عامة، والاسم الأعظم بصورة خاصة، فالأسماء الإلهية والاسم الأعظم خاصة، لها تأثيرات كونية، ويعدّ السؤال بها من أهم الوسائط والأسباب التي تنزل الفيض من الذات المتعالية في هذا العالم المشهود [10]، وهذا له دلالة على أن الله سبحانه وتعالى هو الموجد والفاعل لكل شيء، وعلى هذا يجب أن يكون الدعاء والطلب منه وحده لا من غيره، وهذه التفاتة مهمة أرادت الزهراء (ع) بيانها، وهي أن الدعاء بالأسماء الإلهية يحتاج إلى معرفة، فهي ليست مجرد ألفاظ يرددها الداعي بلسانه، بل هي حقائق حاوية لمعان لا يعلمها إلّا أولي العلم، وهم أهل بيت النبوة(ع)، فقد ورد عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: “إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفًا، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس، ثم تناول السرير يده، ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفًا، وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم”[11]. تبقى أن الهداية للنور الإلهي تحتاج لجذبة نورانية من الله، فلا تُفعّل من جانب الإنسان وحضوره فقط، فعندما تعرج الروح في الدعاء يصل الإنسان إلى أول درجة من درجات النور، وعليه التوسل بالمعصومين الأطهار(ع) ليوفق للوصول إلى أعلى منها، وكلما ارتقى باتجاه الكمال، ازداد شوقًا وحبًّا لعبودية الله، إلى أن يصل إلى الدرجة التي ينكشف فيها تمام الأستار يقول عنها أمير المؤمنين(ع): “ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه”[12]، حيث الكمال الإنساني، فأصل الوجود للكمال وهم أهل البيت(ع) الشرط والوسائل والوسائط في إيصال مسيرة الوجود للكمال، حيث نقرأ في الزيارة الجامعة “بكم فتح الله، وبكم ختم”. 

فالمؤمنون يطلبون الأنس بالله تبارك وتعالى ومناجاته عشقًا، ويعتبرون ذلك من مستلزمات وجودهم المحتاج والتابع والغارق في الفقر. ومع أنّ للدعاء والمناجاة فوائد عظيمة وباقية، كالتقرّب إلى ذات الحقّ تعالى وطلب رضاه، وتبييض صفحة الأعمال الملوّثة بالذنب والغفلة، أو لوث الحياة المادّية، ويبقى الدعاء مفتاح الخزائن الإلهيّة، سلاح المؤمن، وأفضل عبادة، يدفع البلاء، ويجلب النعمة والرحمة الإلهيّة، ومن يعش دون هذا السلاح، تكن حياته ضياعًا وعجزًا، ويبقى بلا مأوى. فقد جاء في حديثٍ عن النبي (ص) أنّه قال لأصحابه: ألا أدلّكم على سلاحٍ ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال (ص): تدعون ربّكم بالليل والنّهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء”[13]، يبقى العروح الإنساني للكمال المطلق هو المطلب الأهم.

 ونختم مع قول الإمام الخامنئي دام ظله: “إنّ لحظات الدعاء، ومناجاة الله، والتضرّع لخالق هذا الكون والجمال والمُطَمْئِن الوحيد للقلوب والأرواح وقاضي الحاجات، هي أفضل وأنجع وأجمل وأنفع لحظات حياة الإنسانية”[14].

 

[1]  سورة الذريات، الآية 56.

[2] سورة الأعراف، الآية 54.

[3]  سورة النمل، الآية 87.

[4]  سورة ص، الآية 85.

[5]  سورة الأنبياء، الآية 63.

[6] سورة ص، الآيتان  82و 83.

[7]   سورة الجمعة، الآية 2.

[8] تفسير الطبري  https://www.alro7.net

[9]  الطبطبائي، تفسير الميزان، الصفحة227  http://shiaonlinelibrary.com

[10]  محمد الريشهري، موسوعة العقائد الإسلامية،( 1425ه)، الجزء 3، الصفحة 467.

[11]  محمد بن الحسن الصفار، بصائر الدرجات، (1404ه)، الجزء 1، الصفحة 228.

[12]  https://almenbar.org

[13]  https://books.almaaref.org

[14]  المصدر السابق.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
العبوديةتكامل الإنسانالدعاءالتكوينالربوبية

المقالات المرتبطة

الإسلام والمسيحيّة في نزوعهما الإنسانيّ نحو الإله

يؤسس سماحة الشيخ شفيق جرادي في البحث الذي بين أيديكم لمركزية الإنسان في الأديان التوحيدية،

حرب من أجل المعنى

لو كان لنا من توصيف لحرب إسرائيل على لبنان لصحّ أن نقول إنها حرب المعنى.

الصداقة

إنّ موضوع الصداقة نفحة من نفحات الإسلام، وسمة من سمات الآداب الاجتماعية التي حُرِص عليها. فعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، من الركائز الأساسية التي تقوم عليها الرؤية الإسلامية.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<