الدعاء إقبال وتربية وعبادة

الدعاء إقبال وتربية وعبادة

       يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم : ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[1]، هذه الآية المباركة تشير إلى ثنائية تصاعدية تنطلق من الإقبال على الله وتنتهي بغاية الخلق أي العبادة ، فالدعاء هو إقبال العبد على الله، وهذا الإقبال هو روح العبادة، والعبادة هي الغاية من الخلق، لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[2]﴾ ، كما أن الإستكبار عن العبادة والمراد به كم أشار أغلب المفسرين هو الإمتناع عن الدعاء تجبّراً وتكبّراً وعليه فإنّه يوجب بصاحبه دخول النار.

ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنه كان إذا دخل شهر رمضان تغير لونه وكثرت صلاته، وابتهل في الدعاء وأشفق منه[3].

وروي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : كان إذا دخل شهر رمضان لا يتكلم إلاّ بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير[4].

وعن معاوية بن وهب عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال : يا معاوية، من أعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة : من أعطي الدعاء أعطي الإجابة ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة ، ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية[5](في بعض النسخ لم يمنع الإجابة). 

  يمثل الدعاء عند التلفظ به من قبل المؤمن الإنقطاع الكامل للّه تعالى والإعتصام بحبله والتجرد من عالم المادة، حيث يدرك المؤمن أنّ مهما كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة اللّه تعالى، وعفوه وكرمه، ففلسفة الدعاء تختزن معراج المؤمن إلى اللّه عبر محاولة البلوغ إلى أرقى مراتب الكمال، إذ ليس شيء في هذه الحياة ما هو أسمى من الاتصال باللّه تعالى خالق الكون، وواهب الحياة إلى النفوس الحائرة التي تشعر بالطمأنينة بعد القلق.

وبالرغم أن الدعاء من حيث الأسلوب هو نثر فني رائع، ونمط بديع من أفانين التعبير، وطرق بارعة من أنواع البيان، ومسالك جميلة من فنون الكلام، وعبارات صادقة تمتزج بجمال الأسلوب وروعة الديباجة ورقة الألفاظ لكنه يولد إرتياحاً للروح فيبلسم النفوس الحائرة وينعش القلوب الضالة، ولقد عرّفه بعضهم بأنّه ترنيمة المؤمن وغذاؤه الروحي الذي يربطه بالحياة في كل آن بل إن الدعاء هو فريضة المؤمن الممزوجة بكلّ ألوان الطاعات.

ولقد أشار الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقال:  الدعاء مخ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء[6].

وروي عنه أيضا صلّى الله عليه وآله وسلم قوله: افزعوا إلى الله في حوائجكم، والجأوا إليه في ملماتكم، وتضرعوا إليه، وادعوه فإن الدعاء مخ العبادة وما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب، فإما أن يعجله له في الدنيا، أو يؤجل له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بمأثم[7] . وترشدنا هذه الرواية إلى آداب الدعاء عبر حركة الفرد من خلال الفزع إلى الله واللجوء إليه والتضرع مع تيقّن المؤمن أن دعائه مستجاب إما معجلاً في الدنيا أو مؤجلاً للآخرة، أو تكفيراً عن ذنوب ارتكبها. 

وعن حنان بن سدير عن ابيه ، قال : «قلت للباقر عليه السلام: أي العبادة أفضل؟

فقال : ما من شيء أحب إلى الله من أن يسأل ويطلب ما عنده، وما أحد أبغض إلى الله عزوجل ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأله ما عنده .

وحيث أن الدعاء هو معراج إلى الله فإن خير ما يتحصله المؤمن هو التجمل بالعافية والأمن والشكر والصفاء والعزّة والتّحقيق والصّبر والنّصر والورع والسرور والمحبّة والوصل والقرب والتسّبيح والبِشر والسلم والحياء والكرم والشّجاعة والعفو والغنى والصحّة والرأي والجود والتجّريد والرّاحة والعفّة والتّواضع والأدب والإسلام والرّفعة والهمّة والتسليم والموهبة والإنابة والفهم والتصديق والحقّ والصّدق والإخلاص والإستقامة والعقل والثبات وحسن الخُلق وجمال الخلق والذكاء وقبول الدعاء والطمأنينة والسّكينة وخفض الجناح والتوحيد والموافقة والقوّة والمؤانسة والسّخاء والإتحاد واليسار والبرّ والعطاء والبلاغة والعلم والطّهارة،

والتخلّص من : الشقاء وسوء الخلق والشّهوة والغضب والفاقة والهجر والبّعد والطّرد واللّعن والزّجر والخجل والوجل والعتاب والجوع والخوف والمرض والعطش والبخل والحسد والحرص والشّره والكِبر والعُجب والمكر والمهانة والضّجر والجدل والحرمان والحُمق والوهم والظّن والرياء والنّفاق والكذب والزور والشّقاق والبهتان وقُبح الخلق ونقص الفهم والآمال الاذبة والمطالب الخائبة والسؤال وحبّ الرئاسة والشرك والتضاد والملاحاة والعجز والبغضاء واللؤم والخلاف والمنع والغيرة والكيد والكسب والعُسر وعقوق الولد وشؤم القرين والتجمّل والتكلّف والجهل والإنكار والغيّ والنجاسة.

لفظ الدعاء ودلالته القرآنية

لقد تضمن القرآن الكريم تصاريف لفظ الدعاء ودلالاته حيث جاء على نحو مئتين وإثنين وعشرين مرّة ضمن ثلاث وسبعين[8] اشتقاقاً تنوّعت معانيها بتنوّع سياقها التي وردت فيه ولقد اهتم  المفسرون بهذه الوجوه والنظائر و يشار إلى أن  مقاتل بن سليمان البلخي(150ه) في كتابه الأشباه والنظائر جعل الدعاء على وجوه ستّة[9]، ولقد سار على أثره بعض من جاء بعده وخالفه آخرون.

ومن أبرز وجوه معاني الدعاء التي وردت في القرآن الكريم أن الدعاء بمعنى العبادة والقول والإستعانة والاستغاثة والنداء والسؤال بشقيّه  الاستفهامي والاستعلامي أو الرغبة في حصول المراد وكذلك الدعاء بمعنى العذاب والعقوبة والموت.

ومن الأمثلة التي القرآنية التي تشير لذلك قوله تعالى:

  • قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [10]” يقول : لولا عبادتك
  • فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ[11]“يعني : ماكان قولهم إذ جاءهم عذابنا ( إلاّ أن قالوا إنّا كنّا ظالمين )
  • وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا[12]
  • وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ[13]
  • قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ۚ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ[14] ” يعني النداء .
  • قال تعالى على لسان زكريا :” قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا[15] أي بندائك.
  • وقال تعالى علي لسان بني إسرائيل في سؤالهم موسى : “قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا[16] ” أي سل لنا أو استعلم لنا.
  • وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ[17] ” أي سلوا ربكم واطلبوا إليه ( يخفّف عنّا يوماً من العذاب).
  • وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ [18]” أي سل لنا ربك.
  • قال تعالى في وصف جهنم :” كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ  تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ[19]  أي  تعذّب.

واللغة العربية تخنزن الكثير من المفردات التي تستعمل في معنى الدعاء منها :

الصلاة الابتهالالقنوت التضرعالسلام الحمد والشكر، فلقد في جامع البيان: ” أما الصلاة في كلام العرب فإنّها الدعاء”، وإذا دقّقنا النظر في فعاليات الصلاة علمنا أن الدعاء في كل حركاتها لأنّ معنى الطلب مع الخضوع والتذلّل واضح في جانب ومعنى التعظيم والإجلال للخالق ظاهر في جانب آخر كما في القراءة والقنوت والركوع والسجود فضلاً عما يجب علي الفرد من آدابها القلبية التي هي مظهر آخر من الطلب والدعاء.

والصلاة في القرآن جاءت علي أكثر من وجه أوصلها أحدهم إلى عشرين وجها.

تضرع  لإبن المعمار الصوفي (كان حيّا سنة 735 هجرية)

    اللهّم إنك تعلم أني ما افتتحتُ شيئاً إلا بإسمك، ولا اخترعتُ أمراً إلا بخالقيتك، ولا أقدمتُ على مجهول إلا ثقةً بإعانتك، ولا أثبتُّ حقيقةً إلا من تعليمك، ولا تحملتُ عظيماً إلا بقوتك، ولا تمثلتُ مثالاً إلا من إيقاظك، ولا قدرتُ قدراً إلا بصنعك، ولا هجمتُ على هولٍ إلا ببطشك، ولا خفتُ إلا من عدلك، ولا رجوتُ إلا إحسانك، ولا أذنبتُ ذنباً إلا ثقةً بحلمك وعفوك، ولا سألتُ إلا من كرمك وجودك، ولا توسعتُ في عطاء إلا من مواهبك، ولا آنستُ إلا بلطفك، ولا تنوعتُ إلا باستمدادي من غرائب حكمتك، ولا استروحتُ إلا إلى نصرك، ولا طلبتُ إلا من عطائك، ولا رأيتُ إلا ما أريتني إياه، ولا شهدتُ إلا ما أشهدتني إياه، فأسألك بك يا إلهي على جلالك، وبجلالك على جمالك، وبجمالك على كمالك، وبكمالك على أحب خلقك إليك وأقربهم منزلة لديك، أن تصلي على محمد وآل محمد، وتعرفنا منزلة محمد وآل محمد، وتدخلنا في زمرة محمد وآل محمد، وتخرجنا من كل ما كرهته لمحمد وآل محمد، وثبتنا على متابعة محمد وآل محمد صلواتك عليه وعليهم والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته.

 

[1]  – سورة غافر – أية 60

[2] – سورة الذاريات – آية 56

[3] – إبن طاووس. إقبال الأعمال، ج 1: 69.

[4] – الحكيم، السيد محمد باقر. دور أهل البيت ( ع ) في بناء الجماعة الصالحة، ج ٢: ٣٤١.

[5] – الشيخ الكليني . الكافي،  ج 2: 65.

[6]  المجلسي . بحار الأنوار، ج 93 : 300.

[7] المجلسي.  بحار الأنوار ج 93: 302.

[8] –  عبد الباقي. المعجم المفهرس المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : مادة (دعو).

[9] – البلخي، مقاتل بن سليمان . الأشباه والنظائر : 138.

[10] – سورة الفرقان – آية 77

[11]  – سورة الأعراف – آية 5

[12] – سورة الكهف – آية 29

[13]  – سورة البقرة – آية 171

[14]  – سورة الأنبياء – آية 45

[15] – سورة مريم – آية 4

[16]  – سورة البقرة 69

[17] – سورة غافر – آية 49

[18] – سورة الزخرف – آية 49

[19] – سورة المعارج – الآيات 15-16-17


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
شهر رجبعبادةالدعاء

المقالات المرتبطة

الفراغ الثابت في العلاقة بين الذات والموضوع

تمثل العلاقة بين الذات والموضوع مدخلًا جوهريًا لمناقشة علاقة الفرد بنفسه وعلاقته بالعالم وما ينتج عن هذه العلاقات

العرب بين السلطة والدولة

هل القضاء على السلطة السياسية يقود إلى القضاء على الدولة، أم أن الدولة بوصفها المؤسّسة الثابتة والضاربة بجذورها في عمق المجتمع، هي مؤسّسة لا يمكن القضاء عليها بهذه السهولة، أو بالطريقة التي جرت في دول الربيع العربي؟

الحرب العالمية على جبهة القيم

من الملاحظ أن الشعوب التي أخذت قرارًا حازمًا بمواجهة الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم قد اكتشفت أن مواجهة أمريكا على

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<