by الشيخ محمّد جواد مغنيّة | فبراير 27, 2021 1:38 م
“كن من تشاء كن الدنيا بكاملها فلست تعدل صديقًا بميزان”
أخذ الشاعر هذه الحكمة من سيّد البلغاء، وإمام الحكماء أمير المؤمنين (ع) حيث قال مشيرًا إلى حذائه البالية: “والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقًّا أو أدفع باطلًا”[1][1].
ما هذا المنطق؟! وما هذا الميزان؟! نعل بالية لا تُقدّر بشيء، ولا يبذل بإزائها قليل من متاع الحياة، توزن بالملك والسلطان، بل بالدنيا بكاملها، فترجح عليها وعلى لذّاتها جميعًا، وتكون خيرًا منها ومن أشيائها كافّةً، إنّ هذا لشيء عجاب؟!
إنّ هذا المنطق منطق من يقول فصلًا، ويحكم عدلًا يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من حواشيه، إنّ هذا الميزان ميزان القائل: “فدعوني أكتفي من دنياكم بملحي وأقراصي، فبتقوى الله أرجو خلاصي”[2][2].
وإذا كانت الأمور توزن بآثارها، وتُقاس بنتائجها، فإنّ الحذاء التي تقي القدم من الأوساخ والقذارات والأحجار والأشواك خير من الملك الجائر والسلطان الظالم الذي يودي بالأرواح والأموال بالشرف والمروءة، إنّ الدنيا التي يتمتّع بها الشقيّ الفاسق، ويُحرم منها التقيّ العادل، لا تعادل في ميزان الحقّ جناح بعوضة، ولا ورقة في فم جرادة.
إنّ في الإنسان غريزة من أقوى الغرائز البشريّة، وهي حبّ العظمة، والرغبة الملحّة في أن يكون المرء شيئًا مذكورًا، جوع يضرم الجحيم، وظمأ يلتهب كالسعير، أحرق بلفحاته الأخضر واليابس، يسلك المرء كلّ سبيل، ويضحّي بالنفس والنفيس، والعزيز والثمين ليسكن هذه الأرواء المنبعثة عن حبّ العظمة، والشعور بالأهمّيّة.
وكم يذرع بالنفاق والرياء، والحقد والجفاء، والحزبيّة الحمقاء كي يحصل على شيء من الشهرة، والكمال الموهوم فلم ينجح مسعاه إذ لم يحصل على شيء، وإذا حصل لا يدوم، أنّ للباطل جولة ثمّ يضمحلّ.
أيها السادة،
والسرّ الوحيد أنّ كلّ عمل لم يُبنَ على أساس متين من الدين، ولم يرتكز على مبدأ سيّد الوصيّين وهو التقوى بإطاعة الله، ومتابعة الراسخين في العلم من الأئمّة الأطهار والعلماء الأبرار لا بدّ وأن يكون مآله إلى الهباء والخسران، ومصير صاحبه إلى الفشل والخذلان.
﴿لا يُخَفّفُ عنهُمُ العَذابُ ولا هُمْ يُنظَرونَ﴾[3] ﴿أَفَمَنْ أَسّسَ بُنيانَهُ عَلى تَقوَى مِنَ الله وَرِضْوانٍ خَيرٌ أم منْ أَسّسَ بُنيانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهارَ بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ واللهُ لا يهْدِي القَوْمَ الظالمينَ﴾[4].
وإذا كان عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ – كما في حديث الشريف – فمن الطبيعيّ أن يرتكز بنيانه على تقوى الله ورضوانه، ومن الطبيعيّ أن تكون الإمارة وألقابها، والزعامة وأثوابها هباءً في نظره إذا لم تكن وسيلةً لإقامة الحقّ ودفع الباطل.
هذا هو المبدأ الوحيد الذي يستطيع الباحث أن يفسّر به شخصيّة الإمام (ع)، ويرجع إليه في جميع أفعاله وصفاته، وهذا هو البرنامج والبيان الذي أذاعه على الناس كافّةً، ودعاهم إليه قبل الخلافة وحينها، ولم يحد عنه طرفة عين فما دونها، وهذي هي الروح التي أورثها بنيه (ع) بالتربية والعرق حتّى أصبحَت لهم كطبيعة الحياة تسيطر على غرائزهم، وتدفعهم إلى السير في طريق الحقّ والعدالة.
أهل الكوفة أعلم الناس بعليّ وبنيه، يعلمون انفعالهم وبواعثهم، وما يوقظهم؟ ويستثيرهم؟ لذلك كتبوا إلى الحسين (ع) “أقْبِل، لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ”، أيسمع الحسين صوت الحقّ فلا يسرع لتلبيته؟ أليس هو ابن عليّ؟! ولكن تريّث هنا قليلًا لأنّ أهل الكوفة أصحاب أبيه وأخيه، تريّث ليتأكّد أنّ الصوت من أعماق الفؤاد، فأرسل ابن عمّه مسلمًا (ع) فلمّا تبيّن أنّه صوت القلب خفّ إليهم مسرعًا.
لو لم يلبِّ الإمام نداء الكوفيّين، فلمن تكون الحجّة؟ وعلى من تقع التبعة؟ وماذا يكون حكم التاريخ، ولو لم يلبّ الإمام نداء الكوفيّين، يحكم التاريخ إمّا بأنّ الحسين (ع) لا يجيب داعي الحقّ إذا دعاه، وإمّا بأنّ يزيد أهل للخلافة، لأنّ الإمام أقرّ واعترف بسلطانه، وهذا الأخير هو المعين لدى أرباب الأهواء والشهوات لأنّه أبلغ في الدعاية لباطلهم، وكان لهم أن يخاطبونا محتجّين هذا إمامكم المعصوم وجد الألوف من السيوف ولم يحرّك ساكنًا.
سار الإمام ملبّيًا ذلك النداء، وفي أثناء مسيره ظهر له كذب المنادي، فهل يرجع الإمام من حيث أتى وهؤلاء أهل مسلم وذووه لا يتركون دم صاحبهم، بل هؤلاء الأمويّون لا يكتفون بمسلم، ولا مصد لهم سوى الحسين، وهل يعصمه من الكفّار حرم الله وحرم جدّه الرسول؟ وهذا يزيد أنفذ بالأمس عمر بن سعد في عسكر كثيف وأوصاه بقبض الحسين سرًّا وإلّا فليقتله غيلة، ودسّ مع الحاجّ ثلاثين شيطانًا، وأمرهم بقتل الحسين على أيّ حال اتّفق. فأيّ حرمة لله ولرسوله عند الأمويّين؟ إذًا، لا بدّ من متابعة السير ومقابلة أولئك الذين دعوا الحسين إلى الحقّ وجهًا لوجه.
وصل الحسين إلى كربلاء، وخاطب أرباب الكتب والرسل، ولما أصرّوا على الكفر عرض عليهم أن يتركوه وأطفاله على أن يترك دنياهم، ويقيم بعيدًا عن ديارهم وسلطانهم، رغب إليهم في ذلك لئلّا يقول القائل: إنّ الحسين طالب ملك، وإنّه هو الذي قتل نفسه حيث وجد لها طريق السلام والأمان، فأبوا عليه إلّا السيف والاستسلام ليزيد”.
لو استسلم الحسين (ع) ليزيد لم تقم للحقّ قائمة، ولم تكن للعدالة عين ولا أثر ما دامت السماوات والأرض، وكان للباطل أن يحكم ويتحكّم متى شاء وكيف شاء؟ وليس لمصلح أن ينكر عليه فعلى الأولياء والمصلحين أن ينقادوا للظالمين طائعين، فمهما بلغ المبطل بجوره فهو دون يزيد ظلمًا وطغيانًا، ومهما بلغ المصلح بعظمته فهو دون الحسين عدلًا وإيمانًا.
إذًا، لو لم ينهض الحسين لكانت الحجّة للباطل على الحقّ ما دام في الأرض ساكنًا[5][3].
[1][4] محمّد الريشهري، ميزان الحكمة (دار الحديث، الطبعة1، 1416ه)، الجزء 2، الصفحة 900.
[2][5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار (بيروت: مؤسّسة الوفاء، الطبعة2 المصحّحة، 1403ه، 1983م)، الجزء 40، الصفحة 348.
[3][6] سورة البقرة، الآية 86.
[4][7] سورة التوبة، الآية 109.
[5][8] ذكرى أبي الشهداء، حفلات الشباب النجفي، إخراج دار الغري، الصفحة 30.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/12226/2imam/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.