الفن الإسلامي، والممارسة الفنية
الفن هو عطية إلهية، فكما تتراقص حباتُ التُراب حين تستقبل المطر المُنعش بعد ظمأ، هكذا تُطْرَبُ أحاسيس المتذوقين حين تتعَطر بإبداعات أهل الفن. والفنان يُعبّر بروحه الفنية، وبالنور المتوقد في سريرته، وهذا هو الفن الحقيقي الواقعي. وإن الفنون المُنعتقة من شرك الرّذيلة هي أنشطة عامرة بالحياة، تُهذبُ النفس وترقى بالسلوكيات لتكون حضارية. فما هو واقع الفن الإسلامي من شعر، أدب، إنشاد ورسم وتمثيل… عند الجماعات الإسلاميّة في لبنان؟ وهل هو فن أصيل أم تقليد؟ وما هي شروط الارتقاء الإبداعي للعمل الفني الإسلامي في لبنان؟ وما هي معايير الحلال والحرام في النتاج الفني؟
الفن لغة بليغة لا تُجاريه في البلاغة لغة أخرى، ويتميز بالخلود والبقاء. إن واقع الفن الإسلامي عند الجماعات الإسلاميّة في لبنان في طور التقدم والرقي، والسبب يعود إلى سرعة الحياة، أي أن الوقت يمر بسرعة والناس في سباق معه. ونجد أيضًا زمن التكنولوجيا والاختراعات التي أبعدت الناس عن الفنون الجميلة التي تغذي الوجدان وتمنحه الارتقاء، وهذا يعود إلى انشغالهم بالهواتف الذكية والإنترنت، وشتى مواقع التواصل الاجتماِعي، فلم يعد لديهم مُتسَعٌ من الوقت لكي يطّلعوا على الفنون ويعطوها أهمية. وإن الغزو الغربي أضعف الفنون عند الجماعات الإسلاميّة، من خلال الألعاب والبرامج التي لا تُجدي نفعًا.
إن الفنون ما عدا التمثيل هي جيدة إلى حد ما عند الجماعات الإسلاميّة في لبنان، إلا أن الدولة لا تُعطي للفنون أهمية كبيرة، وخصوصًا فن التمثيل عند الجماعات الإسلاميّة لا زال في مرحلة البدء وطور التقدم، والسبب ليس لأنه لا يوجد مواهب فنية بالأخص في مرحلة الشباب، بل يوجد الكثير من المواهب المحرومة من تقديم وإظهار ما لديهم من مواهب جميلة ومفيدة. ولكن الدولة لا تهتم ولا تسعى لأن تقدم المساعدات، إنْ كان من حيث الدراسة، أو من حيث التجهيزات التقنية وغيرها للقيام بالتمثيل. هذا السبب الأول.
أما السبب الثاني فهو أن تمثيل الجهات غير الإسلامية هو الطاغي في لبنان، أي الدراما اللبنانية التي لا يمكن أن نشاهدها إذا صح التعبير، لأنها غير مناسبة من خلال المشاهد غير اللائقة بالمجتمعات الشرقية، وحتى من الناحية الدينيّة.
وإذا شاهدتهم وكأنك تشاهد مسلسلًا أو فيلمًا أجنبيًّا وليس عربيًّا. وهذا ما أضعف وأثر على الجماعات الإسلاميّة؛ لأنها تحاول أن تتقدم لتقابل تلك الجماعات غير الإسلامية بما تعرضه من مسلسلات لا فائدة منها. وعلى الرغم من هذا تبقى الجماعات الإسلاميّة تعمل على تطِوير فن التمثيل من خلال بعض الأعمال التي قُدّمت عن المقاومة وكانت من أجمل الأعمال، حيثُ إنها بيّـنت البيئة الإسلاميّة الدينيّة الصحيحة، وأيضًا بيّنت أهمية ودور المقاومة في حماية الأرض والعرض، وكيف دحرت العدو. لذلك هذه الأعمال أصيلة وليست تقليدًا كما الجماعات غير الإسلامية في لبنان، حيث إنهم يقلدون الغرب والدراما التركية وغيرها. وهذا ما يُضعف تمثيلهم ويجعله سطحيًّا لا فائدة منه. وينبغي عرض أي عمل فني بإبداع مئة بالمئة، وأن يكون فيه مضامين راقية ومُعبرة عن الفضيلة، الشيء الذي يمثل همًا بالنسبة لبعض المخلصين فيما يتعلق بالقضايا الفنية، وهو أن لا يخرق الفنان الفضيلة، ولا يسحق الأخلاق بذريعة حرية الخيال أو الحرية الفنية. لذلك هنا يتفوق الفن عند الجماعات الإسلاميّة في لبنان عن غيرهم.
إن الفنون فُسحة غنية بالعطاءات والعزيمة، وهي روح الحياة المنسوجة من خيوط النور، وخجل القمر، فهي لها مقومات خلودها.
منها أنها تُعبر عن أفكار الناس وهمومهم وقضاياهم العصرية، وتقوم بتغذية مداركهم، وتهذيب مشاعرهم والسمو بإحساسهم.
ولا بُد للفنون من أنْ تُعبّر عن المصداقية التي تنم عن رؤيا ثاقبة، وتطلعات إصلاحية، ويجب أنْ تقوم على بعث المتعة والبهجة في نفوس الناس.
وإن شروط الارتقاء الإبداعي للعمل الفني الإسلامي في لبنان تتجلى في التصدي لأعداء الإسلام الذين يُحاولون جاهدًا لسحق الفضيلة، ومحق الحقائق الإسلاميّة، ودفع الناس نحو المادية واللهو. مثلًا الشرط الأول للارتقاء الإبداعي بالعمل الفني الإسلامي في لبنان هو الوقوف بوجه أعداء الإسلام وخصوصًا منظومة “هوليوود”؛ لأن هذه المؤسسة العملاقة تعمل على إشاعة الفحشاء والعبث، وانعدام الهويّة لدى الإنسان، وتخدم العنف، وإلهاء عامة الشعوب ببعضهم لكي تستطيع الطبقات الراقية العيش بدون منغصات وهموم. وهذه المؤسسة السينمائية العملاقة التي تجتمع فيها عشرات الشركات الكبرى لإنتاج الأفلام بما فيها من فنانين ومخرجين وممثلين وكتُاب مسرحيات وسيناريوهات، تعمل لخدمة هدف معين ألا وهو خدمة السياسة الاستكبارية للحكومة الأمريكية.
لذلك على الجماعات الإسلاميّة في لبنان أن تعمل على الإكثار من الأعمال الفنية قدر الإمكان وخصوصًا فن التمثيل؛ لأنه الأقرب إلى رؤية الناس، وتقف بوجه أعداء الإسلام وإبعاد أفكارهم عن مجتمعنا الإسلامي.
ومن الشروط أيضًا، نرى أن للفن مغزى كبيرًا وخصوصًا بظل العولمة، ولديه قدرة على تبليغ دعوة إلى النفوس لأنه يتصل بوجدان الشعوب ومشاعرها، ويعمل على تكوين ميولها وأذواقها، واتجاهاتها النفسية بأدواته المتنوعة والمؤثرة، مما يُرى أو يُسمع أو يُقرأ. فالإسلام أعظم دين غرسَ حُب الجمال والشعور به في أعماق كل مسلم. وإذا كانت الرياضة تُغذي الجسم، والعبادة تُغذي الروح، والعلم يُغذي العقل، فإن الفن يُغذي الوجدان، ونريد بالفن النوع الراقي الذي يسمو بالإنسان، لا الذي يهبط به.
ومِن الشروط أيضًا، أن الفن الإسلامي كان منذ القدَم، مثل فن الخط والزخرفة والنقوش، إضافةً إلى الأدب والشعر، وانتقل بعدها مع تقدم العصور إلى فن التمثيل. ولا بُدّ من مُجاراة العصر ولكن من دون الابتعاد عن الإسلام، بل على العكس كما لديهم فنون يوصلونها إلينا، يمكننا أنْ نوصل الفنون التي تحترم الإسلام إليهم. وبهذا نُبين لهم أن الدين الإسلامي متطور وفيه تجديد وحيوية، وأنه دين يُسر، وليس دين عُسر. فهو لم يُحرّم الفنون الراقية، بل يعمل على نشرها لأنها ترقى بنفوس الناس.
لا شك في أن الفنون ترسم الأمل على شفاه ضحايا الدهر، بفعل ظروف الحياة الصعبة، وهي دُرّة ثمينة تمنح بريقها لونًا حضاريًّا وروحيًّا معشوق المعنى والمضمون. أمّا اتجاه الفن الديني فيخال البعض أن الفن يُعادل اللادينية، وهذه فكرة خاطئة؛ لأن الشيء الذي يجري الاهتمام به بشكل مركز في الفن من الناحية الدينيّة، هو أن لا يُستخدم لصالح الشهوات والعنف والابتذال واستحالة هوية الإنسان والمجتمع. فالفن من التجلّيات الجميلة للخلقة الإلهيّة في الإنسان.
وكما قال السيد علي الخامنئي (دام ظله): “الفن الديني هو عبارة عن ذاك الفن الذي يتمكن من تجسيد وعرض طموحات الدين الإسلامي والتي هي أفضل طموحات الأديان الإلهيّة، طبعًا هذه الطموحات هي تلك الأشياء التي تؤمّن سعادة الإنسان، وحقوق الإنسان المعنوية وعلو التقوى والورع، وعدالة المجتمع الإسلامي”.
أما معايير الحلال والحرام والروح الوحياني في النتاج الفني، فتتجلّى في الالتزام بالضوابط الشرعية خلال أي عمل فني يقوم به الفرد المسلم، فهو قبل أن يكون فنانًا هو إنسان وعليه أن يحترم دينه، والدين الإسلامي لم يُعارض الفن الذي لديه رسالة، إنما عارض الفن الهابط الذي لا جدوى منه.
ومن هنا، يمكن للفنان المسلم أن يقوم بأي عمل فني مع مراعاة الضوابط الشرعية. وأكبر دليل على ذلك الفن في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية، فهم أبدعوا بكثيرٍ من الفنون، ولكنهم لم يخرجوا عن إطار الدين، إنما وظفوه لخدمة المجتمع، وقد أحسنوا مراعاة الحلال والحرام في شتى فنونهم، وهذا الشيء لم يُنقص من قيمة الفن، بل على العكس أعطاه قيمة جديدة.
فلو أن كل العالم الإسلامي الذي يقدّم فنونًا اتّبع نهج الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية بتقديم الفنون، لكان هنالك فنٌ راق بعيد عن الحرام. ولكن بعض هذه الجماعات الإسٍلاميّة لم تسر على الدين الإسلامي الصحيح، بل اتبعت الغرب في تقديم فنونها باعتبارها أن الفن حُر ويقدم أشياء حُرة، ولكن هذا المفهوم خاطئ لأن الفن حر مع مُراعاة الدين.
الفنون لغة الحياة، لها تأثير جمالي تضمن لصاحبها الخلود والبقاء، وهي مُنتدى التسامي الروحي والرفعة، تُطهّرُ الأنفس من كل لوثة ومفسدة، وهي قضية مباركة وإنسانية؛ لأنها وليدة الخيال القوي والذوق الرفيع، وجزءٌ من حياة الإنسان. والدنيا لم تُخلقُ عبثًا، بل لكل موجود رسالة وغاية من البداية إلى النهاية، ومن هنا فإن للفنون دورها وأهميتها؛ لأنها وسيلة تبليغية تنشر الوعي والثقافة والتعاليم الدينيّة، ولا يُمكن الاستغناء عنها، فهي تُنمي الإحساس بالجمال وتغرس القيم وروح المحبة والتعاون الجماعي.
المقالات المرتبطة
المناهج القرائية للنص الأدبي: المنهج النفسي
يعزو المنهج النفسي – التحليلي في قراءة النص، إلى أعمال كل من سيجموند فرويد (نظرية التحليل النفسي)، وشارل مورون (النقد
حوار مع سماحة الشيخ ماهر حمود: السلفية المعاصرة
مَنْ هم التكفيريّون وما هي عقيدتهم؟ هل لهم منطلقات مذهبيّة أم أنّهم مجموعة لديها تقاطعات سياسيّة ضيّقة.
الإبستيمولوجيا في الفلسفة الإسلاميّة
صنّف الفلاسفة المسلمون الوجود إلى قسمَين: الوجود العيني (الخارجي) والوجود الذهني (النفساني).