الدعاء الشكل والمعنى
عقد المنتدى الدولي للحوار المسؤول، ندوة فكرية[1] بعنوان: “الدعاء بين الشكل والمعنى”. بإدارة الأستاذة زينب إسماعيل، وبمشاركة كلّ من: سماحة الشيخ حسن بدران[2]، والشيخ سمير خير الدين[3]، والدكتورة خديجة صفا[4].
أشارت الأستاذة زينب إسماعيل في افتتاحية الندوة، إلى أنّ عنوان الندوة وما يتضمنه من محاور، لا يمكن اختزاله بندوة حوارية، إنّما يحتاج للعديد من الأبحاث التي تتطلب الكثير من الجهد لأهميتها اللغوية وسبر أغوارها الدلالية. وأشارت إلى أنّ الدعاء ورد في القرآن على أكثر من آية، وتوقفت عند آيتين، الأولى ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[5]، والثانية ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾[6].
ثمّ عرّفت معنى الدعاء لغويًّا وقالت: إنّ ابن منظور عرّفه بأنّه الرغبة إلى الله عز وجل. وعرّفه ابن فارس في مقاييس اللغة أنّ الدال والعين والحرف المعتل أصل واحد، ويقول إنّ أصل الدعاء هو أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام يكون منه، فتقول دعوت وأدعو دعاءً. وقال الخطابيّ أحد أئمة الشافعية أنّ معنى الدعاء هو استدعاء العبد ربه للعناية، وأن يستمد منه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية واستشعار الذلة، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل وإضافة الجود والكرم إليه. وتساءلت: هل هذا يعني أنّ شكل الخطاب ينطلق حصرًا من الأدنى إلى الأعلى في حركة تصاعدية يستنزل بها المخلوق رضا الخالق فيستسقي بالدعاء صحراء نفسه القاحلة؟ ما هي الأبعاد الروحية للدعاء وأثرها في حياة الفرد؟
ثم قالت إذا تأملنا في مضمون الآية 186 من سورة البقرة السابق ذكرها، نلحظ فيها شكلًا مغايرًا للدعاء، وكأنّها دعوة استباقية مفتوحة من الباري، يحثّ بها عباده على الاستزادة بالدعاء يمدّهم بالطمأنينة حين يقول لهم: “إنّي قريب”، وعليه فأيّ سرٍّ يحمله هذا الشكل من الخطاب الإلهي؟ فهل يحمل في طياته سر مقبولية الدعاء؟ وما هو معنى القرب الذي ورد في هذه الآية، وما هو دور الدعاء في المجتمعات الدينية؟
وفي سياق مقدّمتها لفتت الأستاذة إسماعيل إلى أنّ أدعية أهل البيت شكّلت ثروة روحية وفكرية، فالسيدة الزهراء (ع) تتوسل بحق الأنبياء والمعصومين حين تقول: “أتوسل إليك بحقهم العظيم الذي لا يعلم كنهه سواك، وأسألك بحق محمد وآل محمد”. وانطلاقًا من ذلك سألت: ما هو سر التأكيد على قضية أهل البيت في الدعاء؟ وهل تشكّل هذه النماذج من الأدعية دورًا ما في تغيير المصائر؟ وأين نلحظ البعد الوجودي للدعاء على مسارات التاريخ؟
وقالت أيضًا: إنّ أدعية الإمام علي (ع) تشكّل نموذجًا في استعمال اللغة استعمالًا منفردًا، وكأنّ النص يحلّق بنا نحو أوصاف تمثّل بعضًا من قدرة الخالق ومننه المتناهية، فهل تشكّل اللغة مفتاحًا دلاليًّا لسبر أغوار النص أو المعنى، ويصحّ حينها البحث عن معنى المعنى في ثنايا الدعاء الخفية؟ وهل يصح مثلًا أن ننطلق من النظريات الغربية وأدواتها في تطبيقها على نصوص الأدعية بمعنى أنّها النثر والسيميائية؟ وإذا ما طبقناها على هذه النصوص هل نُسقط آراءً ما، أو نكتشف مضمون النص أو البُعد الحقيقي للنص؟
وختمت الأستاذة زينب إسماعيل بأنّ بعضهم قال: إنّ الصحيفة السجادية تضمنت في جزء منها أبعادًا سياسية، كما لا شك أنّها تتضمن أبعادًا روحية وأخلاقية واجتماعية، ولكن هل يصحّ القول أن ننطلق من نصوص الدعاء لأهل البيت والمعصومين لتشكّل نواة عمل ثوري ما، أو سياسي نستنهض به الأمة؟ ثم كيف يتحقق ذلك؟
البداية كانت مع سماحة الشيخ حسن بدران، الذي أجاب عن سؤال حول السر الذي يحمله شكل الخطاب الديني من خلال الآية 186 من سورة البقرة، والآية 62 من سورة النمل، وأنّه هل يحمل الخطاب آداب معينة يقتضيها الدعاء ليحقق مقبوليّته لدى الباري؟ وقال: إنّ الإنسان يكون أثناء الدعاء في حالة طلب من نوع خاص ينتمي إلى وجود وحقيقة الإنسان. والطلب في علوم اللغة على ثلاثة أقسام:
الأول: طلب من العالي إلى الداني، وهو الأمر.
الثاني: طلب من المساوي إلى المساوي، وهو الالتماس.
والثالث: طلب من الداني إلى العالي، وهو الدعاء.
فالعبد لا يملك من أمره شيئًا لأنّه عين الفقر، ولو صرف المولى سبحانه نظره عنّا طرفة عين لهلكنا. كما يقال إنّنا عين الفقر إلى الله، ويمثّلون له بالشعاع الذي لا ينفك عن الشمس، فمن نحن حتى نطلب؟ ولكن في المقابل الرب هو الطرف الآخر في هذه المعادلة وهو النافع الضار، فلو اجتمعت البشرية جميعًا على أن تنفعنا بشيء لا يريده الله لا ينفعونا بشيء، ولو اجتمعت البشرية على أن يضرونا بشيء لا يريده الله لا يضرونا بشيء.
وقال سماحته: إنّ في الدعاء معادلة من طرفين: العبودية من جهة، والربوبية من جهة أخرى. والعلاقة بينهما هي علاقة تضايف على مستوى المفهوم. فلا يمكن أن نتعقّل العبد إلا إذا كان هناك في المقابل رب، ولا يمكن أن نتعقّل الرب (بمعنى الربوبية) إلا إذا كان هناك عبد.
وأضاف سماحته أنّ علاقة العبد بالرب لا تكون على نحو التكافؤ، فهناك من يطلب ومن يستمد. وبحسب تعبير الإمام الخميني (رض): “العلاقة هنا بين ذل العبودية وعز الربوبية”، وليس للعبد من أمر نفسه شيء إلا أن يسمح له المولى بذلك، وقد سمح له المولى بالكلام، وفتح له باب الدعاء كما يقول مولى المؤمنين (ع) في نهج البلاغة: “فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته”. الدعاء عبادة بل مخ العبادة. وقد جعل الله الطريق إليه سالكًا، وفتح باب العبادة والدعاء أمام العبد ليتكلم ويقول ويتضرع ويطلب المعونة منه.
وتابع سماحته: أنّ الدعاء ليس مجرد وسيلة، فهناك وسائل كثيرة نستخدمها في حياتنا كالمال. وإذا أدرك الإنسان أنّ الفقر إلى الله في كل وجوده وشؤونه فهو أبدًا في دعاء. والدعاء بما يتضمنه من لجوء العبد إلى الله هو حاجة إنسانية تنبع من فقره الوجودي والذاتي، ومستمرة إلى الغني المطلق.
واعتبر سماحته، أنّ في الدعاء بُعدًا اجتماعيًّا، يرى الإمام أنّه مسؤول عن المجتمع والحياة البشرية كلها، ويطلب الغفران بلسان الجماعة والمجتمع. وما يقال من أنّ دين الإسلام قام بالسيف فهو باعتبار أنّ المجتمع مستضعف من قِبل بعض الجبابرة، فيتطلب رفع الاستضعاف وإيصال المجتمع إلى الرشد كفّ أيدي الجبابرة عن استضعاف البشرية. أما بالنسبة للمجتمع فالإسلام دين الرحمة والمغفرة وقد دعاهم إلى الرشد. ووظيفة الدعاء تحصيل الرشد الاجتماعي ورفع الاستضعاف عن المجتمع.
وأكّد سماحته أنّ الدعاء في الأساس هو تعبير عن منهج تربوي كامل ومتكامل. وعندما نراجع مصباح الشيخ الطوسي، أو مصباح الشيخ الكفعمي أو كتاب الإقبال لابن طاووس، أو الصحيفة السجادية نكتشف أنّ عنوان الدعاء يتكفّل ببيان كافة شؤون الحياة المادية والمعنوية للإنسان. والدعاء هو أسلوب خاص في التعليم والتعلّم اعتمده الإسلام، لا يختص بأهل العلم أو بالنخب، بل هو يتسع ليستوعب كافة الشرائح الاجتماعية.
ويرى سماحته ضرورة أن نضع الدعاء في نصابه، لأنّه يُفهم على أنّه وسيلة نستخدمها لكي نطلب من الله شيئًا وينتهي الأمر، ولو على مستوى لقلقة اللسان. وقال: نحن اعتدنا قراءة الدعاء، علينا أن نراقب أنفسنا هل نحن نتفاعل مع الدعاء؟ هل نتقدّم من خلال الدعاء شوطًا إلى الأمام؟ وما هو الهدف المراد من الدعاء، لكي نستكشف أنّنا فعلًا من أهل الدعاء ونحصل على ثمرته أم لا؟ فالإنسان من خلال الدعاء يتوجه بكل وجوده وكيانه وروحه وعقله وقلبه، لذلك ورد في الروايات: “إذا اقشعر جلدك ودمعت عيناك ووجل قلبك فدونك دونك فقد قُصد قصدك”. وما ورد في الدعاء لا بدّ أن نلتفت إلى أنّنا أمام منهج كامل ومتكامل.
وعن قبول دعوة المظلوم، قال سماحته: الظلم قبيح بذاته لذا اتقوا دعوة المظلوم ولو كافرًا. فالكافر يستحق ما يستحق، ولكن لا يجوز أن نتجاوز هذا الاستحقاق لأنّه عدل. وقد فتح الله باب الدعاء للجميع ولكنه لم يفتح باب الاستجابة للجميع. وعندما نتحدث عن الدعاء المستجاب نقول مثلًا أنّ دعوات لا يُحجبن عن الرب تبارك وتعالى:
الأولى: دعوة الإمام المقسط، فنحن نذهب إلى كبار العلماء أو ولي أمر المسلمين ونطلب منه الدعاء، لأنّ دعاء الولي والإمام المقسط مستجاب وغير محجوب.
الثانية: دعوة المظلوم، لأنّ الظلم قبيح بذاته بصرف النظر عن واقع الإنسان الذي ظُلم.
الثالثة: دعوة الوالد لصالح ولده، أو الولد لصالح والديه.
الرابعة: دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب. وليس المقصود هنا أنّ هناك وضعيات جاهزة لاستجابة الدعاء، وإنّما المقصود أنّ هذه المواضع هي مواضع صدق ومعرفة وبصيرة بالدعاء.
وأشار سماحته إلى أنّ الدعاء سلاح وضعه الله بين يدي المؤمن ليتغلب على العقبات الدنيوية والمادية وينتصر عليها، وهذا معنى أنّ الله وليّ الذين آمنوا وهو ينصرهم ويسددهم ويؤيدهم. وقد شرّع الله لنا الدعاء لصالحنا، ولأنّنا في وجودنا وكياننا نفتقر إليه لما هو في مصلحتنا. ولا يمكن أن يستجاب الدعاء الذي ليس فيه مصلحة للمؤمن، لأنّ الله لا يفعل إلا ما فيه مصلحة للعبد. وقد يؤخر استجابة الدعاء رعاية لمصلحة العبد.
وختم سماحة الشيخ حسن بدران كلامه قائلًا: لا شك أنّ للدعاء أبعادًا كثيرة، وأهمها أن يتكلم الحبيب مع الحبيب؛ لأنّ البعض يجد في الدعاء لذة. ولا شك أنّ العزة لله جميعًا، وأنّه لا عزة لإنسان إلا في ظل الدعاء ومع الدعاء.
ثم تحدثت الدكتورة خديجة صفا عن لفظة الدعاء، وقالت إنّها لفظة نحتية من دو وعاء، والدو هي الأرض المستوية بعيدة الأطراف بين الداعي والمدعو، وهذه الأرض يُسمع فيها صوت دوي الداعي المتردد حتى يستجاب له، لذا كان أمر الباري “ادعوني أستجب لكم”. وإذا تأملنا بهذه الآية وغيرها من الآيات نجد أنّ الخطاب من عند الله، وأرضية الدعاء هي أرض الخطاب الإلهي في البعد الروحي وفي المنطق الإنساني.
وقالت الدكتورة صفا: إنّ علاقة الطلب تكون بين أنا وأنا، ثم تتحول لعلاقة عشق فتصبح أنت وأنت. فالدعاء هو مخ العبادة، وهو صلاة. وأثناء الدعاء يكون الإنسان بكامل وعيه وتنبّهه، ويكون لديه الاعتراف بعبوديته ووحدانيته. والدعاء يعطي نتيجة أكثر من الصلاة، وهذا لا يعني التقليل من شأنية الصلاة، ولكن الصلاة هي أيضًا دعاء. والدعاء عمليًّا ينجّح الصلاة، لأنّ الإنسان يصبح أنيس الله في المرحلة الأخيرة من الدعاء، لأنّه مطلب أنس، والله هو يقول “ادعوني”.
وأشارت الدكتورة صفا، إلى أنّ النفس هي التي ضربت حجابًا على الله، نتيجة الذنوب، أو عدم الفهم، أو التربية الخاطئة، وما توسّل السيدة الزهراء بأهل البيت (ع) إلا لتثبيت أنّهم الأسباب الحقيقية للوجود كله.
وعن سر الأدعية الموجودة في الصحيفة السجادية، قالت إنّه طالما للدعاء أبعاده الاجتماعية والأخلاقية فهو يصب بالمصير الوجودي. ولتغيير الوضع العام يجب أن يكون القلب واحدًا. وعندما قال الله سبحانه: ﴿ما كنت لأعذّبهم وأنت فيهم﴾ كان الرسول موجودًا حينها، والإمام السجاد كان هو موجودًا حين دعا، ولكن عندما لم يعد موجودًا تبدّل بالاستغفار، فوجودهم نظام.
وأوضحت الدكتورة صفا أنّ في الدنيا عبادة رهبة، وعبادة رغبة. وأنّ عبادة الرهبة هي عبادة الشيطان، وعبادة الرغبة هي عبادة المؤمن بالله. وفي عبادة الرهبة يخاف العابد من الله ومن عقابه، أما عبادة الرغبة يخشى من الله أمام جلاله. وفي عبادة الرهبة ضرب حجاب الخوف وعدم الاستئناس بينه وبين الله، بينما عبادة الرغبة فهو يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكره الله. ومن يعبد الله في فطرته فقد نشّط النفس الإلهية اللانهائية الموجودة فيه، ويصبح إذا وضع يده على مريض يشفى. فهو يريد ما يريده الله وما يكرهه الله يكرهه هو. والتقاء الرغبة والرهبة يكون من أعلى أنواع العبادة، والمهم بأسلوبية الدعاء هو وجوب وجود الخشوع، وعدم اقتراف الذنوب والمعاصي، وعدم الدعاء بما يخالف السنن الإلهية، وحسن الظن بالله.
ثم ختمت الدكتورة خديجة صفا كلامها قائلة: يجب أن لا يقنط العبد، وأن يواظب على الدعاء، وأن لا ينصرف عن غير الله، وأن يقبل على الله. وكمقاربة مع الزئبق الذي شبهته بقلب بشري مثقل بالآلام والأهواء، قالت: عندما يستطيع الإنسان أن يتخطى التناقض الجنسي الذي يعاكس الذكر والأنثى فيه، يستطيع أن يهيمن على كل التناقضات الأخرى لمعرفة جوهره. وعلى الداعي الذي عرف ذاته، أن يسهر على اللطائف ويُحسن مزاوجة الأشياء، لإظهار ما كان كامنًا ومتخفيًّا. وهذه الصنعة هي صنعة كل الفلاسفة التقويميين في مسعاهم لتوليف الأضداد بدراسة العناصر الأربعة، والوصول إلى توحيدها. وهي تتوحد في الريح، أي الهوى، أي الحب.
وكان الختام مع الشيخ سمير خير الدين الذي تحدث عن الأثر الوجودي للدعاء، انطلاقًا من دعاء السيدة الزهراء (ع) الذي تقول فيه: “أسألك بالاسم الذي دعاك به خليلك حين أُلقي في النار فاستجبت له وقلت يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، وبالاسم الذي دعاك به موسى جانب الطور الأيمن فاستجبت له دعاءه، وبالاسم الذي كشفت به عن أيوب الضر، وتبت على داوود وسخرت لسليمان الريح تجري بأمره والشياطين وعلمته منطق الطير، وبالاسم الذي وهبت لزكريا يحيى… وبالاسم الذي قدرت به على كل شيء”. مجيبًا عن سؤال: ما هو الأثر والأبعاد الوجودية للدعاء؟ وهل صحيح أنّ الدعاء قد يغيّر بمصائر الكون والإنسان والمجتمعات؟
وقال: لا شك أنّ موضوع الدعاء يترابط مع مفاهيم أخرى، لذلك يجب أن يلحظ المدخل إلى الدعاء تلك المفاهيم. مفردة الدعاء هي أصل لمفردة الصلاة، وتشترك فيها أديان أخرى، وليس فقط الدين الإسلامي. والدعاء بالمنطق القرآني ذو تأثير واقعي ووجودي يقينًا. حتى أنّ هذا الدعاء الوارد عن السيدة الزهراء (ع)، عندما تسأل الله تعالى بالاسم الذي (دعاك)، فهي تتوسط اسمًا من أسماء الله تعالى، وهذا يفيدنا بأنّ للدعاء مداخل، فلا يكون هو مطلق توجه، بمعنى أنّه ليس طقسًا يُمارس من خلال العلاقة بين الداني إلى العالي بين العابد والمعبود.
وتابع قائلًا: كي تجاب دعوة الداعي لا بدّ من شروط محددة، فلا يصدق على مطلق توجه أنّه مطلق دعاء، كما وأنّ ليس مطلق دعاء سيغيّر مصيرًا. بمقدار معرفة الإنسان بالله، بمقدار صيرورة الإنسان عبدًا لله، وبمقدار صيرورة الإنسان عبدًا لله بمقدار صدق الدعاء. ومفهوم العالي بالنسبة للعارف سوف يُحدث لديه توجهًا يتناسب مع مقدار فهمه لهذا العالي في قلبه. الدعاء يرتبط بفهم الله تعالى أكثر بالنسبة للداعي.
وأضاف الشيخ خير الدين أنّ الدعاء ليس مجرد علاقة طقسية، بل لديه مهمة تغييرية تبدأ بتغيير الذات، وهذا ما نجده في دعاء مكارم الأخلاق؛ ومهمة اجتماعية، والمهمتان مترابطتان في خط السير نحو المصير النهائي، وهو بناء الآخرة والقرب الإلهي.
ولفت إلى أنّ النماذج القرآنية ترينا أنّ الدعاء ذو أثر تكويني. ولذلك مقتضى أن يأمر الله بالدعاء، وأن يحث البشر على اللجوء إليه في الدعاء أن يكون للدعاء أثر. ولذلك حتمًا هو ذو أثر في تغيير المصير. يجب أن ننتبه إلى أنّ التوجه إلى الله يتطلب عندما أدعو الله وأتوجه إليه يكون من خلال صفاته تعالى، والدعوة إليه لا بدّ أن تتناسب مع طبيعة المدعو، فإذا كنت أريد رزقًا هناك أوصافًا إلهية تتناسب مع الرزق. وفي داخل طبيعة الدعاء في نصوص أهل البيت (الصلوات على محمد وآل محمد) هي من المفاتيح لاستجابة الدعاء.
واعتبر أنّ موضوع الدعاء يرتبط بالشؤون الحياتية، وبمواجهة الأعداء، وبالمسائل العقائدية. فالصحيفة السجادية المعروفة بزبور آل محمد، فيها أدعية تتعلق بشؤون حياتنا المختلفة، منها شؤون إلهية، وشؤون متعلقة بالزمان، وبالمكان، وبالسفر، وهذا يكشف عن أنّ الدعاء مترابط مع كل علاقات الإنسان.
وتابع قائلًا: ورد في النصوص “اتقوا دعوة المظلوم فإنّ دعوة المظلوم تصعد إلى السماء”، إنّ عنوان المظلومية لم يكن منحصرًا بدين، ولذلك هو بحدّ ذاته يكفي كي يكون سببًا لوصول الدعاء. والإسلام دين العدالة، ولكي أحقق العدالة ينبغي أن لا ألحظ التفرقة بين مسلم وغير مسلم، فالمظلومية شأن، ولذلك ورد أنّ الذين تستجاب دعوتهم هم المظلومين.
وبيّن الشيخ خير الدين أنّ الإله الذي تحدث عنه الأنبياء هو إله جميع البشر. وهذا يعني أنّ كل إنسان مفطور على التعلق بالله تعالى، ولكل إنسان مقدار من الشعور بالله تعالى، وهذا المقدور ميسور ومتاح ليرتبط بالله تعالى. وهذا الدعاء بمقدار معرفته يحقق الله عز وجل عليه الآثار، فدرجات الاستجابة تختلف من عارف إلى عارف. لذا فإنّ دعاء الشخص العامي يختلف عن دعاء النبي (ص) وإن كان العامي له سهمه ونصيبه. ويقولون عندما نسير إلى الله تعالى تتفاوت درجة الامتثال بين البشر، وعبادة الأحرار هي أعلى درجاتها، أولئك الذين يعبدون الله لأنّه أهل للعبادة. وقد قال الفقهاء إنّ عبادة الرهبة يترتب عليها الثواب وليس مآلها العقاب، لأنّ غالب الناس يعبدون الله رهبة وخوفًا، وهذه العبادة هي دون مرتبة عبادة الأحرار. وتحدثوا عن عبادة الرغبة، وقد قالوا أيضًا إنّها عبادة التجار، كما جاء في الأحاديث، ولكن نفس الطريق هو طريق أدنى ممن يعبد الله لأنّه أهل للعبادة.
وأكّد أنّ العبادة خوفًا هي شكل من أشكال السير إلى الله، والعبادة رغبة وطمعًا هي شكل أيضًا من أشكال السير إلى الله عز وجل، ولا ينحصر الأمر بعبادة الأحرار الذين هم قلة قليلة، ورحمة الله وسعت كل شيء.
وقال: أعتقد أنّه يجب طرح مفهوم الدعاء، أو المفهوم الديني كما طرحه الدين لا كما أرغبه أو كما يرغبه المستمع. والإسلام جاء دينًا سمحًا، والأصل بالنسبة لله تعالى هي الرحمة. وعن الإمام الصادق (ع) “أنّ الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه، فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفًا من النار فتلك عبادة العبيد وهي رهبة وهي رغبة، ولكني أعبده حبًّا له عز وجل فتلك عبادة الكرام لقوله عز وجل (وهم من فزع يومئذ آمنون)”. والسيد العلامة الطباطبائي يقول إنّ توصيفهم (ع) عبادة الأحرار تارة بالشكر وتارة بالحب، والعبادة شكرها أن تكون لله الذي يستحقها لذاته فيعبد الله لأنّه الله.
وختم الشيخ سمير خير الدين كلامه قائلًا: تؤكد النصوص على أنّ قسمًا من الناس من لا يُستجاب له. منهم من ترك التكسّب وهو يقدر عليه وجلس في البيت ودعا لطلب الرزق. ومنهم من دعا على جار يؤذيه وهو القادر على التحوّل عن جواره. ومنهم المصرّ على المعصية. ومنهم آكل الحرام. ومنهم من دعا بقلب قاسٍ أو ساهٍ. ومنهم من دعا وهو آيس من رحمة الله وقانط من الإجابة. ولا شك أنّ كل هذه الأمور تدل على أنّ الدعاء هو في مصلحة الإنسان.
[1] الأربعاء 3/ 2/ 2021.
[2] أستاذ في الحوزة العلمية وباحث في معهد المعارف الحكمية.
[3] أستاذ مادة المنطق في معهد المعارف الحكمية.
[4] حائزة على شهادة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها من الجامعة الإسلامية، وهي كاتبة لبنانية حائزة على عضوية اتحاد الكتّاب اللبنانيين، لها مؤلفات في الفلسفة والفكر الصوفي العرفاني وفي النقد الأدبي والفلسفي، والشعر الصوفي.
[5] سورة البقرة، الآية 186.
[6] سورة النمل، الآية 62.
المقالات المرتبطة
مباني الفكر الإسلامي | نظرية المعرفة | طرق المعرفة (4)
أسئلة الدرس (لا تفوّتوا فرصة الحصول على شهادة تحصيل المادّة عند إجابتكم على الأسئلة في نهاية كلّ درس عبر التعليقات)
مناقشة لكتاب الدين بين معطيات العلم وإثارات الالحاد
أقام منتدى قارئ للشباب مساء أمس مناقشة لكتاب الدين بين معطيات العلم وإثارات الالحاد في معهد المعارف الحكمية مع الدكتور عبدالله زيعور
تجديد العهد لأمير المؤمنين (ع) بولاية الإمام الخامنئي
أقام منتدى قارئ للشباب لقاء تحت عنوان ” تجديد العهد لأمير المؤمنين (ع) بولاية الإمام الخامنئي (حفظه الله)” مع سماحة