الدعاء في القرآن وأحاديث أهل العصمة (ع)
إنّ الدعاء مفتاح القلب للفيوضات الإلهية، وهو باب فتحه الله تعالى لعباده ليشعرهم بالقرب الإلهي في كل حال، وهو الذي أرسل إلينا دعوة لكي نتقرب إليه ونستشعر هذا القرب في حال سألنا عن الله تعالى، فخاطب حبيبه قائلًا: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[1].
وللدعاء أثر بالغ في تقوية العلاقة مع الله تعالى، وتثبيت العقيدة، وتجسيد أعلى مظهر من مظاهر العبودية والخضوع أمام الله تعالى، وقد وصف الباري عز وجلّ الذين يمتنعون عن ممارسة عبادة الدعاء بالتكبر وادّعاء الاستغناء عن الباري جلّ وعلا: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [2].
يجد الداعي لروحه غذاء، ولنفسه دواء، يدعم كيانها، ويقوى بنيانها، ويجعلها تتغلب على كل ما يؤثر عليها، فلا يتسرب إليها يأس، ولا يتملكها ضعف، وتشعر بالاتصال بالغني المطلق، وتستمد القوة التي تمكّنه من مواجهة الصعاب والتحدّيات بعزم ثابت وإيمان راسخ.
ومن خصائص الدعاء توجيه القلوب نحو التوحيد، ونحو الله، ونحو أسمائه وصفاته، وتجلياته وفيوضاته، ويصبح الإنسان مستعدًّا دائمًا وأبدًا لتطهير قلبه من دنس الخطايا، ويشرق قلبه ليرتقي في مدارج الكمال، وقد تحدثت الآيات القرآنية عن أهمية الدعاء فضلًا عن الروايات الواردة عن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة.
معالم الدعاء في القرآن الكريم.
شغل الدعاء مكانًا مهمًّا في طيّات الكتاب الكريم، وقد تناثر عبيرها في طيات سوره المكيّة منها والمدنيّة، طوالها وقصارها، ويستشعر المتدبّر بالقرآن الكريم تعدّد صور هذه الآيات، وتنوّع أسلوبها، فتارة يجد حثًّا على الدعاء، وثانيًا تعليمًا لكيفية الدعاء، وتارة يشرح آداب الدعاء من خلال نماذج يقدمها في كتابه العزيز لبعض من عباده المؤمنين راسمًا لنا نهجًا واضحًا في هذا المقام.
وسوف نذكر بعض من نفحات هذه الآيات في هذا المقام لنستفيد من ضياء نورها، فتخرج أنفسنا من الظلمات إلى النور.
فنجد أن الله تعالى يطلب منا أن يكون الدعاء فيه إخلاص وارتقاء، وذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[3].
وقد أمرنا الله تعالى أن ندعوه في السراء والضراء، وأن لا يقتصر الدعاء في حالة الضراء فقط؛ لأن ذلك خلاف التأدّب في محضر الله تعالى.
فأشار الكتاب العزيز إلى ذلك: ﴿إِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[4].
وينبئك بيان الحالات الثلاث “الاضطجاع والقعود والقيام” للإنسان الداعي مدى الاجتهاد في الدعاء والتضرّع إليه تعالى لكي يكشف الضّرّ عنه، هذا أمر مهم إلا أنه ينبغي أن يكون من الإنسان في كل حال، وهذا مقتضى التأدب مع العزيز الجبار الذي بيده ملكوت السموات والأرض وخزائن العلم والأسرار.
ومن جانب آخر امتدح القرآن الكريم الذين انتهجوا نهج الحقّ في الدّعاء، ووجّهوا دعاءهم إليه تعالى آملين – بخشيةٍ وسرورٍ – إجابتهم قال تعالى: ﴿… إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[5].
أهمية الدعاء في مدرسة أهل البيت (ع).
لقد حثّ أهل البيت (ع) على أهمية الدعاء الذي يمثّل اتصال دائم بين العبد وربه، ودعوا إلى عدم ترك هذا الأمر في جميع الأمور، الصغيرة منها والكبيرة، فعن صادقهم (ع): “عليكم بالدعاء، فإنكم لا تقربون بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار”[6].
والله تعالى يحب ذلك من عبده، فعن رسول الله (ص): “فيما أوحى الله إلى موسى -: يا موسى، سلني كل ما تحتاج إليه، حتى علف شاتك، وملح عجينك” [7].
إلا أنّ مدرسة أهل البيت (ع) المنبثقة من الثقل الأكبر كتاب الله تعالى تؤكّد على التمسك بآداب الدعاء، فقد وضع الإمام الصادق (ع)، منهجًا خاصًّا لآداب الدعاء، حيث يقول: “احفظ أدب الدعاء، وانظر من تدعو، وكيف تدعو، وحقّق عظمة الله وكبرياءه، وعاين بقلبك علمه، بما في ضميرك، وإطلاعه على سرك، وما تكون فيه من الحق والباطل، واعرف طرق نجاتك وهلاكك، كي تدعو الله بشيء فيه هلاكك، وأنت تظن أن فيه نجاتك، قال الله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ وتفكر: ماذا تسأل؟ وكم تسأل؟ ولماذا تسأل؟!
والدعاء: استجابة الكل منك للحق، وتذويب المهجة في مشاهدة الرب، وترك الاختيار جميعًا، وتسليم الأمور كلها، ظاهرًا وباطنًا، إلى الله تعالى فإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة، فإنه يعلم السر وأخفى، فلعلك تدعوه بشيء، قد علم من سرك خلاف ذلك…” [8].
أهمية الدعاء بالمأثور.
ينبغي للإنسان أن يلتفت إلى هذه الآداب حتى يكون الدعاء عن وعي وإدراك وبصيرة، وأن نلتفت من أين نأخذ مصادر الدعاء، لأن أهل البيت (ع) في كلامهم أفضل تعبيرٍ عن العبودية والتضرّع والخضوع لربّ العالمين، وعنها يقول الإمام الخميني (قده): “إن الأدعية والمناجاة التي وصلتنا عن الأئمة المعصومين هي أعظم أدلة إلى معرفة الله جل وعلا، وأسمى مفاتيح العبودية، وأرفع رابطة بين الحق والخلق. كما أنها تشتمل في طياتها على المعارف الإلهية، وتمثّل أيضًا وسيلة ابتكرها أهل بيت الوحي للأنس بالله جلّت عظمته، فضلًا عن أنها تمثّل نموذجًا لحال أصحاب القلوب وأرباب السلوك”[9].
ادع الله بيقين وظنّ أن حاجتك بالباب.
أيّها الداعي أنت واقف بين يدي الذي إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، فثق بالله تعالى، وأحسن الظنّ به، وعندما تطلب حاجتك استشعر بأنّ الإجابة قريبة لدرجة أنّك تحسبها أقرب إليك من حبل الوريد، وقد أكّدت الكثير من الروايات الشريفة على أهمّية الإقبال القلبي وأثره في قبول الدعاء، وسماع الله تعالى من العبد، ففي الرواية عن أبي عبد الله (ع): “إنّ الله عزَّ وجلَّ لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة”[10].
وفي رواية أخرى عنه (ع) قال: “إذا دعوت فأقبل بقلبك وظنَّ حاجتك بالباب”[11].
وفي الختام فإنّ الدعاء زاد المؤمن في كافّة تفاصيل حياته، وهو صلة الوصل بين العبد وربّه، وموعد للحبيب مع المحبوب الأوحد، ففيه ارتقاء إسراء الروح، وعروج القلب إلى حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فالله تعالى جليس من يذكره، وما علينا سوى الاقتراب من خلال الدعاء، وذكر الله تعالى في كل حال.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ (ع)، عَنِ النَّبِيِّ (ص): “أَنَّ مُوسَى لَمَّا نَاجَى رَبَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ أَبَعِيدٌ أَنْتَ مِنِّي فَأُنَادِيَكَ، أَمْ قَرِيبٌ فَأُنَاجِيَكَ؟
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي.
فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ إِنِّي أَكُونُ فِي حَالٍ أُجِلُّكَ أَنْ أَذْكُرَكَ فِيهَا؟
قَالَ: يَا مُوسَى اذْكُرْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ” [12].
[1] سورة البقرة، الآية 186.
[2] سورة غافر، الآية 60.
[3] سورة غافر، الآية 65.
[4] سورة يونس، الآية 10.
[5] سورة الأنبياء، الآية 21.
[6] الكليني، أصول الكافي، الجزء 2، الصفحة 466.
[7] المجلسي، البحار، الجزء 93/295.
[8] المجلسي، البحار، الجزء 19 / 44.
[9] الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، الطبعة2، الصفحة 120.
[10] – الكليني، الكافي، ج2، 473.
[11] – الكليني، الكافي، ج2، 473.
[12] – وسائل الشيعة، ج1، 311.
المقالات المرتبطة
جدلية المعرفة الحضورية والزمنية عند الإمام الخميني قده
يقدم لنا الأستاذ علي فخري في مقاله هذا قراءةً أجراها في كتاب الإمام الخميني، جدلية المعرفة الزمنية والحضورية،
التصالح المجتمعي بين الدين وعلمانية الدولة
يعالج هذا البحث التصالح المجتمعي بين الدين والعلمانية، وهو يبدأ بتعريف العلمانية، لينتقل بعد ذلك إلى معالجة التاريخ والنشأة،
اللاهوت الطبيعيّ ومعرفة الله الوجوديّة إشكاليّة الوحي في لاهوت رودولف بولتمان
في حين تسترسل تيّارات لاهوتيّة وفلسفيّة مسيحيّة، وغير مسيحيّة، بالكلام عن اللاهوت الطبيعيّ