تلخيص كتاب روائع المناجاة – شرح المناجاة الشعبانيّة ومناجاة المريدين

by سكينة أبوحمدان | مارس 31, 2021 6:27 ص

يتميّز الشيخ مصباح اليزدي بأسلوبه الهادئ وكلماته العذبة الهادئة التي تنساب انسيابًا، وتدخل إلى القلب دون تكلّف. وبين أيدينا كتاب روائع المناجاة- شرح المناجاة الشعبانيّة ومناجاة المريدين الذي قدّم الشيخ فيه شرحًا متسلسلًا للمناجاة الشعبانية المستحبّ قراءتها في شهر شعبان، ومجموعة من الدروس في شرح مناجاة المريدين.

ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام. القسم الأول المناجاة الشعبانيّة كاملة، والقسم الثاني شرح لها. أمّا القسم الثالث عرض لمناجاة المريدين، والرابع شرح لها.

اعتمد معدّ الكتاب في شرح الشيخ اليزدي تقسيم المناجاة إلى فقرات، وبيان أهميّتها وما أراده منها.

يبدأ الدعاء بشكل عام بالصلاة على محمّد وآل محمّد. ويعدّ الافتتاح والاختتام به شرطًا ضروريًّا لقبول كلّ دعاء عند الله تعالى، ويعود سبب ذلك أنّه من أخلص الأدعية لأفضل العباد، ويستحيل على الله أن يردّ دعاءً مسبوقًا وملحوقًا بدعاءين مستجابَين. وطلب الرحمة للنبي (ص) وأهل بيته (ع)، بما يفيض وعاؤهم الوجودي من الرحمة الإلهيّة، تعود بالبركة على الداعي. كما تبرز أهميّة الصلوات في جعلها جزءًا من التشهّد في الصلاة، وعدم الإتيان بها يوجب بطلانها. وحكم وجوب الصلاة على محمّد وآله لا يختصّ بالشيعة، بل هو محلّ اتفاق الفريقين.

والصلاة على محمّد وآله هو جزء من الأدب واللياقة وإبراز العشق والمحبّة لأعزّ أولياء الله تعالى وأسلوب في جذب نظر الله وعنايته قُبيل طرح مطلب السائل ومسائله.

وبعد ذكر الصلاة المحبّبة على الباري تعالى، يدخل العبد إلى ساحة لطفه وكرمه، ويطلب من الله أن يسمع دعاء عبده الضعيف المذنب العاصي ونداءه. والسماع ليس من قبيل سماع شخص لشخص آخر، أو ذبذبات صوتيّة تصل إلى الأذن بشكل ماديّ جرّاء اصطدام الصوت بالأذن. هو تلك العناية الخاصّة التي يوليها الخالق الجبّار لعبد لا يملك لنفسه دونه ضرًّا ولا نفعًا. هو مناغاة الحبيب لحبيبه. فيتدرّج الإمام في مناجاته من الدعاء بمعناه العام الذي يتحقّق في أي مكان وزمان ولغة، إلى النداء الذي يتحقّق بسماع الآخر صوت المنادي، إلى مرتبة أعلى وهي مرتبة النجوى، وهي كلام خاصّ سرّي مع قريب وأنيس، وهو الغرض من المناجاة الشعبانيّة.

فذكر الإمام زين العابدين (ع) هذا النهج العملي للعباد الحقيقيين في بدايتها، وبدأ بتحضير الداعي لرعاية آداب الدعاء، والاستعداد اللازم لورود عتبة اللطف الإلهي عبر التزوّد بنوع خاص من التأدّب في محضر الله.

فبعد أن يدعو الإنسان الله ليسمعه ويقبل دعوته، يتوجّه الداعي إلى الله كونه الملاذ الآمن من جميع ما يهرب إليه، من الخوف والقلق، من نفسه الأمّارة بالسوء، من ذنوبه وأعدائه. وهذا الفرار هو فرار روحي وقلبي ومعنوي من الأسفل إلى الأعلى في حركة صعوديّة اضطراديّة تزداد صعوبة كلّما اخترق المرء منزلًا من منازل السير نحو الله، كما تزداد جاذبية ورونقًا نحو المتعال. وهذا الصعود يشبه تسلق الجبال حيث يصعب طريق الوصول كلّما شدّ الإنسان نحو الأعلى، فتعب جسده إلّا أن روحه تاقت نحو الوصول أكثر.

كما يعرض الشيخ اليزدي أنواع الأعداء الذين يعترضون طريق وصول الإنسان:

ثمّ يقف الإنسان مستكينًا متضرّعًا بين يدي الله سبحانه وتعالى، كذلك المريض الذي يكاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في حالة انكسار وتضرّع يرجو ما عند الله من خلاص وأمل في النجاة؛ فيرى نفسه على حقيقتها من نقص وضعف وحاجة، ويعرف أنّ الله يعلم ذلك الضعف، ويخبر حاجته، ولا يخفى عليه أمره، وما يريد أن يتلفّظ به من منطق.

وفي كلّ ذلك اعتراف أمام الله بأنّه تعالى مطّلع على خفايا أموره، فلا يمكن التلاعب معه وتغافله كما يفعل مع الأشخاص العاديّين أمثاله. يقول له: إنّي يا إلهي أتكلّم بكل صدق وشفافيّة، وأنت تعلم ذلك مني، لأنّي لو كنتُ أضمر الكذب والخيانة لعلمت ذلك لأنّك تعلم كلّ أسراري المعلنة والمضمرة. حتّى تلك الحاجات التي أخفيها على أمثالي من البشر من الحاجات الماديّة والباطنيّة أنت تدركها، وتدرك بحكمتك إن كنتُ بحاجة إليها أم كانت مجرّد طلبات لا طائل منها.

إنّك يا الله تعرف ضميري وباطني، ورغبات قلبي أكثر منّي لأنّك خالقي، ولا يخفى عليك أمر منقلبي ومثواي. وفي ذلك مزيد من الاعتراف بمن نقف بين يديه، من يعلم مستقبلنا، وما سيكون عليه مصيرنا النهائي. حتّى ما أريد أن أتفوّه به تعلمه يا إلهي، وتعلم ما أرجوه لعاقبتي. وهذا إقرار فصيح بالربوبيّة الإلهيّة والتدبير في مقام الإجراء والتنفيذ والعمل، وأنّ الله سبحانه لديه القدرة على تغيير الإنسان وانقلابه من حال إلى حال، فيطلب العبد منه تعالى أن يصلح حاله إلى أحسن حال.

هذا الخطاب الذي يجري على لسان العبد هو لسان الحبّ والمحبّة، وليس لسان البرهان والاستدلال والجدال، بل هو لسان العشق لمعشوقه، لسان حال من الدلال كطفل يتدلّل على أمّه، ويعلم أنّها تسمع كلّ حرف من حروفه، وتتحسّس كلّ حركة وسكنة من سكنات قلبه.

تحوي المناجاة الشعبانية بمقدار النصف أو ما يزيد هذه الاعتذارات والتبريرات؛ بغية أن يصير الإنسان مؤهّلًا ولائقًا للعفو، مبعدًا عن نفسه التلّوث والقذارة التي تطرده من ساحة القدس والقداسة. وحين يسمح الله للعبد أن يكلّمه بهذا اللسان، ويتركه يسترسل في الحديث معه فقد أدخله ساحة رحمته وشمله اللطف والعفو، وأدرك القرب، وإن لم يعد يريد شيئًا ممّا طلبه سوى هذا القرب.

فإنّ من الذنوب ما يخرج العبد من الساحة الإلهيّة لكي يصبح مورد غضب الربّ وسخطه، وهذا ما يحرص أن لا يكون كذلك، فيستعيذ به تعالى أن يكون محلّ غضبه، ويستجلب سخطه. فلا تكمن المشكلة فقط في الاعتراف بالواحد الأحد، فإبليس مثلًا لم يكن منكرًا لخالقية الله له، بل دعته روحه الاستكباريّة لإنكار الربوبيّة التشريعيّة، رفض أن يطيع الله من حيث أراد، أراد أن يعبد الله من حيث يريد هو، وتريد نفسه فكان كفره أسوأ الكفر، وأخرجه الله من رحمته، وحُرم من عطف الله ولطفه فاستوجب غضبه.

ثمّ ينادي هذا العبد الضعيف ربّه “إلهي” أعرف أنّي لا أستحقّ الرحمة بأفعالي وأعمالي غير اللائقة، ولكنّك أهل الجود وصاحب السعة الكبيرة، فلا تعامل عبيدك بما يستحقّون من الفضل، بل بما أنت عليه من الرحمة الواسعة التي تشمل كلّ البشر والحجر. وأنا يا ربّ أقف بين يديك، وإن كانت يداي خالية، إلّا أنّ حسن التوكّل عليك أن تعاملني بعفوك.

وإذا كان العفو حسنًا فمن أفضل منك ليعفو؟ وإن عفوت فذلك ليس بعيدًا عنك وعن رحمتك. وإن كان عملي لم يقرّبني إليك، وقد حكمت عليّ بنهاية أجلي، فإنّي يا إلهي أعترف بذنبي، وأجعل هذا الإقرار وسيلتي للتقرّب إليك وإلى رحمتك.

هذا الاعتراف بالذنب هو دليل على أنّ الإنسان لم يُبتلَ بالعُجب والأنانيّة وعبادة الذات، لأنّه حينها لن يكون مستعدًّا للاعتراف بخطئه حتّى في الخلوة. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى نماذج عن بعض الأشخاص مثل ابن نوح وزوجتي نوح ولوط كدليل على أنّ كون الإنسان في بيئة صالحة لا يلزمه أن يكون صالحًا. ومن جانب آخر، ضرب الله مثلًا زوجة فرعون التي كانت تعيش في بيت طاغية إلّا أنّها وصلت إلى مقامات عرفانيّة عالية.

يضع المرء نفسه أمام الله تعالى؛ ليحاكمه بعفوه لا عدله، ويسعى إلى استعطاف ذات الله من أجل جذب عطفه وحبّه، فيؤنّب نفسه، ويدعو عليها بالويل إن لم تستطع أن تنال العفو المرجوّ من الله، لأنّه حينها لا سبيل إلى خلاصه. وها هو يشكو نفسه إلى الله لأنّه ظلم نفسه باتباع الهوى.

أنت يا إلهي أحسنت لي طوال حياتي، وهيّأت لي ظروف وشرائط وجود نعمتك ولطفك من قبل أن تخلقني. وقد كنتُ تحت ظلّ نعمك اللامتناهية التي لا يمكنني إحصاؤها طول عمري. وأنا أطمع أن يستمرّ عطفك عليّ بعد مماتي، وأحتاج إلى إحسانك أكثر في ذلك العالم، فلا تقطع برّك عنّي. فعادتك الإحسان، لذا كيف لي أن آيس من حسن نظرك لي، وأنت لم تولّني إلّا الجميل في حياتي؟ فما رأيتُ منك سوى الحسن والجمال واللطف، وأنا أتطلّع بأمل ورجاء أن يستمرّ ذلك بعد الموت.

اللّهم، إنّ مقتضى ارتكابي للذنوب والمعاصي أن تعاقبني، لأنّي غير لائق للثواب، بل ينبغي أن أعاقب، ولكنّك أهل الإحسان والكرم والصفح، وإن عفوت فلن يعترض عليك أحد، فاجعل يا ربي أموري وعاقبة أمري بما أنت أهله، وعاملني بمقتضى كرمك وعطفك، وليس بمقتضى ذنوبي.

فهذه المعاصي التي أقترفها ناشئة من جهلي أنا تحديدًا، من تقصيري بمعرفة نتائج هذه الأعمال وتبعاتها. ولو أدرك الإنسان ما سيناله من سعادة، وسلك طريق العبوديّة، فلن يرتكب المعصية.

إلهي، لقد سترت عليّ ذنوبًا في هذه الدنيا لو اطلع عليها غيرك فسوف يهرق ماء وجهي، إلّا أنّ وخامة الفضيحة في الآخرة على رؤوس الأشهاد أعظم منها في الدنيا، وأنا محتاج إلى سترك الجميل حين تعرض الأمور على الخلائق أجمعين.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ البلاءات التي تعرض على الإنسان في الدنيا هي في سبيل تطهير أرواحهم من أدران المادة، فإن لم يتطهّروا فيها، تُعرض عليهم صعوبة سكرات الموت وعالم البرزخ، وضغطة القبر وغيرها من الحالات، فقط لأنّ الله يريد بمنّه أن يصلوا إلى الجنّة غير مدنّسين بالذنوب.

والارتباط بالله يكون على وجهين:

وفي كل الأحوال، يتوجّه الإنسان إلى الله بضعفه؛ ليستجلي قوّة منه تعالى، وبذنبه؛ ليستجلي عفو الله ورحمته، ويطلب أن لا يشيح بوجهه عنه لأنّ ذلك يفقده القدرة على الاستمرار.

فسواء كان الإنسان كافرًا أو مؤمنًا فإنّه سيلقى الله، وهذا اللقاء شامل للجميع، فيطلب العبد أن يكون مسرورًا في هذا اللقاء الذي يتفاوت بين شخص وآخر، وأجمله لقاء يختصّ بأولياء الله حيث يتحقّق في آخر مراحل السير والتكامل.

كما يكرّر الإمام زين العابدين (ع) في المناجاة طلب الاعتذار من الله. والاعتذار هو اعتذار المضطر الذي يهمّه أن يُقبل عذره لأنّ مصيره متوقف على ذلك. فإذا قبل الله اعتذار عبده فيكون قد أدخله في ساحة قدسٍ ورحمة.

ولأنّك يا إلهي وفقتني، وشملتني بهذه العناية الخاصّة، وقبلت مني العذر فأنا متفائلٌ بالخير أنّك لم ترد أن أنصرف من هذه الدنيا مذمومًا، فلا تردّ حاجتي، ولا تخيّب طعمي، ولا تقطع منك رجائي وأملي. فلو أردت هواني لم تهدني، ولو أردت فضيحتي لم توفّقني للتوبة، وتعافني من الذنب والمعصية.

وإنّ الله تعالى لا يحرم عبده بما هو خير له، ولو أنّ شخصًا ورد على كريم لم يتنظر منه سوى الكرم والعطاء، فكيف يكون الحال حين يرد العبد الضعيف على ربّ العباد الرحيم، وبالأخصّ حين تكون هذه الحاجة ملحّة وقد أفنى الإنسان عمره في طلبها منه تعالى، وزد على ذلك إن كانت حاجة للحياة الأخرويّة، وهي طلب الغفران والعفو.

وبعد اطمئنان العبد إلى عفو الله، يسلك مقام الحمد والثناء على الله؛ “فلك الحمد أبدًا أبدًا دائمًا سرمدًا، يزيد ولا يبيد كما تحبّ وترضى”؛ حمدًا تحبّه متواصلًا لا يدعو إلى التعب والملل، بل حمدًا يزداد يومًا بعد يوم.

ثمّ ينتقل العبد بعد كل ما ذكر إلى مقام الدلال والغنج مع الله، بحيث يبدأ بالسمر والكلام القريب يستجلب به عطف الباري تعالى فيقول له: “إلهي إن أخذتني بجرمي أخذتك بعفوك، وإن أخذتني بذنوبي أخذتك بمغفرتك، وإن أدخلتني النار أعلمت أهلها أنّي أحبّك”. أعلى درجات الغنج والدلال والاطمئنان في محضره تعالى، وهو يعرف أنّ كلامه في هذه الحال مقبولًا، وهو من أنواع المناغاة بين حبيبين.

وبعد هذه العبارات التودّديّة، يعود العبد إلى حالة الأدب مع الله بمنتهى اللطف والدقّة؛ ليستذكر أنّه مهما فعل من أعمال فإنّ عمله قاصر عن أداء حقّ العبوديّة لله. ولكن في الوقت عينه، فإنّ العبد يطمح أن ينال من جود الله وكرمه، ويرجو ما عند الله من رحمة رجاءً لا يمكن أن يخيب منه.

اللّهم! فطالما أنّي علّقت قلبي بلطفك إلى هذا الحدّ، وأصبحت مؤمّلًا راجيًا، وأحسنت ظنّي بتحقّق آمالي وأمنياتي، فكيف يمكن أن تطردني من بيتك، وترجعني خالي اليدين؟! فلو لم تحقّق لي أملي، فإنّ هذا لا يتناسب مع جودك وكرمك. فصحيحٌ أنّ عملي قليلٌ، ولكن في النهاية إنّ أملي هو الذي تعلّق بجودك. وهكذا، يرجع المناجي من قمّة الدلال شيئًا فشيئًا، إلى القوس النزوليّ، ويستقرّ في التواضع.

يقضي الإنسان حياته بين صحو وغفلة، بين ذنب وتوبة. وهذه الحالات تعرض عليه بحسب الحالات التي يمرّ بها. ولكي يستعطف الإنسان ربّه، يعترف في محضره أنّه نادم ومتحسر وخجل ممّا بدر منه، وقد عبّر عن حالة الغفلة التي هو عليها بالسُّكر الذي يُذهب العقل، ويضيع العمر، وأنّه كان يمكنه أن يتجنّب حالة الغرور إلا أنّه لم يستيقظ إلّا بعد انقضاء العمر وضياع الفرص، فاستوجب بذلك سبيل سخط الباري.

فها أنا يا إلهي قائم بين يديك، عبدك وابن عبدك، لا أملك لنفسي دونك نفعًا، أتوسّل كرمك أن تقبلني، وترحمني، وتخرجني من السهو والغفلة التي أنا عليها، “أنا عبدٌ أنتصّل إليك ممّا كنت أواجهك به من قلّة استحيائي من نظرك، وأطلب العفو منك إذ العفو نعتٌ لكرمك”. أنا يا إلهي أبرأ إليك ممّا كنت أرتكبه، وأستحي من قلّة أدبي في محضرك، وأطلب عفوك لأنّ عفوك هو ما أرجوه من عملي السيء. ولأنّك أهلٌ للكرم والجود، فاحفظني من المخاطر والبلاءات التي تبعدني عنك، وأزل عني الموانع من القذارات والأرجاس، وطمئن قلبي أنّك ستقبلني رغم كلّ ما أنا فيه.

ويجب على العبد أيضًا أن يشكر ربّه أن أخرجه من ذلّ المعصية، وأعاده إلى عزّ العبوديّة، وأيقظه من حالة السكر والغفلة التي كان عليها في أيّام الجهل، وشمله لطف الله وعنايته لكي يخرج من مستنقع الفساد الذي هو عليه. ولولا رحمة الباري تعالى لما استطاع أن يتغلّب على هذه القوّة المضادّة التي تصارع الخير داخله. والعمل بشكل عام يحتاج إلى شرطين لتحققّه:

وهذان الشرطان ينطبقان أيضًا على أفعال العبادة، مضافًا إلى ما أشار إليه الشيخ اليزدي من وجود صراع داخلي بين الخير والشرّ داخل الإنسان للمباشرة بالعبادة بشكل خاص. وهو ما أراد الإشارة إليه الإمام زين العابدين (ع) في المناجاة أنّ الرغبة في العمل ليس شرطًا كافيًا للقيام به، وخاصّة بما يتعلّق العبادة، فإنّ ذلك هو توفيق إلهي صرف، فكيف إذا كان الإنسان غارق بالذنوب، وأراد أن يخرج منها، وفي هذه الحالة هو يحتاج إلى جهد إضافي، ومزيد من التوفيق واللطف الإلهي.

فصحيح أنّ الإنسان مخلوق مختار، وعمله نابع من رغبته وإرادته على القيام به، إلّا أنّه دون الله لا شيء، لا يمكنه أن يتغلّب على أهوائه دون عون الله ومساندته. كما تدخل البلاءات ضمن هذا التوفيق الإلهي الذي يدفع الإنسان لمراجعة حساباته في موضوع الخير واختياره الحسن على القبيح، وهو أمر ليس بسهولة ما يتصوّر البعض، خاصّة حين تتداخل الأمور، ويمتزح الحقّ بالباطل، فيصبح من الصعب تمييزهما، أو ربّما اختيار الخير خاصة إذا تعارضت مع مصالحه الشخصيّة، وتعارضت مع راحته الدنيويّة التي يأنس عادة بها. لذا، يعبّر بالقول “في وقت أيقظتني لمحبّتك، وكما أردتني أن كون كنت”.

هذا التوفيق منّة الله على الإنسان حصرًا، ولولاه لبقي مذهولًا بما هو عليه، لأنّ جاذبيّة الأشياء الماديّة هي كالجاذبيّة التي اكتشفها نيوتن، وكجاذبية الحديد للمغناطيس. أمّا الحبّ الموجود بين الله والإنسان فهو أعلى وأفضل مراتب الجاذبيّة، ذلك لأنّ الله يمتلك أعلى مراتب الإدراك والشعور. وهذه الجاذبيّة واعية ونابعة من الشعور وذات اتجاهين، وإن كانت في البداية ذات طرف واحد، هو الله، لكنّها ستنتهي حتمًا إلى الطرفين إن استجاب الإنسان إليها، وسيستجيب، لأنّ هذا الاستعداد للمحبّة الكامن هو أمر طبيعي يفوق الأمر الاختياري، ومن غير الممكن أن لا يحبّ الإنسان من يحسن إليه، والله سبحانه وتعالى عظيم المنّ والعطاء.

وإنّ أسهل طرق محبّة الله، والتي سيكون من آثارها الإقلاع عن المعاصي، هو التفكّر بنعمه. فبالإضافة إلى النعم الجسمانيّة، فهناك العقل، والأنبياء (ع)، والقرآن الذي أنزله لهدايتنا، والعيوب التي سترها علينا. كلّ واحدة منها هي نعمة إلهيّة فائقة الأهميّة، وكلّه من الإله العطوف الجدير بالمحبّة.

ثمّ يطلب الإمام (ع) في المناجاة من الله بلسان كل البشر أن ينظر إليه نظر المطيع لا نظر العاصي الذي لا يستحقّ النظر إليه. إذ بيننا وبين الله نوعين من الروابط:

وهنا تيرز فائدة عبارة “انظر إليّ نظر مَن ناديته فأجابك” أي ارحمني، وانظر إليّ نظر المطيع الذي يجيبك دائمًا في حال دعوتك لي، ولا تنظر إليّ نظرة الغضب لإساءتي. ويناديه بالجواد الذي لا يبخل عمّن رجا ثوابه. والجواد هو الذي لا يعطي لمجرّد الاستحقاق، بل يعطي الجميع المستحقّ وغيره دون منّ.

ثمّ يطلب العبد من الله أمورًا أبعد من الأشياء الماديّة الزائلة:

هذه الأمور الثلاثة التي يطلبها هي طريق يبدأ بالحبّ، وينتهي باللقاء. نهجٌ يتبعه السالك إليه سبحانه، ليصل إليه ويلقاه، ويأنس به.

وحين يرتبط العبد ارتباطًا حقيقيًّا بالله يصبح معروفًا بهذا الارتباطه عند أهل الدنيا الصالحين، ومعروفًا عند أهل الآخرة. والشهرة التي يطلبها العبد هنا ليست مذمومة بدافع الهوس مثلًا، بل شهرة تصبّ في طلب الرضا من الله، من أجل خدمة الآخرين، كأن يصبح معروفًا مقبولًا عند الناس؛ لكي ينشر الخير وحب الله، ويصبح كلامه مقبولًا عندهم.

كما أنّ من لاذ بالله فقد دخل في حصن حصينة لن يُخذل بعدها أبدًا، ومن أنس بالله لن يملّ هذه اللذة والسعادة كما يحصل مع العشّاق أو الأصدقاء بعد فترة من الوصال، لأنّ الله هو الكمال المطلق الذي لا يمكن لأحد أن يدركه مهما تقرّب وأنس، وهذا هو السبب الذي يجعل العبد كلّما اقترب منه سبحانه كلّما زاد حبًّا وولهًا لينهل المزيد.

كذلك من استمدّ من الله العون فسيعينه الله حتّى يسلك الطريق الواضح. ومن اعتصم بحبله تعالى لن يسقط لأنّه استمسك بحبل متين لا يخذله، ولن ينقطع، وسينجيه حتمًا من السقوط.

وإذا كانت هذه خصائص من يرتبط بالله، فيا إلهي قد لُذت بك، وتمسّكت بحبلك فلا تخيّب ظنّي من رحمتك، ولا تحجب عني رأفتك بما اقترفته يداي من الذنوب، وارفع عني هذا المانع، ولا تؤيسني من رحمتك.

ثمّ إنّ من لوازم الإيمان وجود رابطة خاصّة مع الله تعالى. فالله تعالى هو الخالق والمدبّر الذي يفيض بعنايته على جميع خلقه، فيعطي لخير، ويمنع لخير. إلّا أن هناك بعض الأشخاص الذين هم على مرتبة أعلى من العطاء العادي، هم أهل ولاية وتقرّب، هم أهل خواصّ. ولكي يكون الإنسان من هؤلاء، عليه أن يكون لائقًا بما يكفي لينال مقدارًا من العشق والمحبّة، وهو ما أشار إليه الإمام (ع) بأهل الولاية. وهذا يتطلّب نوعًا خاصًّا من الكمالات المعنويّة يستلزم معه جهدًا وتعبًا أكثر لورود الأماكن الصعبة، وأن لا يغترّ كلّما اجتاز نوعًا من الكمالات، وأن لا يقنع بما وصل إليه، بل يبقى دائم السعي والسير متزوّدًا بنور الله تعالى وفيضه عليه، وقد وعد الله عباده الساعين بالزيادة كلّما شكروا النعم.

فيا إلهي وربّي الذي أحبّ ألهمني حالًا من الذكر الدائم لك، لا ينقطع، وهمّة لأكون شبيهًا لك في أخلاقك وأفعالك. أتشبّه بك حتّى أنال رضاك وقدسك. والذكر أعمّ من حركات اللسان الذي يقوم بها المسبّح عادة، بل هي حالة دائمة من التوجّه القلبي إلى الله في كل حالات الفرد تفوق التصوّر العاميّ للحصول على منتهى اللذة والسَّكينة والطمأنينة والرَّوح والريحان.

“إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حُجُب النور فتصلَ إلى معدن العظمة، وتصيرَ أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك”. إنّ جُلّ ما يبغي الإنسان الوصول إليه هو أن لا يرى تأثيرًا في الوجود سوى الله تعالى. فالتوفيق للوصول من الله. والرزق من الله، حتّى تلك الأمور الماديّة التي يحتاجها في رحلة الحياة الدنيا، وكلّ الأسباب والمسبّبات تحت سيطرة وإرادة الله، ومن دون إرادته تعالى لا تكون مؤثّرة.

لهذا نقول: اللّهم! امنحني كمال الانقطاع إليك كهبة منك. فكمال الانقطاع هو منتهى الانقطاع عن الخلق والاتصال بالخالق، ورؤية التأثير الإلهي وطلب الحاجات منه، وتساوي وجود وعدم الأسباب والأدوات. وأعطِ قلبي بصيرة تخرق حجب النور الماديّ، فتصل إلى مبدأ النور، ويتعلّق روحها بذلك المبدأ.

اللّهم! اجعلني من أولئك الذين تخاطبهم، وتناديهم وهم في المقابل يقولون لبيّك. لا يتردّدون في الإجابة. وليس ذلك فقط، بل هم مفتونون بك لدرجة الصعق من شدّة عظمتك وجلالك. والصعق هو حالة فقدان الوعي، يحصل نتيجة طبيعيّة للعشق اللامتناهي الذي يصبح عليه العاشق لللامحدود.

فيجب علينا أن نرفع من مستوى هممنا، ونكون في الحدّ الأدنى معتقدين بوجود مثل هذه الروابط بين الله وعباده المخلصين، وقد يكون هؤلاء يعيشون بيننا ونحن نجهلهم. فلا نستخفّ بأحد، ولا ننظر بعين الحقارة والاستخفاف إليه، فقد يكون وليًّا من أولياء الله. ولا ينبغي أن نحصر أدعيتنا بالنعم الدنيويّة، بل علينا أن نطلب ما هو أعمق وأرقى من ذلك، تلك النعم الأبديّة الباقية التي لا تنفذ، وأهمّها رضا الله سبحانه والقرب منه، تلك اللذة العقليّة التي لا يمكن لأحد أن يقيس طعهما وحلاوتها إلّا من ذاقها.

ولأنّ علاقة المخلوق بالخالق هي علاقة الذليل بالعزيز. ذليلٌ أعزّه الله بالعبوديّة، وأخرجه من الظلمات إلى النور الفائق للجمال والعظمة والكمال. وهذا الواصل إلى ساحة الله تعالى لا ينفكّ قلقًا خائفًا من أن يفقد هذا العزّ الذي أصبح عليه، فيغدو مراقبًا لنفسه، محاسبًا إيّاها، لأنّه يعلم أنّ كلّ ما لديه من نعم ماديّة ومعنويّة هي على سبيل الاستعارة، وأنّه حين يغترّ بما وصل إليه يسقط، ويفقد كلّ ما تملّكه.

وخُتمت المناجاة كما بدأت بالصلاة على محمّد وآل محمّد لكي يكون كل ما حوى الصلاتين مقبولًا عند الله.

ثمّ عرض معدّ الكتاب مناجاة المريدين، وقد اختارها من بين المناجيات التي ذُكرت للإمام زين العابدين (ع) في الصحيفة السجاديّة لتناسبها مع رغبة العبد وإرادته في التقرّب إلى الله. فما أضيق الطرق وأوعرها على من لم يكن الله دليله، وما أوضحها حين يسلكها العبد بهدى الله ونوره.

“فاسلك بنا يا إلهي سُبُل الوصول إليك، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرِّب علينا البعيد، وسهَّل علينا العسير الشديد، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبِدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإيّاك في الليل والنهار يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون”.

يطلب العبد من الله التوفيق لإدراك الطريق الصحيح، ومعرفة أقرب الطرق إليه وأيسرها، واتباع العباد الصالحين في سيرهم، وتوفير الوقت في حال سلوك طريق لا تُعرف نهايته. هذا بالإضافة إلى رفاق الطريق الذين يعينون بعضهم البعض في السير والسلوك. وهؤلاء الرفاق لديهم صفات عدّة منها:

وهم أيضًا ممّن نالوا حظًّا ونصيبًا من الرحمة الإلهيّة، يتمتّعون بالمشارب الصافية العذبة. وصلوا إلى مطالبهم وحاجاتهم وأهدافهم بطمأنينة وراحة لأنّ همّهم الوحيد كان رضا الله والتقرّب منه لا اللذائذ الدنيويّة، حتّى وإن حصلوا عليها.

بالإضافة إلى كونهم مفعمين بالحبّ. وعاؤهم مملوء بالعشق الإلهي الذي يساعد إشعاعه على طيّ الطريق، وعلى رفع عطش الفراق والشوق إلى الله؛ “فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا، ومنك أقصى مقاصدهم حصَّلوا”.

والجدير ذكره، ما لفت إليه الشيخ اليزدي أنّ المناجاة التي تخرج من قلب العابد لا تبقى طيّ نفسه فقط، إنّما تصل إلى المعبود، يسمعها بكل تفاصيلها، ويستجيب للداعي مهما كانت ذنوبه ومعاصيه. فأصل التفات العبد إلى مناجاة ربّه هو دليل قبوله في ساحة فيضه المقدّسة.

ومن الألطاف الإلهيّة التي منّ الله بها على البشر إرسال الأنبياء والرسل والأوصياء والكتب السماويّة إلى جانب العوامل التكوينيّة. وإنّ التدابير الإلهيّة هي من أجل جذب الغافلين إلى محضر الله متنوعة وكثيرة لا يمكن إحصاؤها، بعضها من أنواع العواطف الفطرية كعاطفة الأم لابنها، وبعضها من أنواع البلاءات كالفقر أو المرض لتعيد العبد الغافل إلى الله.

ويطلب العبد في هذه المناجاة أن يكون في أعلى صفّ من بين المريدين الذي يرغب بالالتحاق بهم، فيكون أفضلهم بلحاظ المنزلة والمقام والمعرفة والمحبّة. ويقول: أنا يا إلهي لا أريد أن أكتفي بالمستويات المتوسطة والدانية. اللّهم! إنّ تمام همّتي أن لا أريد سواك، وليس لي همٌّ واهتمامٌ بغيرك، وإنّ همّتي أن أصل إليك وكل ما عدا ذلك أمورٌ فرعيّة وثانويّة.

اللّهم! إنّ وصالك أمنيتي، وشوقي واشتياقي، وسروري وابتهاجي، ورضاك وجوارك وقربك مطلبي. وأنت سكوني وطمأنينتي وشفائي. فكن أنيسي في وحشتي، ومقيل عثرتي، وغافر زلّتي، وقابل توبتي، ومجيب دعوتي، ووليّ عصمتي، ومغني فاقتي. فلا تفصلني عنك، ولا تبعدني منك، يا نعيمي وجنّتي، ويا دنياي وآخرتي.

جلّ ما يريده العبد هو الانصهار في ذات الباري تعالى، أن لا يرى في وجوده محرّكًا ولا علّة سواه سبحانه، أن يكون شغله الشاغل، وحبّه اللامتناهي، وعزمه الذي لا ينتهي. منه يستمدّ العون والقوّة والعزم، وبه ينتصر على كل أهوائه الشيطانيّة، وبه أيضًا ينزع نفسه من وحول الآثام، فيرتقي بذلّ عبوديّته إلى عزّ الربوبيّة. وكلّما كان العبد أكثر عبوديّة في محضر الباري كلّما كان عزيزًا، ومَن كان عزيزًا عند الله لن يُذلّ

ولعلّ هذا الكتاب يكون زادًا أخرويًّا ومعينًا للسالكين على درب الحبيب، ورافدًا للمؤمنين في حركتهم في قوس الصعود من عالم الناسوت إلى عالم الملكوت، يشربون من كأس محبّة الله ولطفه، يشربون ولا يتروون.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/12562/monajat/