منهج الشهيد الصدر في (بحث حول المهدي)

منهج الشهيد الصدر في (بحث حول المهدي)

لقد كتب الشهيد الصدر كتابه (بحث حول المهدي) كمقدِّمة لكتاب استدلالي ضخم هو كتاب (موسوعة الإمام المهدي(عج)) للسيّد محمّد صادق الصدر، فبالتالي لم تكن نيّة الشهيد كتابة كتابٍ مستقِلّ بهذا العنوان، ومع ذلك خرج البحث بحثًا عقليًّا وتنظيريًّا، فيه من التحليل والاستقراء ما جعله من أرقى الكتب التحليليّة في المهدويّة، مستوعبًا لمرتكزات الموضوع، ومغنِيًا لجوانبه من جميع الجهات.

إنّ الميزة الأساسيّة لمنهج السيّد الشهيد في الكتاب هو اعتماد المنهج الاستدلالي العقلي في إثبات وجود المهدي (عج) وكلّ ما يتعلّق به كمسألة طول العمر والغيبة والظهور، مع أنّ غالب الباحثين في القضيّة المهدويّة يتّبعون المنهج الروائي أو المنهج التاريخي سواء كانوا من المثبتين أم من النافين، من السنّة أو الشيعة،كما في (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر) للشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني، و(إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب) للشيخ علي اليزدي الحائري، و(المهدي الموعود المنتظر عند علماء أهل السنّة والإمامية) للشيخ نجم الدين العسكري، وابن حجر المكي في مؤلّفه: (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر)، ومرعي بن يوسف الحنبلي (ت /1033 هـ)، ومؤلّفه الذي سمّاه (فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر).

يقوم السيّد الشهيد بطرح الإثارات حول القضية وعرض التساؤلات والإشكالات المنتزعة مما قيل ويقال حول القضية، ثمّ يبدأ بالمناقشة العميقة والدقيقة معتمدًا الدليل العقلي، ومستندًا إلى معطيات العلم الحديث والحضارة المعاصرة، وتتركّز معالم منهجه فيما يلي:

  1. لقد مهّد السيد الشهيد لبحثه بإعطاء تصور واضحٍ لفكرة المهدي في جذورها الممتدّة إلى التراث الديني والإنساني، ثم انتقل إلى تأصيلها في الفكر الإسلامي، ثم عرضها في التصور الإسلامي على أنّها ليست مجرّد فكرة وأمل يداعب الشعور، ويجد عنده الإنسان المسلم استراحةً تخلّصه من حالة التوتر النفسي عندما تشتد وتتعاظم المحنة -كما هو زعم بعض الباحثين – وإنما يتجسد في إنسان معين حيّ يعيش مع الناس ويشاركهم همومهم وآلامهم، ويترقب مثلهم اليوم الموعود[1].
  2. يعتبر الشهيد الصدر أنّ العقيدة المهدويّة على الرغم من أصالتها في النفس البشريّة وكونها تعبيرًا عن فطرةٍ إنسانيّة عميقة، إلّا أنَّ هناك صعوبة في استيعاب هذا التصور الأصيل، والدليل على هذه الصعوبة الإشكالات والتساؤلات الكثيرة الموجودة في عقول الناس، وفي حواراتهم المعلنة أو الحبيسة، ومن هنا بدأ الشهيد الصدر يطرح هذه التساؤلات والإثارات بكل صراحة ووضوح، ثم يشرع في معالجتها بأسلوبه الخاص؛ وذلك ليضع القضية في محلها الطبيعي ضمن إطار العقيدة الإسلامية التي تقوم أساسًا على العقلانية والواقعية والبرهان.
  3. يثبت الشهيد إمكان طول عمر الإمام من خلال تطبيق مبدأ الإمكان العقلي والعملي والعلمي، معتبرًا أنَّ المتصوّر من أنواع الإمكان ثلاثة:

الأوّل: ما يصطلح عليه بالإمكان العملي، ويُراد به ما هو ممكن فعلًا وواقعًا. أيّ له تحقق ووجود ظاهر ومتعيّن.

الثاني: ما يصطلح عليه بالإمكان العلمي، ويُراد به ما هو غير ممتنعٍ من الناحية العلمية، أيّ أنَّ العلم لا يمنع وقوعه وتحقّقه ووجوده فعلًا.

والثالث: ما يصطلح عليه بالإمكان المنطقي، ويُراد به ما ليس مستحيلًا عقلًا، أي أنَّ العقل لا يمنع وقوعه وتحققه.

فبالتالي، إنّ إثبات إمكان طول العمر من هذه الجهات الثلاثة يُثبِت إمكان ذلك في حقّ الإمام وغيره، فضلًا عن وجود فوائد خاصّة لطول عمر الإمام (عج) تحديدًا.

ثمّ بعد بيان هذه الإمكانات وشرحها شرحًا وافيًا استنادًا إلى المعطيات العلميّة الدقيقة والحديثة، معتبرًا لها كافيةً في إثبات المسألة، ينتقل الشهيد إلى مرحلة جديدة في الاستدلال على المسألة، وهي التسليم الجدليّ بأنّ قانون الشيخوخة وانتهاء العمر قانون ٌعقليّ علميّ عمليٌّ صارمٌ لا يمكن تخطّيه، فليكن طول العمر بالنسبة للإمام من باب المعجزة، وهذا ليس غريبًا في حقّه (ع) وحقّ آبائه والأنبياء كما في صريح الكتاب العزيز والسنّة المعتبرة.

  1. يعالج الشهيد مسألة فائدة إطالة عمر الإمام باعتبارها عاملًا من عوامل نجاحه في عملية التغيير المرتقب، ويقدم أدلّة تستند إلى فهم عميق لحركة التاريخ، ومستلزمات التغيير الحضاري الشامل، وأثر الحضارات التي ينشأ الإنسان في ظلّها على مستوى تفكيره ورؤاه ودوره الحضاري، ثم يكيّف المسألة في ضوء رسالة الإسلام والنقلة الحضارية التي يريدها.

وهكذا يحوّل السيد الشهيد البحث إلى دراسة اجتماعية تعتمد المقولات والمفاهيم الاجماعية، فضلًا عن تأصيل مفاهيم ونظرات إجماعية مهمة.

  1. ينتقل الشهيد الصدر (رض) بعد ذلك إلى معالجة قضية أكبر ترتبط بقضية المهدي وهي: (الإمامة المبكرة)، أو (كيفية إعداد القائد الرسالي) في نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية، فيذكر أن هذه الظاهرة (الإمامة المبكرة) عاشتها الأمة فعلًا، وقد بلغت ذروتها في الإمام المهدي والإمام الجواد من قبله.

وهذه الظاهرة ـ كما يقول رضوان الله تعالى عليه ـ “تشكل مدلولًا حسيًّا عمليًّا عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن نطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر هي أوضح وأقوى من تجربة أمّة”.

  1. النقطة السادسة، وهي الأساس في منهج السيّد الشهيد، هي كيفيّة توظيف الروايات وضمّها إلى قرائن أخرى بحسب نظريّة حساب الاحتمالات وأساسها الاستقراء في إثبات ولادة المهدي (عج) ووجوده، وتتلخّص في عدّة نقاط:

أ. يعتبر أنّ َفكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عمومًا، وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصًا، وأكّدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك، فمن طرق السنّة فقط يوجد  400رواية تتحدّث عن القضيّة المهدويّة، وهي مبثوثة في أهمّ الصحاح والمسانيد والمعاجم لديهم، كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنّة فكانت أكثر من (ستة آلاف رواية) وهذا رقمٌ إحصائيٌ كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام.

ب. يتخذ السيد الشهيد (رض) هنا مسلكًا جديدًا في الاستدلال على الخصوصية المذهبية؛ أي مسألة تجسيد الفكرة (فكرة المهدي) في إنسان معين هو الإمام الثاني عشر، مستفيدًا من الروايات والبحث الروائي، فيطرح أولًا المبررات التي يراها كافية للاقتناع ويلخصها في دليلين: أحدهما أطلق عليه (الدليل الإسلامي)، والآخر (العلمي) فيقول: “فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر، وبالدليل العلمي نبرهن على أن المهدي ليس مجرد أسطورة وافتراض، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية”[2].

ويشرع بتقديم الدليل الإسلامي فيراه متمثلًا بمئات الروايات الواردة عن الرسول الأكرم (ص)، والأئمة من أهل البيت (ع) والتي تدلّ على تعيين المهدي وكونه من أهل البيت، ومن ولد فاطمة، ومن ذرية الحسين (ع) وليس من ذرية الحسن (ع)، وأنه التاسع من ولد الحسين (ع)، وأن الخلفاء اثنا عشر. فإن هذه الروايات تحدّد تلك الفكرة العامة وتشخصها في الإمام الثاني عشر.

ثم يقول بشأن تلك الروايات: “وهي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار ـ كما ورد عن طرقنا ـ على الرغم من تحفظ الأئمة (ع) واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقاية للخلف الصالح من الاغتيال ..”[3].

ج. الروايات الكثيرة جدًّا التي تشكل رقمًا إحصائيًّا كبيرًا، بحيث تبلغ حدّ التواتر كما حكى غير واحد من العلماء، حيث يرى السيد الشهيد أن الأساس في قبولها ليس مجرد الكثرة العددية على الرغم من أنه قد استقرَّ في الأوساط العلمية الروائية اعتبار مثل هذه الكثرة، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحتها، إذ إنّ حديث الأئمّة الاثنا عشر موجودٌ في أمّهات الكتب السنيّة.

هذا هو الدليل الإسلامي، كما اصطلح عليه السيد الشهيد، أي الدليل الروائي في إثبات المهدي.

د. الدليل الآخر الذي اصطلح عليه بـ (العلمي) والذي يسوقه السيد الشهيد لإثبات الوجود التاريخي للمهدي، وأنه إنسان بعينه ولد وعاش واتصل بقواعده الشعبية وبخاصته، فإن هذا الدليل يتكوّن كما يرى السيد الشهيد من التجربة التي عاشتها آفة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريبًا وهي فترة الغيبة الصغرى. ويعطي السيد الشهيد هنا فكرة عن هذه الغيبة، ويفلسفها، مبيّنًا دور القائد المهدي، ودور سفرائه الأربعة، وما صدر عنه من توقيعات، أي رسائل وإجابات كلها جرت على أسلوبٍ  واحد، وبخط واحد وسليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة المختلفين أسلوبًا وسليقة وذوقًا وخطًا وبيانًا، ومثل هذا كاشف بالضرورة عن وجود  الرجل، لأنه قد ثبت واستقر في الأوساط الأدبية وبما لا يقبل الشك أن الأسلوب هو الرجل، وكل الدارسين والمتذوقين للأدب يدركون هذه الحقيقة بوضوح.

ه. وبعد هذه القرينة والشواهد القوية على وجود الإمام المهدي كما يؤكّدها السيد الشهيد يتجه إلى منطق الاستقراء ونظرية الإحمال لتعزيز ذلك فيقول: “لقد قيل قديمًا: إن حبل الكذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضًا أنّه من المستحيل عمليًّا بحساب الإحمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل، وكل هذه المدة، وضمن كل تلك العلاقات والأخذ والعطاء ثم تكسب ثقة جميع من حواليك”[4].

[1]  محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي، الصفحات7-12.

[2]  بحث حول المهدي (عج)، مصدر سابق، الصفحة88.

[3] بحث حول المهدي، مصدر سابق، الصفحة 36.

[4] راجع المصدر نفسه، من الصفحة 26 إلى الصفحة 48.



المقالات المرتبطة

“من عنده علم الكتاب” بين ألوهية التنزيل وبشرية التأويل

مقدمة النص القرآني مقدّس مصدره إلهي، ولكن التفسير والتأويل اجتهاد بشري، قد يخطئ أو يصيب، فلا بدّ من وجود مجتهد

وحدانية الحضارة الانسانية بين وهمية الصراع ورهان التوافق والتواصل

منذ ما يربوا على عقد ونيف من الزمان تجدد الحديث عن فرضيتي تعدد الحضارات أو وحدتها

المراسم العاشورائيّة.. التوازن بين الشكلانيّ والمضمونيّ

في مثل هذه الأيام من كل سنة تكثر الكتابات عن عاشوراء لا سيما حملات النقد الواسعة التي تطال ما يسمى “المراسم العاشورائية”، وبعض ما يعتريها من مشهدية إحيائية تتعلق بالتطبير وضرب السلاسل وغيرها.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<