by معهد المعارف الحكميّة | أبريل 8, 2021 11:46 ص
الوعد الإلهي بوراثة الأرض للصالحين.
قال تعالى في محكم كتابه: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[1][1].
إنّ موضوع التمكين من الموضوعات التي تتعلق بها قلوب العباد، وتتحرك نحوها للاستخبار والاستبصار؛ لكونهم يوقنون بوعد الله لهم بالتمكين، وإذا تتبّعنا الآيات القرآنية التي تتحدث عن التمكين نجد أنّ لازم التمكين هو القوة على فعل أشياء والإتيان بها بنحو يحقق الغاية المبتغاة من ورائه.
فالتمكين في الأرض هو وسيلة توصل إلى إقامة القسط عليها، صدًّا لإرادات المشركين الذين يعملون السيّئات، كما عبّر الباري جلّ وعلا في بعض موارد آيات التمكين ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [2][2]. فإنزال الحديد في هذه الآية كناية عن القوة اللازمة لإقامة القسط بين الناس من خلال التمكين الإلهي.
فإنّ الغاية الإلهية من بعثة الأنبياء (ع) تكمن في إقامة القسط في الأرض، وإقامة العدل الذي هو سرّ الاستخلاف الإلهي للأنبياء والأولياء، وهذه الغاية لا يمكن تحقيقها فقط بإرسال الرسل، وإنمّا بتمكينهم في الأرض لكي يستكمل المشروع الإلهي على أكمل وجه.
التمكين وعد إلهي، حيث لا يمكن أن تتحقق الوراثة للأرض من دونه، بل إنّ الحكومة الإلهية المهدوية للذين استضعفوا في الأرض لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تمكين الله تعالى لعباده، وقد صرّح القرآن الكريم بوضوح عن العلاقة التلازمية بين الوراثة والتمكين، قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾[3][3].
وقد أشار الإمام الباقر (ع) في تفسير هذه الآية: “المهديّ وأصحابه يملّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الدِّين، ويميت الله عزَّ وجلَّ به وبأصحابه البدع والباطل كما أمات السفهةُ الحقّ، لا يُرى أثر من الظلم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولله عاقبة الأمور”[4][4].
فالله تعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض، وأمره بعمارتها، وأمّده بالتمكين اللازم لكي يبني هذا المجتمع الإلهي على العدل والفضيلة، وقد قدم لنا القرآن الكريم في طيات سوره الكريمة وآياته الشريفة نماذج عن التمكين للأنبياء والأولياء والصالحين، وسوف يشهد العالم التمكين العالمي في آخر الزمان للمهدي الموعود (عج).
خصائص الدولة المهدوية.
إنّ هذه الوراثة لا تأتي عن طريق الصدفة، وإنّما تجري وفق السنن الإلهيّة في التمكين في الأرض واتباع الأسباب الماديّة والمعنويّة كما هي الحال في قصّة ذي القرنين.
وهذه السنن الإلهيّة جاريةٌ في كلّ العصور والأزمنة ومن خلال اتّباعها يمكننا الاستفادة واستخلاص أهمّ الأسس التي وفقها نصل إلى المشروع الإلهيّ في وراثة الأرض في آخر الزمان للذين استضعفوا في الأرض.
وإنّ هذه الوراثة الدنيوية تتحقق بشكل عالمي عند ظهور الإمام المهدي (عج)، فالنصوص القرآنيّة والنبويّة والروايات الواردة عن أهل بيت النبوّة تبشّر بالدولة العالمية المهدويّة وبحتميّة انتصار الإسلام على جميع أعدائه في العالم، وظهوره على جميع الأديان الكافرة والمشركة والأنظمة الضالّة والمنحرّفة كلّها، كثيرة من طرق الفريقين.
فهي عملية تغيير شاملة للحياة الإنسانية على وجه الأرض، وإقامة مرحلة جديدة منها بكل معنى الكلمة.
ولو لم يكن من مهمته عليه السلام إلا إنهاء الظلم، وبعث الإسلام النبوي الأصيل، وإقامة حضارته الربانية العادلة، وتعميم نوره على العالم، لكفى، كيف وأنّ الأمر أعظم من ذلك.
ونشير إلى بعض هذه الخصائص في القرآن والروايات:
ـ عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر والباقر عليهما السلام عن القائم إذا قام بأي سيرة يسير في الناس؟
قال: بسيرة ما سار به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يظهر الإسلام.
قال: وما كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: أبطل ما كان في الجاهلية، واستقبل الناس بالعدل، وكذلك القائم عليه السلام إذا قام يبطل ما كان في الهدنة مما كان في أيدي الناس ويستقبل بهم العدل [5][5].
وفي رواية ثانية عن عبد الله بن عطا قال: سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام:
فقلت: إذا قام القائم عليه السلام بأي سيرة يسير في الناس؟
فقال: يهدم ما قبله كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويستأنف الإسلام جديدًا [6][6].
ويعدّ هذا نوعًا من أنواع التأييد الإلهيّ للإمام (عج)، ومظهر من مظاهر تجلّيات القدرة الإلهية ومدّ الإمام بكل عون ونصر، وذلك من أجل توفير كلّ العوامل الّتي تساعد هذه الدولة على تثبيت أركانها وتقوية دعائمها، وبسط نفوذها وسيطرتها على المقدّرات الطبيعيّة.
عن الإمام الصادق (ع) قال: “إذا تناهت الأمور إلى صاحب هذا الأمر، رفع الله تبارك وتعالى له كلّ منخفض من الأرض، وخفض له كلّ مرتفع، حتّى تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته، فأيُّكم لو كانت في راحته شعرةٌ لم يُبصرها”[7][7].
وقد ورد في الأحاديث الشريفة مجموعة كبيرة من الروايات الّتي تبيّن مدى النعيم الّذي تحصل عليه الأمّة في عصر الظهور، وما يكون فيه من رخاء ووفرة في المال وسعة في الحال.
فعن رسول الله (ص) أنّه قال: “تصدّقوا، فيوشك الرجل يمشي بصدقته فيقول الّذي أُعطيها: لو جئت بها بالأمس قبلتها وأمّا الآن فلا حاجة لي فيها، فلا يجد من يقبلها”[8][8].
عن الإمام علي (ع) قال: “… وتُخرج له الأرض ـ أي للمهديّ (عج) ـ أفاليذ كبدها وتلقي إليه سلّما مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة ويحيي ميت الكتاب والسنّة”[9][9].
وقد صرّح القرآن الكريم عن ذلك في مواضع ثلاث:
أ . قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[10][10].
ب . وقال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[11][11].
ج . وقال عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾[12][12].
وقد صرّح المفسّرون من مختلف المذاهب الإسلامية بأنّ هذا الوعد الحتمي الوقوع إنما يتحقق في عصر المهدي الموعود، حيث يظهر الإسلام على جميع الأديان فيعم مشارق الأرض ومغاربها، وتُقام الدولة الإسلامية المهدويّة العالمية.
هذا غيضٌ من فيض وفيوضات الدولة المهدوية اقتبسنا بعضًا من نورها.
والذي يتابع النصوص يجد أنّ دولة الإمام المهدي هي الدولة الوارثة لكل القيم والتراث الذي جاء به الأنبياء والمرسلون والأئمة (ع).
والحضارة الجديدة التي يقيمها مهدي آل محمّد (ع) على وجه الأرض ليست سوى امتداد للحضارة الإسلامية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون والأئمّة الهداة (ع)، وعودة لتلك الحضارة إلى صلب الحياة الاجتماعية من جديد، وهي ميراث النبي والصالحين.
[1][13] سورة الحج، الآية 41.
[2][14] سورة الحديد، الآية 25.
[3][15] سورة القصص، الآيتان 5و 6.
[4][16] الكلبلكاني، منتخب الأثر، الصفحة 475.
[5][17] الطوسي، محمد ابن الحس، التهذيب، الجزء 2، الصفحة 51.
[6][18] التهذيب، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 251.
[7][19] المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 52، الصفحة 236.
[8][20] الشيخ علي الكوراني، معجم أحاديث الإمام المهديّ (عج)، 1/236 ـ 244، ح 144 ـ 150.
[9][21] نجم الدين العسكري، المهديّ الموعود المنتظر عند علماء أهل السنة والإمامية، الصفحة 288.
[10][22] سورة التوبة/ الآيتان 32و 33.
[11][23] سورة الصف، الآيتان 8و 9.
[12][24] سورة الفتح، الآية 28.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/12592/yamahdi4/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.