مراجعة لكتاب خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء
يشكّل كتاب خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء على صغر حجمه نصًا تأسيسيًّا للاجتماع السياسي على أسس إسلامية، فالسيد الشهيد أعاد تعريف الاجتماع الإنساني وربطها بالغاية التي وُجِد بسببها الإنسان على الأرض، ومن أجل هذه الغاية قام بإعادة تعريف الكثير من المصطلحات لتتوافق مع نظرته:
أهميّة الكتاب
يقدّم الكتاب قراءة جديدة للاجتماع الإنسانيّ، تنطلق من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لكُم إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾[1]، وهذه القراءة وإن كانت تشترك في القراءة الاجتماعيّة الغربيّة في مفصلين أساسيّين هما الإنسان والأرض إلّا أنّهما تختلفان بشكل بنيويّ عندما ننتقل إلى الرؤية الكلّيّة الناظمة، حيث يُلحظ هناك افتراقٌ حادٌّ، فالرؤية الإسلاميّة تقوم على أربع ركائز أساسيّة، هي:
- المُستخلِف (الله عزّ وجلّ).
- والمُستخلَف (أي الإنسان).
- والمُستخلَف عليه (الأرض وما فيها).
- والعلاقة المعنويّة التي تربط الإنسان بالأرض، بالطبيعة، وتربط من ناحية أُخرى الإنسان بأخيه الإنسان (الخلافة).
وهذا النوع من الاجتماع يَنظرُ لله عزّ وجلّ كبعدٍ من أبعاد الاجتماع الإنسانيّ، ويؤسّس عليه قيام مجتمع على أسس كونيّة توحيديّة، ممّا يعني أنّه لا سيّد ولا مالك ولا إله للكون وللحياة إلّا الله سبحانه وتعالى، وأنّ دور الإنسان في ممارسة حياته، إنّما هو دور الاستخلاف والاستئمان، وأيّ علاقة تنشأ بين الإنسان والطبيعة فهي في جوهرها ليست علاقة مالك بمملوك، وإنّما هي علاقة أمين على أمانة استؤمن عليها، وأيّ علاقة تنشأ بين الإنسان وأخيه الإنسان فهي علاقة استخلاف وتفاعل؛ بقدر ما يكون هذا الإنسان أو ذاك مؤدّيًا لواجب هذه الخلافة، وليست علاقة سيادة أو أُلوهيّة أو مالكيّة.
وهذه الرؤية للاجتماع الإنسانيّ تختلف عن الأخرى التي تقوم على ثلاث ركائز هي:
- الإنسان، بما هو كائن طبيعيّ.
- والطبيعة.
- والعلاقة بينهما.
وبالتدقيق في المقارنة بين الصيغتين- الصيغة الرباعيّة والصيغة الثلاثيّة – يتّضح أنّ إضافة الطرف الرابع للصيغة الرباعيّة ليس مجرّد إضافة عدديّة، بل إنّها إضافةٌ تحدث تغييرًا نوعيًّا في بنية العلاقة الاجتماعيّة، حيث يتحوّل الإنسان إلى شريك لأخيه الإنسان، بينما يقود النموذج الثاني إلى مفهوم التفاوت والاختلاف.
فالمعادلتان السابقتان اللتان عرضناهما تؤدّيان في جميع الحالات إلى قيام مجتمع، ولكن نوعيّة المجتمع تفترق بين النموذج الأوّل (الرباعيّ) والثاني (الثلاثيّ). والتحوّل يحدّده الإنسان أو المحتوى الداخليّ له الذي يشكل أساس حركة التاريخ؛ هذه الحركة التي تتميّز بغائيّتها. فهي لا تعيش الماضي بل هي مشدودة إلى الغاية لأنّها حركة هادفة متطلّعة إلى المستقبل، الذي يحرّك كلّ نشاط من النشاطات التاريخيّة. وهو وإن كان معدومًا فعلًا ولكنّه يتحرّك من خلال الوجود الذهنيّ، الذي يجسِّد جانبًا فكريًّا يضمّ تصوّرات الهدف من جانب، ومن جانب آخر الإرادة التي تحفّز الإنسان وتنشّطه، وبالامتزاج بينهما تظهر فاعليّة المستقبل ومحركيّته للنشاط التاريخيّ على الساحة الفكريّة[2]. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[3].
وهذه النظرة للسيّد الشهيد تُخرج مفهوم التاريخ من العفويّة أو النظرة الغيبيّة الاستسلاميّة لتفسير الأحداث التاريخيّة بوصفها كومة متراكمة من الأحداث، أو تقوم على أساس الصدفة أو القضاء والقدر والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، وتحوّلها إلى فاعليّة هادفة، تقوم على مبدأ التقدّم نحو المستقبل، وهو في هذا المجال يلتقي مع ابن خلدون الذي اعتبر التاريخ غير الأحداث التاريخيّة، فدعا المجتمع الإسلاميّ إلى تجاوز النظرة الظاهريّة للتاريخ والدخول إلى باطنه ليستشفّ حقيقته، ويكشف عن أسبابه وقوانينه التي تحكمه:
حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرويه في أحوال الدّين والدّنيا، فهو محتاجٌ إلى مآخذ متعدّدة ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت، يفيضان بصاحبهما إلى الحقّ، وينكّبان به عن المزلاّت والمغالط[4].
وكما يتّفق معه بضرورة عدم التسليم بالمنقول وضرورة ضبطه وقياسه إلى غيره. وفي هذا المجال، يقول ابن خلدون:
إنّ الأخبار إذا اعتُمِد فيها على مجرّد النقل، ولم تُحكَّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ، لا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فرُبّما لم يؤمَن فيها من العثور ومزلّة القدم، والحيد عن جادّة الصدق، وكثيرًا ما وقع للمؤرِّخين والمفسّرين وأئمّة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل غثًا وسمينًا، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحقّ، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط[5].
والمُميز عند الشهيد الصدر اعتبار القرآن الكريم بؤرة المعنى التي تُقاس عليها المعاني في تولّدتها، ويتمّ على ضوئها الضبط.
وهو لم يكتفِ بذلك بل قام بتحليل السنن التاريخيّة على ضوء ما أثاره، وأخذ قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾[6]، وقوله أيضًا: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[7]، وقام بتفسيرهما. فالأجل في الآيتين الكريمتين قد أُضيفا إلى الأمّة؛ أي إلى الوجود المجتمعيّ للناس لا إلى هذا الفرد أو ذاك بالذات، وهذا يعني أنّ المجتمعات تخضع للموت كما الإنسان. ومن خلال هذا، أراد أن يؤكّد أنّ الأمانة الإلهيّة التي أُعطيت للإنسان وقبول الإنسان بها أدخلته في التاريخ، الذي يتحرّك انطلاقًا من حركة الإنسان فيها، أي حركته في الساحة التاريخيّة، التي تتميّز بعنصرين هما:
الإطِّراد: الإطِّراد هو ما يميّز القوانين العلميّة، ويعطيها طابع الموضوعيّة، ومن خلال هذا المنطق تخرج الساحة التاريخيّة من السذاجة وتصبح حركة شعوريّة واعية متبصّرة، وهو ما أشارت إليه الآيات المباركة: ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[8]، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ﴾[9]؛ أي أنّ كلمات الله هي سنّة من سنن الله.
الربانيّة: وهي تعني ارتباطها بالله عزّ وجلّ، وفي هذا الصدد يقول السيّد:
إنّ النصوص القرآنيّة أكّدت على ربانيّة السنّة التاريخيّة وعلى طابعها الغيبيّ، يستهدف شدّ الإنسان بالله سبحانه وتعالى، وإشعار الإنسان بأنّ الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونيّة والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكّم في هذه الساحات، ليست ذلك انعزالًا عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن، ولأنّ هذه السنن والقوانين هي إرادة الله، وهي ممثّلة لحكمة الله وتدبيره في الكون[10].
وفي هذا الكلام نقد للتفسير اللاهوتيّ للتاريخ، الذي تبنّته بعض مدارس الفكر اللاهوتيّ:
فأغسطين مثلًا يعدّ قطبًا من أقطاب التفسير اللاهوتيّ للتاريخ، حيث يرى بأنّ العقيدة تقدِّم للتاريخ تفسيرًا كُليًّا، أي تفسير بدايته وتوضيح ضرورته وتحدّد غايته، وهي تفعل كلّ هذا بفضل مفاهيمها[…] إنّ الله في حقيقة الأمر هو الذي يوجّه ويتحكّم في كلّ شيء كما يحلو له، وإذا كانت أسباب تدبيره خفيّة علينا، فهل معنى هذا أنّها ظالمة، والإجابة بالطبع لا، وهذه الأسباب الخفيّة التي يتحدّث عنها أغسطين لن تتّضح إلّا بالاستعانة بمفهوم لاهوتيّ آخر هو مفهوم العلم الإلهيّ الأزليّ، حيث إنّ الله هو الأزليّة، وعلمه كذلك، وهو ما جعل الله يتصوّر منذ الأزل ما سيحدث[11].
ويرى الدكتور صبحي أنّ أغسطين ردّ:
على القائلين بالتعاقب الدوريّ للتاريخ، ذلك أنّ الحوادث وفقًا لهذا الرأي تميل إلى أن تتكرّر، بينما اللاهوت المسيحيّ يجعل من صلب المسيح أهمّ واقعة تاريخيّة منذ بداية الخلق، ومن ثمّ عارض أغسطين القول بالتعاقب الدوريّ مؤكّدًا فرديّة الظاهرة التاريخيّة، ومن ثمّ استحالة تكرارها، فصلب المسيح حادثة لا تتكرّر[12].
كما نلاحظ أنّ هناك فاصل كبير بين ما يقوله السيّد الشهيد والقديس أغسطين، فالسيّد لا يُسبِغُ الطابع الغيبيّ على الحادثة بالذات؛ أي لا يربطها مباشرة بها، بل يربطها بالسنن الإلهيّة التي تعبّر عن حكمة الله وتدبيره وحسن تكوينه للساحة التاريخيّة، وهكذا تصبح:
السنن التاريخيّة لا تجري من فوق رأس الإنسان بل تجري من تحت يد الإنسان، فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقًا[13]. إذن هناك مواقف إيجابيّة للإنسان تمثّل حريّته واختياره وتصميمه، وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخيّة، جزاءاتها المناسبة، تستتبع معلولاتها المناسبة. إذن فاختيار الإنسان له موضعه الرئيسيّ في التصوّر القرآنيّ لسنن التاريخ[14].
من خلال ما مرّ، نلاحظ أنّ السيّد يرى المجتمع الأمثل هو الذي يؤسَّس على مفهوم الخلافة الإلهيّة، حيث ترك المولى عزّ وجلّ للإنسان مجالًا للإبداع والتطوّر والتكامل. ويتمّ هذا الأمر من خلال إذعان الإنسان للمُستخلِف (الله) والتخلّق بأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة:
[و]كلّما استطاع الإنسان من خلال حركته أن يتصاعد في تحقيق تلك المثل، ويجسّد في حياته بصورة أكبر فأكبر عدالة الله وعلمه وقدرته ورحمته وجوده ورفضه للظلم والجبروت، سجّل بذلك انتصارًا في مقاييس الخلافة الربّانيّة، واقترب نحو الله في مسيرته الطويلة التي لا تنتهي إلّا بانتهاء شوط الخلافة على الأرض[15].
انطلاقًا من هذه الرؤية، يصبح الوحي أو ظاهرة النبوّة عنصرًا أساسيًّا في تكوين الاجتماع الإنسانيّ. فالصيغة الرباعيّة التي عرضها القرآن تقوم على طرفين: أوّلهما الله عزّ وجلّ الذي جعل وأعطى، والثاني الإنسان الذي تسلّم العطاء واحتفظ به كأمانة. وهذان الطرفان قد يظهران من زاويتين مختلفتين، مرّة من خلال الفاعل وأخرى من جهة القابل، ولكنّهما يعبّران عن حقيقة واحدة، تشير إلى سنّة اجتماعيّة تاريخيّة تنظر إلى الأصل التكوينيّ ونزوعه الدائم إلى الله، وهذا ما يجعل السياق الاجتماعيّ ليس كما يتصوّر البعض يقوم على التكليف أو الفرض الإلزاميّ، بل حركيّة الإنسان في التاريخ ودوره فيه.
فالإنسان هو محرِّك التاريخ، وهذه الحركة تنبع من ما هو موجود فيه من وحدة الفطرة التي تجعل الإنسان ساعيًا لتحقيق كمالاته، وفي هذا المجال كلّ الشعوب تسير على هذا الخط حتى تلك المشركة أو العابدة للأصنام، ولكنّ الفارق في نوعية الوعيّ بالمثل الملازم لهذا الكدح، وهذا ما يظهر: “حينما توفِّق [المسيرة الإنسانيّة] بين وعيها على المسيرة، وبين الواقع الكونيّ لهذه المسيرة بوصفها سائرة ومتّجهة نحو الله، سوف يحدث تغيير كميّ وكيفيّ على هذه المسيرة”[16]، والتي تؤدّي إلى أمرين:
1- التغيير الكميّ: وهو يقوم على انفتاح الإنسان على التطوّر والإبداع والنموّ المستمرّ، ويكون ذلك عندما يميل الإنسان إلى الوحي، ويتبنّى المثل الأعلى الإلهيّ، الذي يمسح كلّ المثل المزوّرة، كلّ الأصنام والأقزام التي تقف أمامه.
2- التغيير الكيفيّ: وهو يتمثّل بتقديم حلول موضوعيّة للجدل والتناقض الإنسانيّ، فمن خلال إيمان الإنسان بالمثل الأعلى ووعيه حدوده الكونيّة الواقعيّة، ينشأ لديه شعور بالمسؤوليّة تجاه هذا المثل الأعلى لأوّل مرّة في تاريخ المُثُل البشريّة التي حرّكت البشر على مرّ التاريخ. وهذا يتناقض مع أصحاب المثل المنخفضة التي نشأت نتيجة الإفرازات البشريّة، وهؤلاء يبقون دائمًا بعيدين عن المسؤوليّة، لأنّ مثل هذه المُثُل قد تصنع قوانين، قد تصنع عادات، قد تصنع أخلاقًا، ولكن كلّها غطاءً ظاهريًّا، يسعى الإنسان للتحلّل منها كلّما أتيحت له الفرصة لذلك، بينما المثل الأعلى المنفصل عنه يعطي الموضوعيّة والشعور بالمسؤوليّة، الذي يتجسّد في كيانه، في كلّ مشاعره وأفكاره وعواطفه. ومن هنا كان النبيّ معصومًا على ما مرّ، وكان رائدًا وثوريًّا لا يحيد عن طريق الحقّ.
وهذه النظرة لأهميّة الوحي في الاجتماع الإنسانيّ، تنطلق من تحليل الطبيعة البشريّة، فالإنسان بنظره يعيش تناقضًا بسبب تركيبته وخلقته، فهو كائن مركّب من حفنة من تراب ونفحة من روح الله سبحانه وتعالى. وهذا الأمر جعله مُنشدًّا من جهة إلى الأسفل حيث الشهوات والميول وكلّ ما ترمز إليه الأرض من انحدار وانحطاط، ومن جهة أخرى يتوجّه إلى الأعلى حيث صفات الله وأخلاق الله والعدل والرحمة وغير ذلك. وهذا التناقض يجعل الإنسان في حال من التناقض لا يمكن حلّه إلّا من خلال تحمّل المسؤوليّة؛ هذه المسؤوليّة التي تربط الإنسان الموجود بالدنيا بالحياة الآخرة، فتجعل منه كائنًا غائيًّا لم يوجد على هذه الأرض عبثًا، لأنّ عدم إدراك هذا الأمر سيحوّل الإنسان إلى كائن طبيعيّ عبثيّ، لا يوجد إمداد غيبيّ له، يساعده على إعطاء المعنى للوجود وللحياة، بالتالي، فالمسؤوليّة تجري تغييرًا في كيفيّة رؤية العالم المحيط بالإنسان، وتسعى إلى جعله مطابقًا للمثل العليا الإلهيّة.
فالدين عبر حركيّته يحرّر الإنسان من الصنميّات التي يتعلّق بها كالمال، والقوميّة، الطبقة وغيرها، ويحوّل التوحيد من مجرّد نظريّات إلى وقائع يعيشها الإنسان في حياته، فهي تعلّمه أن يتعامل مع صفات الله وأخلاقه لا بوصفها حقائق عينيّة منفصلة عنه كما يتعامل فلاسفة الإغريق، وإنّما يتعامل معها بوصفها صفات وأخلاق يقتدي بها، بوصفها هدفًا لمسيرته العلميّة عبر الرؤية الواضحة فكريًّا وأيديولوجيًّا للمثل الأعلى[17]، وعبر الطاقة الروحيّة التي يربطها بين حياة الإنسان في الساحة التاريخيّة وتعلّقاتها بالحياة الأخرى. هذه الصلة الموضوعيّة جسّدها الأنبياء، الذين عملوا على نشر الرؤية الإلهيّة من خلال رؤية أيديولوجيّة واضحة للمثل الأعلى وطاقة روحيّة مستمدّة من الإيمان بيوم القيامة.
والسيّد الشهيد من خلال المقولة التي قدّمها، يفعّل أصول الدين في الاجتماع الإنسانيّ، بالتالي هو سعى إلى إقامة صلة بين المعتقد والسلوك العمليّ للإنسان، وبذلك يتحوّل الدين إلى قائد للحياة، ويمكن أن نلحظ هذا الأمر من خلال الدلالات التالية:
الأصل الأوّل: التوحيد، يعطي رؤية واضحة فكريًّا وأيديولوجيًّا، ويعبّئ كلّ الطموحات، وكلّ الغايات في مثل أعلى واحد وهو الله سبحانه وتعالى.
الأصل الثاني: العدل، وهو صفة من صفات الله عزّ وجلّ وميزته تنطلق من الجانب الاجتماعيّ ومدلولاته التوجيهيّة والتربويّة. وقد علّمنا الإسلام على أن نتعامل معها كمؤشّرات وكمنارات موجّهة للطريق نحو الحقّ.
الأصل الثالث: النبوّة، هي التي توفّر الصلة الموضوعيّة بين الإنسان وما بين المثل الأعلى.
الأصل الرابع: الإمامة، وهي التي تندمج بأصل النبوّة، ولكنّها تتابع الرسالة عند حاجة الدين لذلك، من أجل مواصلة المعركة ضدّ المثل المزوّرة.
الأصل الخامس: الإيمان بيوم القيامة، وهو الذي يزوّد الإنسان بالطاقة الروحيّة، الذي يجدّد دائمًا إرادة الإنسان وقدرته، ويوفّر الشعور بالمسؤوليّة والضمانات الموضوعيّة[18].
فالسيّد الشهيد يحيل الأفكار إلى البعد الاجتماعيّ، ولم يستثنِ من هذا الأمر حتّى المثل الأعلى الربانيّة، التي -كما يقول-:
لئن بقيت القيم والمثل والأهداف والاعتبارات عقليّة محضة، فهي سوف تكون قليلة الفهم، ضعيفة الجذب بالنسبة إلى الإنسان، وكلّما أمكن تمثيلها حسّيًّا أصبحت أقوى، وأصبحت أكثر قدرة على الجذب والدفع[19].
ومن هذا المنطلق، ومن آفاق البعد الاجتماعيّ، دعا إلى عدم الاحتفاء بالأفكار العقليّة المجرّدة حتّى ولو كانت هذه الأفكار عبارة عن مثل عليا إيمانيّة، لذلك: “لا بدّ لنا في أن يُعبّأ كلّ وجودنا بهذه القيم والمثل، لكي تكون على مستوى المحسوسات بالنسبة إلينا”[20]، ومن هذه المثل التي يجب أن تستحضرها هي العبودية لله عزّ وجلّ، وذلك عبر إيحاء الإنسان لنفسه بأنّه عبد مملوك لله سبحانه وتعالى، وأنّ الله تبارك وتعالى هو المالك المطلق لأمره وسلوكه ووجوده، حتّى يصل إلى درجة يوحي فيها إلى نفسه بأنّه يجب أن يعيش لله، وعندها سوف تتعمّق في ذهنه دقّة العيش لله حتّى تتّسع: “[و]تصبح بالتدريج شبحًا يكاد أن يكون حسّيًّا بعد أن كان نظريًّا عقليًّا صرفًا”[21]. وفي حال لم يقم بهذا الأمر يكون كما قال الله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا﴾[22].
لذلك رفض السيّد الشهيد النظرة الماركسيّة التي تربط بين وسائل الإنتاج والاجتماع الإنسانيّ، ويعتبرها قراءة تُسقِطُ على الواقع مُسبقات أيديولوجيّة، وفي هذا المجال يعتبر السيّد أنّ الإسلام رفض الصلة الحتميّة بين تطوّر الإنتاج وتطوّر النظام الاجتماعيّ. وذهب بالمقابل للقول إنّ للإنسان حقلين: يمارس في أحدهما عمله مع الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله أن يستثمرها ويسخّرها لإشباع حاجاته، ويمارس في الآخر علاقاته مع الأفراد الآخرين في شتّى مجالات الحياة الاجتماعيّة. وأشكال الإنتاج هي حصيلة الحقل الأوّل، والأنظمة الاجتماعيّة هي حصيلة الحقل الثاني. وكلّ من الحقلين – بوجوده التاريخيّ – تعرض لتطوّرات كثيرة في شكل الإنتاج أو في النظام الاجتماعيّ، ولكنّ الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطوّرات أشكال الإنتاج وتطوّرات النظم الاجتماعيّة. ولأجل ذلك فهو يعتقد أنّ بالإمكان أن يحتفظ نظام اجتماعيّ واحد، بكيانه وصلاحيّته على مرّ الزمن مهما اختلفت أشكال الإنتاج.
فقد برهن الإسلام بكلّ وضوح على أنّ القوى المنتجة ليست هي العامل الأساسيّ في التاريخ. والحياة الاجتماعيّة بأشكالها نابعة من حاجات الإنسان نفسه، لأنّ الإنسان هو القوّة المحركّة للتاريخ لا وسائل الإنتاج، وفيه نجد ينابيع الحياة الاجتماعيّة. فقد خُلِقَ الإنسان مفطورًا على حبّ ذاته والسعي وراء حاجاته، وبالتالي استخدام كلّ ما حوله في سبيل ذلك، وكان من الطبيعيّ أن يجد الإنسان نفسه مضطرًا إلى استخدام الإنسان الآخر في هذا السبيل أيضًا، لأنّه لا يتمكّن من إشباع حاجاته إلّا عن طريق التعاون مع الأفراد الآخرين، فنشأت العلاقات الاجتماعيّة على أساس تلك الحاجات، واتّسعت تلك العلاقات ونمت باتّساع تلك الحاجات ونموّها، خلال التجربة الحياتيّة الطويلة للإنسان.
وهكذا تحدّى الواقع الإسلاميّ منطق الماركسيّة التاريخيّ، لأنّها ترى أنّ فكرة المساواة من نتاج المجتمع الصناعيّ، الذي يتفتّح عن الطبقة التي تحمل لواء المساواة وهي البورجوازيّة، وليس من الممكن في رأيها حمل هذا اللواء قبل أن يبلغ التطوّر التاريخيّ هذه المرحلة الصناعيّة. ويقف الإسلام من هذا المنطق – الذي يرد كلّ وعي وفكرة إلى تطوّر الإنتاج – هازئًا، لأنّه استطاع أن يرفع لواء المساواة، وأن يفجّر في الإنسانيّة وعيًا صحيحًا وإدراكًا شاملًا، واستطاع أيضًا أن يعكس جوهرها في واقع العلاقات الاجتماعيّة، بدرجة لم تصل إليها البورجوازيّة. واستطاع أن يقوم بذلك كلّه قبل أن يأذن الله بظهور الطبقة البورجوازيّة، وقبل أن توجد شروطها المادّيّة بعشرة قرون. فقد نادى بالمساواة يوم لم تكن قد وجدت الآلة فقال [صلّى الله عليه وآله وسلّم]: “كلّكم لآدم وآدم من تراب”[23]، و “الناس سواسية كأسنان المشط”[24]، و “لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلّا بالتقوى”[25].
وبالمقابل، يُقدّم السيّد الشهيد نقدًا مُهمًّا ورائدًا لفكرة الديمقراطيّة كما قُدِّمت في الغرب الليبراليّ، لأنّها تخضع لكثير من الالتباسات لا يمكن في هذه العجالة التطرّق إليها بشكل تفصيليّ. فالنظام الديمقراطيّ، على الرغم من حمله مشعل الحريّة، إلّا أنّه في الواقع وضع السيادة الحقيقيّة بيد صاحب السيادة، ممّا أدّى إلى غياب مفهوم العدل، وهذا ما عبّر عنه أحد أهمّ المفكّرين السياسيّين في الفكر المعاصر فرنسوا ليوتار، حين شكّك في إمكانيّة تطبيق الديمقراطيّة على أرض الواقع، ذلك لأنّ الإجماع بحدّ ذاته أصبح قيمة مشكوك فيها، ولذلك يتعيّن الوصول إلى فكرة وممارسة للعدالة لا تكون مرتبطة بالإجماع لا سيّما وأنّنا نعيش في مجتمعات لا تعمل على جذب العلماء التقنيّين وبناء المؤسّسات من أجل الوصول إلى الحقيقة، بقدر ما نقوم بذلك سعيًا وتدعيمًا للقوّة، الأمر الذي يؤدّي إلى القول بأنّ المعرفة والسلطة هما في العمق وجهان لسؤال واحد، وهو: “من يقرّر ماهيّة المعرفة، ومن يعرف ما يتعيّن اتّخاذه من قرارات”[26].
والسيّد الشهيد في سبيل نقده لهذه الرؤية، يعود إلى مفهوم الحريّة في سياقه الإسلاميّ عبر معالجة مسألة الجبر والتفويض من خلال بحث أصوليّ في موضوع الطلب والإرادة، حيث اعتبر هذه المسألة تنحلّ إلى مسألتين؛ إحداهما كلاميّة والأخرى فلسفيّة. في الأولى يرجع إلى تشخيص الفاعل لهذه الأفعال، وأمّا المسألة الفلسفيّة فذهبت إلى مناقشة ماهيّة الفعل هل هو نابع من الجبر أو الاختيار؟
وفي المسألة الكلاميّة: طرح السيّد خمس احتمالات هي:
- تفويض العبد للعمل: ويستند هذا الاحتمال على أساس رأي مفاده استغناء المعلول عن علّته في مرحلة البقاء واقتصار الحاجة إلى العلّة في مرحلة الحدوث، فيرفض هذا الاحتمال، ويصل إلى نتيجة مفادها: “إنّ الوجود المعلول ليس له حقيقة إلّا نقص الارتباط بالعلّة والتعلّق بها، وهذا هو الفارق الرئيسيّ بين ارتباط المعلول بعلّته وارتباط اللوحة بالرسّام، أو القلم بالكاتب”[27]؛ أي إنّ هذا المعلول:
ليس شيئًا له ارتباط وتعلّق بالعلّة […] بل هو نفس الارتباط بمعنى أنّ كيانه ووجوده كيان ارتباطيّ ووجود تعلقيّ؛ ولذلك كان قطع ارتباطه بالعلّة إفناء له، وإعدامها لكيانه؛ لأنّ كيانه يتمثّل في ذلك الارتباط، على عكس اللوحة، فإنّها لو لم ترتبط بالرسّام في عمليّة رسم معيّنة لما فقدت كيانها ووجودها الخاص[28].
وبالتالي، لا يمكن تصوّر استقلال العلّة عن المعلول لأنّ وجودها عبارة عن تعلّقات وارتباطات، وخذ على سبيل المثال السيّارات وصنعها، فالسيّارات لم تستغنِ عن العلّة في لحظة من لحظات وجودها، وهي تعدم عند انفصالها عن مُصنّعها، فهي بحاجة دائمًا إلى الصيانة لتستمرّ في السير.
- الفعل لله: ويرى السيّد أنّ هذا الاحتمال ينبغي أن يكون مقابلًا بالوجدان المدّعى في كلمات القائلين به، إذ قالوا إنّه بالضرورة هناك فرق بين حركة المرتعش وحركة غير المرتعش، باستعمال الوجدان. وهذا الاستعمال للوجدان ينبغي تطبيقه في المقام لنفي هذه الشبهة، لأنّ الوجدان لا إشكال في ثبوته، إذ يملك الإنسان بصريح وجدانه كامل حريّته في الاختيار. فهو يشعر بتأنيب الضمير عند قيامه بعمل غير لائقٍ، ويشعر بالرضا عند إذعانه للحقّ، لذلك يصادم الجبر الفطرة والوجدان، وكلّ كلام مخالف لهذا الأمر عبارة عن مكابرة وجحود، لأنّ القائلين به سرعان ما يدافعون عن حقوقهم إذا تعرّضت للاعتداء عليها، فلو لم يكن لهم حريّة الاختيار هل استطاعوا القيام بهذا الأمر؟
- المولى والعبد لهما نصيب من الفاعليّة: بمعنى:
أنّ الفعل له فاعلان طوليّان، فاعل أوّل، وفاعل للفاعل، فهما فاعلان في رتبتين، وليسا في رتبة واحدة. فالفاعل الأوّل هو عبارة عن قدرة الإنسان وتمام أفعاله التي بها استطاع أن يتحرّك ويصلّي، والفاعل الآخر الذي هو أسبق رتبة، هو خالق هذه القوى[29].
ومن خلال هذا الفهم، ينسب الفعل إلى الله نسبة تسببيّة، ونسبته إلى العبد نسبة مباشريّة.
- الفاعل المباشر هو المولى تعالى: فهو الذي يفعل الصلاة وسائر ما يصدر عن الإنسان، لكنّ الإرادة ومبادئها في الإنسان مقدّمات إعداديّة لصدور الفعل من المولى. وهذا الرأي يخالف الأشاعرة، ومن خلال هذا الاحتمال، فالفعل – وإن كان فعل المولى – لكنّ الإرادة مقدّمة إعداديّة من أجل قابليّة المحل، ولأجل أن يُفاض عليه هذا الفعل من المولى.
- الاحتمال الخامس: وهو خاصّ بعرفاء المتصوّفة والفلسفة، ويقوم على الذوق، وقد رفضه السيّد لمخالفته الوجدان.
أمّا المسألة الفلسفيّة: وهي تسعى لحلّ شبهة مركّبة من مقدّمتين:
- المقدّمة الأولى: إنّ الاختيار ينافي الضرورة، لأنّ الضرورة تساوق معنى الاضطرار، من قبيل حركة يد المرتعش، التي يكون صدورها ضروريًّا من المرتعش.
- المقدّمة الثانية: وتقوم على كون الإنسان محكوم لقانون العلّيّة، التي تنصّ على أنّ لكلّ معلول علّة، والمعلول لا يمكن أن يوجد إلّا إذا وُجِدت علّته، وفي هذه الحالة يكون وجوده ضروريًّا.
ومن خلال هذه الشبهة، يكون الإنسان مجبرًا على الفعل. لذلك عمل الشهيد على تفنيدها انطلاقًا من مفهوم السلطنة الذي وضعه كبديل عن الوجوب والإمكان، وقد قدّم لهذا المفهوم برفض شموليّة وإطلاق قوانين العلّيّة على الأفعال الإنسان الاختياريّة – وهو في هذا الموضع تابع رأي المحقّق النائيني قُدّس سرّه – ودعا للعودة إلى الفطرة السليمة التي أدركت هذا القانون لتقول كلمتها فيه، حيث أكّدت أنّ الإمكان الذاتيّ للشيء لا يكفي مصحّحًا لوجوده، بل لا بدّ من وجود السلطنة التي تشترك مع الإمكان الذاتيّ في نسبتها إلى الوجود والعدم، وتمتاز عنه بأنّ في الإمكان لا بدّ من مصحّح لأحد الطرفين. أمّا السلطنة، فبعد فرض وجودهما لا بدّ من الالتزام بأنّها تختلف عن الإمكان في أنّه لا يحتاج صدور أحد الأمرين فيها إلى ضميمة، وإلّا كان ذلك خُلف كونها سلطنة […] لأنّ معناها أنّ “له أن يفعل وله أن يترك” وبذلك تشترك السلطنة مع العلّة الموجبة في كفاية صدور الشيء بل ضمّ ضميمة وتمتاز عنها “[بـ]أنّ صدور الشيء من العلّة الموجبة ضروريّ، أمّا السلطنة فصدور الفعل أو الترك منها ليس ضروريًّا، لأنّه لو كان ضروريًا، لكان خلف السلطنة أيضًا”[30]. ومن هنا، ينتزع الإنسان عنوان الاختيار من السلطنة، ولا ينتزعه لا من الفعل الصادر من الوجوب بالعلّة، ولا من الفعل الصادر من محض الإمكان، لو أمكنت الصدفة.
وهكذا، أسّس السيّد الشهيد مفهوم السلطنة من أجل إثبات الحريّة بالفعل الإنسانيّ، ولكن مع إخضاعها لعنصرين أساسيّين هما: الشرع والوجدان. ومن خلال هذا الضابط، يمكن القول بأنّ الأفعال الخارجيّة كالصيام والصلاة وشرب الخمر وقتل النفس وغيرها تدخل هذا الضابط، فضلًا عن الإرادة والشوق والقصد إلى هذه الأفعال الخارجيّة.
وبعد ضمّ المسألة الفلسفيّة إلى المسألة الكلاميّة، يصل إلى القول إنّ الإنسان يفعل بالاختيار والسلطنة، وليس بالجبر، وهذا لا يتناقض مع البعد الكلاميّ الذي ورد في الاحتمال الثالث الذي تبنّاه، والذي يفيد أنّ هناك مؤثّرين في الفعل أحدهما: الباري عزّ وجلّ، والآخر الإنسان، بمعنى أنّ الفعل فعله، ولكنّه هو بذاته من فعل الله، وهذا ما يتطابق مع قول المعصوم: “لا جبر ولا تفويض، ولكن أمرٌ بين أمرين”[31].
كما أنّ السيّد الشهيد لا يرفض مفهوم الحريّة ولكنّه لا يذهب باتّجاه تفويض الإنسان بالفعل واستقلاله في عمله عن إرادة الله وسننه في الكون، بل تعني أنّ الفعل الصادر من الإنسان مستند إلى الخالق من جهة، ومستند إلى العبد من جهة أخرى:
فليس الفعل فعله سبحانه بحيث يكون منقطعًا عن العبد بتاتًا، ويكون دوره دور المحل والظرف لظهور الفعل، كما أنّه ليس فعل العبد حتّى يكون منقطعًا عن الواجب، قضاءً بكون الفعل بل الفاعل، أمرين ممكنين غير مستغنين عن الواجب في آن من الآنات.
وإذا طبّقت هذه الرؤية على الرؤية الإسلاميّة للحريّة، نلاحظ أنّ السيّد الشهيد لا ينكر مفهوم الحريّة وأهميّته، ولكنّه يعتبر أنّ السياق الحضاريّ الغربيّ لم يستطع أن يحلّ هذه الإشكاليّة بشكل صحيح، لأنّ هذه الرؤية، لا ترتكز على نظرة شاملة للحياة، بل هي عبارة عن مثل وقيم جزئيّة ومادّيّة سرعان ما تتلاشى أمام المصالح الذاتيّة من جهة. ومن جهة أخرى هذه الحضارة تتميّز بنزعتها المادّيّة والفردانيّة للديمقراطيّة، تحمل في طيّاتها نزعة اختزاليّة للإنسان، تميل إلى جانب واحد هو الطين. فالسيد يرى أنّ المشكلة في النظرة الغربيّة، تتمثّل في تشييء الإنسان وغلق حياته ضمن أُطرٍ محدودة بعيدة عن الغيب.
وهكذا يتجلّى أنّ موقف السيّد من الغرب ليس موقفًا سياسيًّا، إنّما هو موقف سوسيو-معرفيّ، يسعى إلى إسقاط التداخل بين المفاهيم الاجتماعيّة الإسلاميّة والأخرى الاجتماعيّة الغربيّة. فالحضارة الغربيّة في تنظيرها السياسيّ تنطلق من الرؤية الغربيّة نفسها، وهي نتيجة تطوّر تاريخيّ حصل في الغرب، وهناك صعوبة في تطبيقها على العالم الإسلاميّ، بل أنّها تُحدِثُ تناقضًا بينها وبين الطرح السياسيّ الإسلاميّ عبر فرض قيم وأهداف تتناقض مع تاريخه وذهنيّته وعقيدته[32]. فالخلاف بين الرؤيتين جذريّة.
أمّا الدولة الإسلاميّة فهي متّصلة بالأمّة من حيث هي وعي وحركة عبر التاريخ، ولا يمكن أن تتحرّك أيّ أمّة من الأمم إلّا ضمن النسق الثقافيّ المؤسّس لها ومركباته الداخليّة. وهذا الكلام يفضي أنّ الإسلام لا يمكن أن يحكم إلّا من خلال الإسلام نفسه، لأنّ الدولة فيه تتعدّى كونها عنصرًا تشريعيًّا أو قانونيًّا لتتحوّل إلى حضارة متكاملة.
وهذه الحضارة تنتج قيمها بشكل متناسب مع بنيتها، وهذا ما يجعل حتّى الدولة في الإسلام، تختلف عن مثيلاتها في الفكر الغربيّ، حيث تعالت هناك وأصبحت تسعى إلى تحقيق غاياتها الخاصّة، وهذا الأمر يعود إلى التنظيرات الفلسفيّة التي اتّكأت عليها. فحين تحدّث فردريك هيغل عن الدولة، اعتبرها تجسيدًا للعقل الكونيّ في التاريخ، أي أنّها تحقّق غاية ذاتيّة متعالية. وهذا التعالي، جعل المجتمعات والشعوب والأشخاص مجرّد لعبة في يده. فهم يقومون بأدوار في التاريخ ولكنّهم لا يشعرون بأدوارهم هذه، إنّهم مسيَّرون من طرف العقل الكونيّ. أمّا مفهوم خلافة الإنسان لله في الأرض، فإنّه لا ينفي ذاتيّة الفرد، ولا ينفي مسؤوليّة الإنسان فردًا وشعوبًا وأممًا، بل الخلافة والمسؤوليّة فكرتان متلازمتان[33].
وهكذا، تصبح الدولة تجسيدًا للمشروع الحضاريّ الإسلاميّ لحفظ حركة التاريخ من الانحراف عن خطّ الخلافة، فهي تشكّل الرابط بين شرع الله وحركة الإنسان في التاريخ، تسعى إلى جعل الأمّة في الخط الرساليّ الذي يسمح لها بقيادة العالم.
منهجيّة الكتاب
يلاحظ القارئ لكتاب السيّد أنّ هذا الكتاب اعتمد المنهج الموضوعيّ، وهذا ما يظهر من خلال الطريقة المنهجيّة التي بدأ بها كتابه، حيث نرصد:
- اختياره للموضوع الذي يريد دراسته اختيارًا موضوعيًّا.
- حصر الآيات التي يريد الحديث عنها، ووضعها تحت عناوين محدّدة.
- جعل هذه الآيات مُبتنية على هيكل واضح المعالم، ضمن نظام يؤدّي إلى تسهيل الوصول إلى عناصر الربط بينها.
- الانتقال إلى الربط فيما بينها وإظهار أحداث ووقائع تاريخيّة تزيدها وضوحًا.
- ربط الموضوع بالواقع المعاش.
وهذا الاتّجاه الذي بدأ بالظهور منذ القرن الرابع الهجريّ، وظهرت أولى معالمه مع السيّد جمال الدين الأفغاني، ومن ثمّ مع الشيخ محمّد عبده، واستخدمه العديد من الباحثين، قد لجأ إليه السيّد الشهيد في هذا الكتاب لمعالجة موضوع محدّد، يُظهر آليّة قيام الاجتماع الإنسانيّ وهدفه. وهذه الطريقة المنهجيّة تساعد على اكتشاف النظريّة في الإسلام من خلال مركّب نظريّ قرآنيّ، يتمّ من خلال الربط بين المدلولات المتعدّدة في القرآن الكريم مع الواقع. فهذا المنهج لا ينطلق من الأفكار أو القبليّات إلى الواقع، إنّما يبدأ من الواقع الخارجيّ ويعود إلى القرآن الكريم لاستنطاقه ومعرفة رؤيته في الموضوع المُثار، ممّا يساعد في إيجاد رابطة توحيديّة بينهما.
وإن كان هذا المنهج يشترك مع المناهج التفسيريّة الأخرى وأدواتها من اللغة إلى الدراسات القرآنيّة والتفسيريّة إلّا أنّه مع السيّد، يحمل تجديدات متعدّدة:
- التجربة البشريّة: ويكون ذلك عبر العودة للتجربة الإنسانيّة حول الموضوع المُثار، وما قدّمه الفكر الإنسانيّ فيه، وما طرحه التطبيق التاريخيّ حول نفس الموضوع. لذلك كان اصطلاح الموضوعيّ، بمعنى أنّه يبدأ من الموضوع الخارجيّ ويعود إلى القرآن الكريم، وكان اصطلاح توحيديّ باعتبار أنّه يوحِّد بين التجربة البشريّة وبين القرآن الكريم:
لا بمعنى أنّه يحمل التجربة البشريّة على القرآن، لا بمعنى أنّه يُخضِع القرآن للتجربة البشريّة؛ بل بمعنى أنّه يوحِّد بينهما في سياق بحثٍ واحد، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحَّد من البحث، يستخرج المفهوم القرآنيّ الذي يمكن أن يحدّد موقف الإسلام من هذه التجربة أو المقولة الفكريّة التي أدخلها في سياق بحثه[34].
وهو في هذا القول في التفسير الموضوعيّ، يفترق عن الدراسات السابقة لأمين الخوليّ وأحمد الشرباصي ومحمّد شلتوت، وعبد الستّار فتح الله، الذين حصروه بجمع نصوص على موضوعٍ واحدٍ وتفسيرها تفسيرًا شموليًّا لانتزاع رؤية قرآنيّة متكاملة عنه.
وبهذا، ينتقل المفسّر من مجرّد مستمع للنصّ إلى محاورٍ له، يعمل على استنطاقه للوصول إلى حلّ لإشكاليّة محدّدة لها علاقة بواقع حياتيّ وإنسانيّ. ويقول السيّد في هذا المجال إنّ المفسّر الموضوعيّ:
لا يجلس ساكتًا ليستمع فقط بل يجلس محاورًا، يجلس سائلًا ومستفهمًا ومتدبّرًا، فيبدأ مع النّص القرآنيّ حوارًا حول هذا الموضوع، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظريّة التي بإمكانه أن يستلهمها من النصّ، من خلال مقارنة هذا النصّ بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتّجاهات[35].
من هنا يصبح هذا التفسير على علاقة مباشرة مع التجربة البشريّة.
- البعد التركيبيّ: لا يكتفي هذا المنهج في التفسير بعمليّة الربط بين الموضوعات، بل يعمل للانتقال منها إلى إيجاد مركّب نظريّ. وهذا المركّب يحتلّ في إطاره كلّ واحد من المدلولات التفصيليّة موقعه المناسب، وهو ما يؤدّي إلى قيام نظريّة قرآنيّة حول الموضوع المُثار، كنظريّته في الاجتماع السياسيّ الذي نجده في هذا الكتاب، الذي بين أيدينا.
فقد قدّم السيّد، من خلال النص الذي بين أيدينا، تطبيقًا على البعد التركيبيّ. فبعد أن حدّد مفهوم الخلافة والشهادة، بدأ ببناء الموضوع انطلاقًا من الرؤية القرآنيّة. فالنظريّة وصلت إلى نتيجة مفادها بوجود استقلال نسبيّ بين خطّين: خطّ علاقات الإنسان مع الإنسان، وخطّ علاقات الإنسان مع الطبيعة.
منهج العمل على الكتاب
أُعتمد في تحقيق هذا الكتاب على الطبعة الثانية الصادرة عن تعارف في بيروت تاريخ 1979 ميلاديًّا الموافق 1399 هجريًّا، الذي يحمل الرقم 4 ضمن سلسلة الإسلام يقود الحياة، بالإضافة إلى نصّ مكتوب بخطّ اليد موجود على شبكة الإنترنت لا يفترق بمحتواه عن النسخة المطبوعة، وقد آثر التحقيق على إبقاء النصّ الأصليّ على ما هو عليه، دون التدخّل فيه. وفي الحالات التي أضفنا فيها عنوان أو تبويب معين لجأنا إلى وضعها بين [ ] ليتمّ تمييزها عن غيرها.
هذا، وقد أضفنا إلى النصّ بعض الهوامش، التي ليست من أصله، وقمنا بالتدقيق ببعض المصادر خاصّةً أنّ الكتاب قد احتوى بنسخته المطبوعة بعض الأخطاء.
[1] سورة البقرة، الآيات 30-33.
[2] محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة، تراث الشهيد الصدر، المؤتمر العالميّ للشهيد الصدر، المجلد 19، من الصفحة 106 إلى الصفحة 118.
[3] سورة الرعد، الآية: 11.
[4] عبد الرحمن ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق عبد الله محمّد بن درويش (دمشق: دار يعرب، الطبعة1، 2004)، الجزء1، الصفحة 92.
[5] المصدر السابق نفسه، الصفحة 92.
[6] سورة الأعراف، الآية: 34.
[7] سورة يونس، الآية 47.
[8] سورة الأحزاب، الآية: 62.
[9] سورة الأنعام، الآية: 34.
[10] المدرسة القرآنيّة، مصدر سابق، الصفحة 71.
[11] زينب محمود الحضيري، لاهوت التاريخ عند القديس أغسطين (القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1992)، الصفحتان 65 و108على التوالي.
[12] أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، (الإسكندريّة: دار المعرفة الجامعيّة، 1996)، الصفحة 160.
[13] إشارة إلى قوله: ﴿وَأَن لوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم ماء غَدَقًا﴾ (سورة الجن، الآية 13).
[14] المدرسة القرآنيّة، مصدر سابق، الصفحة 76.
[15] محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (قم: مركز الدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر، 1422هـ)، الصفحة 133.
[16] محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة، مصدر سابق، الصفحة 144.
[17] المدرسة القرآنيّة، مصدر سابق، الصفحة 151.
[18] المدرسة القرآنيّة، مصدر سابق، الصفحتان 154-155.
[19] محمّد باقر الصدر، موجز في أصول الدين، تحقيق عبد الجبّار الرفاعي، (دار سعيد بن جبير، الطبعة1)، الصفحة 227
[20] موجز في أصول الدين، مصدر سابق نفسه، الصفحة 229.
[21] موجز في أصول الدين، مصدر سابق نفسه، الصفحة 222.
[22] سورة يوسف، الآية 40.
[23] ابن شعبة الحراني، تحف العقول، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفّاري (قم المشرّفة: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين الطبعة 2، 1404هــ)، الصفحة 34.
[24] السرخسي، المبسوط (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، 1986)، الصفحة 23.
[25] محمّد باقر الصدر، اقتصادنا (قم: مؤسّسة بوستان كتاب، الطبعة 2، 1425هـ)، من الصفحة 322 إلى 327.
[26] محمّد نولا الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقديّة المعاصرة (الدار البيضاء: دار أفريقيا الشرق، الطبعة2، 1988)، الصفحتان 249 و250.
[27] محمّد باقر الصدر، فلسفتنا (بيروت: دار التعارف، الطبعة2)، الصفحة321.
[28] المصدر السابق نفسه، الصفحة321.
[29] عبد الستّار حسن، بحوث في علم الأصول مباحث الحجّ والأصول العلميّة (بيروت: الدار الإسلاميّة، الطبعة1، 1423هـ)، الجزء4، الصفحة 62.
[30] بحوث في علم الأصول مباحث الحجّ والأصول العلميّة، مصدر سابق، الصفحة 80.
[31] الشيخ الصدّوق، الهداية، تحقيق مؤسّسة الإمام الهادي عليه السلام (قم: مؤسّسة الإمام الهادي عليه السلام، الطبعة1، 1418هـ)، الصفحة 18.
[32] انظر، محمّد باقر الصدر، منابع القدرة في الدولة الإسلاميّة، ضمن كتاب الإسلام يقود الحياة.
[33] المدرسة القرآنيّة، مصدر سابق، الصفحة 105.
[34] المدرسة القرآنيّة، مصدر سابق، الصفحة 25.
[35] المدرسة القرآنيّة، مصدر سابق، الصفحة 25.
المقالات المرتبطة
الفكر الإسلامي في العصور الوسطى: دراسات في النص والنقل والترجمة – تكريمًا لهانز دايبر
يمكن دائمًا التعويل على دراسات اللغة العربية وآدابها في العصور الوسطى للكشف عن النوادر والقواسم المشتركة في المنظور الثقافي للمجتمع.
قراءة في كتاب “مقاربات منهجية في فلسفة الدين” | حين ينظر المتديّن إلى دينه من بُعد
تخيَّر المؤلف الشيخ شفيق جرادي لنفسه في عمله هذا “مقاربات منهجية في فلسفة الدين” أن يقرب أمرًا لا يؤخذ عنده
قراءة في كتاب “الموعظة الخالدة”
لم تكن الوصية صكًّا من معصوم لمعصوم يرثه في الخلافة وأمور المسلمين، بل كانت كتاب حياة يُخَطّ بماء من ذهب