by معهد المعارف الحكميّة | أبريل 13, 2021 9:39 ص
بناءً على أن الصدمة تثير الانتباه، فلتُفتتح المقالة بأن ما يجعل النار محرقة، والمتر مترًا، والحلو حلوًا، وورق الشجر الأخضر أخضرًا، وغير ذلك من أمور الطبيعة من حولنا ليس ذاتيات هذه الأشياء الماهوية الموجودة في الخارج فحسب، بل هو نحو تفاعل موضوعيّ بين الُمدرِك والمُدرَك، لا على نحو ذاتية المُدرِك، فليس المقام مقام تصديق سيكولوجيّ بطبيعة الحال، وإنما بنحو موضوعيته وخارجيته، فالقضية ليست سفسطة عند أهل العقول النيّرة بأيّ حال من الأحوال…
وبيان ذلك أن الطبيعة الخارجية للنار ليست إلّا انفعالًا تلقائيًّا لذرّات الأوكسجين مع مركبات كاربونية (وضمن شروط كيميائية محددة)، حينها تتكسر الروابط الموجودة في المركبات، ولكن لا تنعدم، بل تتحول إلى قوالب أخرى كثاني أكسيد الكربون وغيره مضافًا إلى صدور الطاقة بالقالب الذين نسميه حرارة. إنّ الأثر المعروف الذي يقول عنه العرف أنّه إحراق، ويميّزه كأثر من الآثار المباينة للآثار الأخرى كالبرودة، ناشئ عن الخصوصية الموضوعية للُمحترِق في واقع الحال، فليست النار شيئًا والمحترق شيئًا آخر من الناحية الكيميائية والفيزيائية، وأما الانفعال بالحرارة قبل أن يحصل الاشتعال الفعلي (تحول الأوكسجين إلى ثاني أكسيد الكربون مع إطلاق حرارة) فليس نارًا، وإنما هو جسم عرضت عليه طاقة تؤثر فيه بنحو خاص من التأثير، كالتمدد، وانفعال الذرات لطروّ طاقة لا تحتملها الروابط الموجودة فيما بينها فتتراقص وتحتك ببعضها البعض، لكن دون أن يبلغ التأثير حد الاشتعال… هذا مجرد مثال، وتعابيره فيها بعض التسامح…
لنذكر أيضًا مثال خضرة أوراق الشجر، فإن الورقة كجسم لها علاقة خاصة مع الموجات الكهرومغناطيسية الآتية من الشمس والعابرة للغلاف الجوي، ككل الأجسام من حولنا… ما يحصل عادة أنّ ما يبقى من إشعاعات الشمس بعد عبور الغلاف الجوي يصطدم بالأجسام ويأخذ واحدة من سلوكيات ثلاث؛ الأولى الامتصاص، الثانية الارتداد، والثالثة النفاذ ؛ وما تراه العين أخضرًا ناتج عن طبيعة الجهاز النوعي الذي يبصر حين يرتدّ إليه ما انعكس من أشعة الشمس المرتطمة بورقة الشجر، أي أن الورقة امتصت كل ألوان الطيف وسمحت لجزء كبير منه بالنفاذ ولم تطرد إلا الأخضر، واللطيف هنا أنك لو امتلكت جهازًا يفحص ما تحتفظ به الورقة من ألوان الطيف لكان لون الورقة هو مزيج كل الألوان إلا اللون الأخضر، فلا تكون خضراء من وجهة النظر هذه !!! طبعًا غضضنا الطرف عن بحث التسمية وفلسفة اللغة هنا، على أهميته… لكن كيف كان نكمل في الأمثلة…
فلو أخذت الطول مثلًا، فإن الفيزياء النسبية تنبئنا اليوم أن الأطوال نسبية (كالزمن، على تفصيل ليس محله هنا) تتأثر بالسرعة التي يتحرك بها الجسم والمدرك له أيضًا، ولا تتوهّم أن الجسم ثابت لا يتحرك.. فلا شيء مما هو حولك لا يتحرك، فحتى قطعة الحديد في يدك التي تظن أنك وإياها ثابتان فإنكما معًا على سطح أرض تدور حول نفسها بمعنى حول محور، وتدور في الوقت نفسه حول الشمس بحركة بيضاوية، وهي والشمس تدوران في فلك محدد ضمن مجرّة درب التبانة، وهي والشمس والمجرة بأسرها تسبح بسرعة هائلة في كون يقول العلم الحديث أنه يتمدد !!
لكن ماذا عن الحلاوة والمرورة؟ لا أريد أن أضرب أمثلة قديمة حول خطأ الحسّ… فهذا مما عرفه القدماء… الأمر الأجمل هذه الأيام أننا جميعًا نستخدم في أيام الكورونا صابونًا بروائح تشبه الفواكه، وهذه تراكيب كيميائية مصنعة ولو في الجملة، ونادرًا ما تستخدم في المنتجات الزهيدة الثمن عطور مشتقة من الطبيعة مباشرة (هذا مكلف جدًّا) فالشركات تلجأ لتصنيع ما يظهر للطفل والكبير أنه صابون برائحة التفاح، وحين يحاول الطفل الذي شغلت لبّه الرائحة الجميلة للتفاح أن يتذوق ينقلب المشهد مضحكًا ويثير عنده حالة من الاستغراب الشديد (طبعًا نتحدث عن طفل يعرف طعم وراحة التفاح الحقيقي، ولا تسألني عن معنى الحقيقة هنا إلا إن أردت أن تسمع أنها بمعنى النوع الماهوي الذي يستمد أصالته –مع تسامح في التعبير- من الوجود).
بعد كل هذا الاستقراء للخارج، يحق السؤال عن هذه الأعراض وأنها من أي المفاهيم تكون حينها؟ مفاهيم ماهوية؟ أو فلسفيّة قياسية يتعملها العقل؟ وما معنى القول بأي من هذين الأمرين؟
الجواب لا يُفترض أن يكون في حدود هذه المقالة، وإلا لانتقض الغرض… والسلام…
طبيعة الألوان بين الفيزياء والفلسفة، جزء2
وممّا يمكن النقاش فيه لانتزاع ثمرة فلسفية محدّدة (سنشير إليها لاحقًا) ما يذكرونه في قضية حمل العرضيّ على الجوهر كما حين يُحمل البياض (العرض) على الجدار فيقال: “الجدار أبيضٌ”، ونقاشنا يبدأ من حقيقة فيزيائية ترتبط بطبيعة الألوان وكونها لا تنفكّ عن ذاتيّة من ذاتيات الجسم التي هي الامتداد الموجيّ للجسميات المكوّنة لهذا الجسم الذي نقول أنّه جدار، ففي الطبيعيات إنّ لكل عنصر من العناصر الكيميائية التي تكوّن الأجسام من حولنا خصوصيات ذاتية إذا انفكّت عنه ذهب الجسم الطبيعي بحلّته التي نعرفها.
من هذه الخصوصيات طبيعة العلاقة بين أجزاء الجسم المادية والتي ترتبط ارتباطًا مباشرة بطريقة تفاعل الجسم مع الأشعة التي تصطدم به، فإما تنعكس عنه أو يمتصها أو تنفذ من خلاله …هذه الخاصية متعلّقة بطبيعة الرابط الذي يكون موجودًا بين الذرات لتكوين الجسم الطبيعي، مثلًا الجسم الحديدي يتركّب من ذرات الفرّوس ferrous ورمزها في الجدول الكيميائي Fe، وهذه الذرات ترتبط مع بعضها بعلاقة ربطية وإلا لا يتركّب الجسم الحديدي (الذي نعرفه في الخارج المناسب لحواسنا) الذي ينجذب للمغناطيس مثلًا، ويتمتّع بصلابة أشد من الخشب وكثافة تدفعه للغرق في الماء وهكذا… هذه العلاقة الربطية بين ذرات الحديد ليست أمرًا اعتباريًّا، وإنما تترتّب عليها آثار تتمايز عن آثار الجسم النحاسيّ كما هو واضح وبديهي عند كل الناس… فهي أمر حقيقي ليست بخيال… إلى هذا الحد لا ألوان ولا ما يحزنون (هذا على تحليل أوّلي نكتفي به، وإلا عندنا تفصيل إضافي أكثر تعمّقًا نتركه من باب التسهيل)، فمن أين تأتي الألوان التي لا يشكّك بها عاقل؟
قصتنا مع الألوان ترتبط بالأشعة التي تصطدم بالجسم الحديدي (الأشعة لها طبيعة الأمواج waves وبالتالي تتقوّم بالتردّد frequency والامتداد الموجي wave length كما هو معلوم حتّى عند من درس إلى حدود الثانوية العامّة)، وكلنا نسمع أن الأشعة لها طيف واسع من الترددات، لكن الإنسان يرى فقط جزءًا من هذا الطيف، وهو الجزء الممتد بين اللونين الأحمر والبنفسجي… على أن الأحمر هو تعبير نصف به ما نراه بعيننا، والذي هو في الحقيقة موجة كهرومغناطيسية لها الميزات الفيزيائية التالية: (امتداد موجي (~nm 700 أي أن طول الموجة قصير إلى حدّ يصل 700 مقسوم على مليار متر!! تخيّلوا صغر هذا الحجم، وتردد frequency ~4.3*10 14 Hz أي أن الموجة تكرّر نفسها كلّ ثانية واحدة 4.3 مضروب بمئة ألف مليار مرّة !!) والبنفسجي هو تعبير تميّزه العين لحقيقة خارجية حسيّة تجريبية عبارة عن موجة كهرومغناطيسي لها الميزات الفيزيائية التالية: امتداد موجي ~nm 400 (أي أن طول الموجة قصير إلى حدّ يصل 400 مقسوم على مليار متر!! تخيّلوا صغر وقصر هذا الامتداد وهو أقصر من الأحمر على ما هو واضح)، وتردد frequency ~7.5*10 14 Hz أي أن الموجة تكرّر نفسها كل ثانية واحدة 7.5 مضروب بمئة ألف مليار مرّة !!) ولو أن تردّدًا ما لسبب ما، فقدان الطاقة مثلًا)، فهي بالنسبة للملاحظ بعين بشريّة موجة غيّرت لونها بين الأحمر والبنفسحي ونحن وفق المتعارف سنقول هذا لون آخر إذا اتضح ذلك، فإن موجة الأشعة التي تأتي وتصطدم بالحديدة أمامنا :
1 . بعضُ طيفها ينفذ لأن تردداته أضيق من التردد المرتبط بالمسافة بين ذرتي الحديد وهذا أصلًا لا نراه.
2 . وبعضها يمتصه الحديد بسبب ظاهرة فيزيائية لن نتكلم عنها بحدود مقالتنا هنا.
3 . بعضه الآخر يعكسه الحديد، وهذا المقدار ينقسم إلى :
3.1 – مقدار لا نراه لأنه خارج عن الطيف بين الأحمر والبنفسجي.
3.2 – المقدار الذي نراه ويتراوح تردده بين الأحمر والبنفسجي، وهذا هو الذي نقول هو “اللون”، هذه هي حقيقة الألوان! بل هي حقيقة ما نقول إنّه العرض على دعوى…
وبالتالي إذا كان لون الحديد الطبيعي بين الفضّي والرصاصي وبسبب تفاعله مع الهواء والماء يميل إلى البنّي والأسود (بعد تحقق نسبة معينة من التأكسد) فإنّ حقيقة اللون ليس إلا خاصية فيزيائية واقعية ترتبط بطبيعة علاقة ذرات الجسم مع بعضها البعض ومقدار ما تعكسه من أشعة، وهكذا النحاس الأحمر… وهكذا لو عدنا إلى الحمل الذي نرتكبه حين نقول الحديدة فضيّة أو طاسة النحاس التي أمامنا حمراء فحقّ القضية علميًّا أن تكون على الشكل التالي (أعود وأقول في مستوى من مستويات التحليل وإلا هناك مستوى أكثر عمقًا من الضروري أن لا نقترب منه الآن): الشيء الذي أمامنا مكوّن من مركّب كيميائي له خواصّ ذاتية تجعلنا نصنّفه كنحاس تمييزًا له عن الأشياء الأخرى التي لها مجموعة خواص وجودية أخرى، ومن هذه الخواص عكسُ جزءٍ محدّد من الطيف تلتقط أعيننا مقدارًا منه وتميّزه عن غيره فتسمّيه أحمرًا”.
وبالمناسبة هذه الحقيقة الفيزيائية هي الطريقة التي يعتمدها العلماء لاكتشاف مكوّنات النجوم البعيدة… هذا هو الكلام العلمي، أما قولنا الطاسة حمراء أو الجدار أبيض فهو كلام عرفي لا يرقى لمستوى التفلسف، وقائله لا يخلو من حالتين: حالة يكون فيها جاهلًا بهذه الحقائق العلمية، وحالة يكون القائل عالمًا لكنّه مشغول بمقام خاصّ ما، من قبيل أن يكون في مورد تفهيم من لا يعلم أو الاختصار والإيجاز أمام من يعلم؛ لأنّ غرضه منصب على قضيّة أرى لا تستدعي هذا التفصيل…
والفلسفة عندنا لمن يعلم ولا تليق بمن لا يعلم، إلا أن يكون المقام مقام دراسة آراء الفلاسفة القدماء لا الدراسة الفلسفية، فلا يجوز بعد تبيان هذه الحقائق أن يتخلف الفيلسوف عن البتّ في الخلاف بين المشاء (نسبة للفلسفة المشائية)، والحكميّ (نسبة للحكمة المتعالية) في قضيّة حمل العرضي على الجوهر وهل أنّها وحدة تركيبية انضماميّة، أو أنّها شأن ومرتبة من مراتب الوجود… وبالتالي كيف توجّه حيثية لغيره إذ العرض في نفسه لغيره كما قرروا أي فيه حيثيتان لنفسه ولغيره (حيثية لنفسه قالوا تطرد العدم عن ماهية نفسه وهو البياض في المثال، وحيثية لغيره قالوا تطرد العدم المقارن لموضوعه، وهذه حيثية لغيره وفي المثال هي الأبيض).
إذ يظهر بعد الذي تقدّم أنّه في الطبيعيات ليس اللون بنفسه شيئًا، وإنما علاقة بين الأشعة والجسم الطبيعي والمقدار الذي تراه العين أي طبيعة العين (أعود وأكرر للمرة الثالثة هذا ضمن مستوى تحليل أوّلي) لكنّ هذا الذي نقطع أنّه موجود بفطرتنا وسليقتنا المحقّة حين نقول: “النحاسة حمراء”، والذي هو مستقلّ عن إدراكنا ولا يتأثر بطبيعة العين البشرية، ولا بطبيعة الأشعة التي تصطدم به هو في الواقع جوهر وجوديّ له مادّة وصورة هو هذا الجسم المكوّن من جسيمات لها حيّز وتركّب كيميائيّ خاصّ (نواة ذرّة وإلكترونات مع رقم ذري يساوي 26، ووزن ذري يبلغ 56 تقريبًا، وغيرها من الخواص الذاتية التي لا ترتبط بالألوان إلا قياسيًّا، أي بالقياس إلى الجهاز المستقبِل الذي هو عيوننا) وما ندّعيه أن كثيرًا من الأعراض التي تذكر كوجودات في نفسها لغيرها يجري عليها بعد التدقيق ما قلنا وبالتالي الحمل الذي يُرتكب فيه الكثير من التسامح وغاية ما يمكن أن يصل إليه هو كون العرض في حقيقته مرتبة وجوديّة للجوهر، ولا تركّب في المقام ولا ما يحزنون إلا اللهم إن قصد تركيب لغويّ فلسفيّ، وهو حتمًا ليس مرادهم… فليتأمّل القارئ جيّدًا قبل أن يتعجّل الإشكال…هذا من جهة الحمل، أما من جهة تحليل الوحدة والكثرة في المقام، فصار واضحًا أن التكثّر باعتبار المعتبر (المعتبر الذي هو الملاحظ)، أما ما يملأ الوجود الخارجي فليس إلا مراتب الوجود أي مراتب الوحدة… وهو مطلب ينسحب على النقاش في الوجود والماهية، وهو ما لا يحلّ بالدقّة في رأينا إلا بالاستناد إلى نظريّتنا في فلسفة المعلومات.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/12624/sophist/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.