by الدكتور أحمد ماجد | أبريل 13, 2021 9:44 ص
جعل اليهود فكرة الخلاص محورية، وبنوا عليها رؤيتهم للدين، حيث لا يمكن فهم اليهودية وشتاتهم إلا من خلال هذه الفكرة، حيث تزعم اليهودية أن يهوه أعطى إبراهيم ونسله أرض كنعان من النيل إلى الفرات، وأن ظهور المسيح المنتظر يحقق حلم اليهود بسيادتهم على أرض الميعاد المزعومة وعلى الشعوب التي أهانت اليهود. وسيجعل المخلص اليهود سادة على جميع شعوب العالم، ويحوِّل الأغيار عبيدًا وخدمًا لليهود.
وهذا المخلّص يجب أن يكون من أسرة داود ومقره القدس، ويجب أن يكون مالكًا لأسباب القوة ويتمتع بمهابة السلطان، وتقول التوراة: “لا يزول صولجان من يهوذا، ومشترع من سلالته حتى يأتي شيلو وتطيعه الشعوب”(1)[1]، وتقول: “ويل للمتمنّين يوم الرب. لِمَ ذاك؟ إنّ يوم الرب لكم ظلمة لا نور. كما إذا هرب إنسان من وجه الأسد فلقيه الدب، أو دخل البيت وأسند يده إلى الحائط فلسعته حية أليس يوم الرب ظلمة لا نورًا؟ بل هو ديجور لا ضياء له”(2)[2]، وتقول التوراة: “صهيون تُفدى بالحق، وتائبوها بالبرِّ، وهلاك المذنبين والخطاة يكون سواءً، وتاركوا الرب يفنون”(3)[3]، وتقول: “ويل للمبكرين صباحًا يتبعون المسكر، للمتأخرين في العتمة تلهيهم الخمر”(4)[4]، ويقول: “ويخرج قضيبٌ من جذع يسَّى وينبت غصن من أصوله. ويحل عليه الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشهورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب. ولذّته تكون في مخافة الرب، فلا يقضى بحسب نظر عينيه، ولا يحكم بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمسكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتيه، ويكون البر منطقة متينة والأمانة منطقة حقويه. فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمَّن معًا، وصبي صغير يسوقها. والبقرة والدُّبة ترعيان، تربض أولادهما معًا، والأسد كالبقر يأكل تبنًا. ويلعب الرضيع على سرب الصِّلّ، ويمد الفطيم يده على حجر الأفعوان. لا يسؤون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر. ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسَّى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم، ويكون محلّه مجدًا”(1)[5]…
ومن إشارات ظهوره، قيام العالم الجديد الذي لن يكون كالعالم الحالي. وأن الناس سينضمون إليه.. وجاء: “يولد لنا ولد. ونعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا ويكون إلهًا قديرًا وأبًا وأبديًّا رئيس السلام. تنمو رياسته. يجلس على كرسي داوود وعلى مملكته يثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد. غيرة رب الجنود تفعل هذا”(2)[6].
وفكرة الخلاص المسيحانية، لم تكف عن مداعبة خيال اليهودي منذ السبي البابلي وصولًا إلى القرن العشرين، وكانت المحرّك لكثير من الثورات، ففي فترة ظهور عيسى بن مريم (ع)، قام يهودي واسمه يهوذا الجليلي(3)[7] بادعاء أنه المسيح، فتبعه عدد كبير من اليهود، ولكن الدولة الرومانية، قامت بقمعه وتشتيت فرقته. ثم ادعى “ثيوداس”(4)[8] الذي ظهر سنة 44 ميلاديًّا المسيحيانية، فاتبعه جمهور كبير من اليهود، ولكن الحاكم الروماني للمنطقة، أرسل كتيبة من الفرسان فقتلت من هؤلاء اليهود عددًا كبيرًا، وقطعت أسس الدعوة. ويذكر يوسيفوس مسيحًا آخر من يهود مصر، ذهب إلى جبل الزيتون المشرف على القدس، وأخذ ينشر دعوة مسيحانية من سنة 55 إلى 60 ميلاديًّا، فعلم به حاكم مدينة القدس فليكس، فانقض عليه وعلى أنصاره وقتل الكثيرين وشتت جموعهم.
وفي القرن الثاني الميلادي، حوالي سنة 130 للهجرة. قام اليهودي بركوبا، بإعلان الحرب على الرومان لطردهم من القدس وفلسطين، ولكن الحركة فشلت وتشتت اليهود في أصقاع الإمبراطورية الرومانية، ولكن حلم المخلص، لم يفارق خيالهم. حتى إذا شعروا بالعدالة والحرية في ظل الدولة الإسلامية، عادوا إلى فكرتهم يحاولون العمل عليها وإبرازها، فظهرت سلسلة من المخلصين منهم إسحاق بن يعقوب عوبديا المعروف باسم أبي عيسى الأصفهاني. وقد عاش في عهد الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان (685-705).. وفي عهد عمر بن عبد العزيز(717-720) ظهر مسيح آخر في سوريا اسمه “سيرينوس”، قام بتحرير اليهود من الشريعة ورفع الحظر عن المحرمات في الطعام والشراب، واستمر هذا الشخص حتى أيام يزيد بن عبد الملك بن مروان، الذي ألقى القبض عليه وسلمه لليهود لتصويب معتقده.
وتكرر انبثاق ظاهرة المسيح في المجتمع اليهودي، وصل بعضهم إلى درجة كبيرة من الخطورة كالمخلّص داوود بن سليمان الرائي، الذي ولد في مدينة آمد في كردستان سنة 1135، حيث أقام شبه دولة، ودعا اليهود في بغداد والأقاليم المحيطة بها للذهاب إلى القدس وانتزاعها من أيدي المسلمين، وقام بإثارة الفتنة في الدولة السلجوقية، وفي الدولة العباسية، وحضّر جيشًا للانقضاض على مدينة آمد التي وُلِدَ فيها، ولكنّه قتل في أثناء محاولته. وتحوّل الرائي إلى أسطورة في حياة اليهود، وأعطوه صفات شفائية وإعجازية، وتحدثوا عن عدم موته وعودته مرة ثانية إلى اليهود.
وفي سنة 1490 ادعى داوود الرأوبيني المولود في خيبر بالقرب من المدينة المنورة المسيحانية، وقال بأنه وريث عرش مملكة خيبر اليهودية التي أسقطها الإسلام، وأرسل إلى البابا وملوك أوروبا رسائل لتزويده بالسلاح والأموال، واستقبله البابا كلمنت السابع بعد ذلك، في الفاتيكان بحفاوة كبيرة سنة 1524. وفي السنة التالية جرى استقبال رسمي له في قصر ملك البرتغال، ولكن مع تعاظم دوره بين اليهود المتنصرين، خافت السلطات الكنسية، وقامت بدس السم له فمات.
وظهر في الدولة العثمانية شبتاي صبي، الذي اعتمد التعاليم القبالية، وقال أن يهوه دعاه إلى الإعلان عن نفسه كمسيح مخلص، وسمح له بتسميته باسمه الحقيقي بدل من أدون الذي كان يستخدم حتى ذلك الحين، ونتيجة انكشاف أمره ادعى الإسلام في حضرة السلطان العثماني، وأطلق على نفسه اسم محمد أفندي ولقب أفوجى باشى إيطراق وعناه خادم الأعتاب، كما أعلن أن زوجته سارة قد أسلمت أيضًا وأصبح اسمها فاطمة قادن، أي السيدة فاطمة وتعلَّم العربية والتركية، بالإضافة إلى التفسير، ولكنّه بقي في الباطن على يهوديته، وأسس فرقة الدونمة(1)[9]. وهذه الفرقة لعبت دورًا خطيرًا، حيث ظهرت في مدينة ايزنشتادت. وقاد حركة كبيرة مؤداها أن رجوع شبتاي صبي من السماء باتت قريبة وستكون في غضون ثلاث سنوات. وعندما فاتت المدة ولم يظهر، قال إنه هو المسيح المنتظر، وذاع صيته بسبب ركوبه الحمار وفقره، واستدعاه يهود روما للاحتفال به كمخلص، ولكن قساوسة محاكم التفتيش علموا بأمره وقرروا قتله، فهرب من روما إلى بولندة وظل مختفيًا إلى أن مات.
وفي سنة 1676 م، قامت في بولونيا في القرن الثامن عشر حركة أخرى مشابهة قادها “إسرائيل البدولي” فأسس طائفة تدعى “الحسيديم” عام 1740، واستمد تعاليمه من الزوهر(2)[10] لكنه لم يعتقد أن الكون صورة من صور الله، بل إن الكون كله هو الله. وقد استخدم طرائق السحر والشعوذة للإقناع، وتبعه مريدون كثر.. وفي إثره قام داعية آخر هو “حويل بن أوري” اعتمد على السحر باسم الله.. ورفض القرابين والملكية الفردية، ودعا إلى التعايش بين الشعوب.
وقد انتشرت الجمعيات والتيارات القبالية كطائفة الفرنكين، نسبة ليعقوب فرانك 1755م، الذي كان يقول لقد أتيت لأحرّر العالم من كل الشرائع والعادات الموجودة فيه. وبالفعل أوقف العمل بالأوامر والنواهي، وألغى الحدود بين المقدَّس والمدنَّس فأصبح كل شيء مقدَّسًا، ومن ذلك الإثم نفسه، وبالتالي أصبح الوصول إلى النور غير ممكن إلا بالنزول في الظلام، وأصبح الصعود غير ممكن إلا بالسقوط في الهوة. فمن خلال الوقوع في الخطيئة سينبثق عالم لا مكان للخطيئة فيه، عالم هو الخير كله. وتبعهم في هذا المنحى “إخوان الشعلة” في بولونيا.
وهذه النظرة الخلاصية لليهودية، تجعل قيامة اليهودية مرتبطة بشكل وثيق بعودة المخلص المسيح إلى الأرض، وبمعزل عن هذا الأمر، يجب على اليهود أن يبقوا في أرض الشتات منتظرين هذا الحدث العظيم، الذي سيعيد اليهود إلى أرض الميعاد حيث سيبنى هيكل سليمان من جديد طبقًا للنموذج الموجود في العلم الأزلي للإله.
(1)[11] – تكوين 49: 10.
(2)[12] – عاموس 5: 18-20.
(3)[13] – إشعيا 1: 27-28.
(4)[14] – إشعيا 5: 11.
(1)[15] – إشعيا: 11: 1-10.
(2)[16] – إشعيا: : 6-7.
(3)[17] – يرجع المؤرخ اليهودي الشهير “يوسيفوس” السبب في المصائب التي نزلت باليهود عام 70 م، إلى تعاليم “يهوذا الجليلي”، ففي عام 6 م، أُلحِقَتْ “يهودا” بالإمبراطورية الرومانية، وفي ذلك العام أمر الإمبراطور أغسطس بإجراء إحصاء للسكان لفرض الضرائب عليهم، عند ذلك بدأ “يهوذا الجليلي” في تحريض اليهود على الامتناع عن دفع الضرائب وعلى رفض الاعتراف بالإمبراطور الروماني سيّدًا عليهم. في البداية، تصدّى القائد الروماني “فيسبسيان” للعصاة اليهود “السيكارديم” في الجليل، ولكن فيسبسيان اضطر للعودة إلى روما ليُصبِحَ إمبراطورًا، وتولى المهمة بعده ابنه “تيتوس” الذي جاء على رأس فيلق من مصر، ولما سقطت القدس في يد تيتوس، فرَّت فلول “السيكارديم” إلى قلعة “ماسادا” بقيادة “أليعازر” أحد أحفاد “يهوذا الجليلي”، وتحصّنوا بها، وعندما سقطت القلعة انتحر اليهود المحاصرون فيها خوفًا من الصلب على يد الرومان.
(4)[18] – ثيوداس وبعض المصادر تذكر اسمه ثيوداس، أعلن عن نفسه في حوالي 44 م بأنه نبي وأقنع كثيرًا من اليهود بأن يأخذوا أمتعتهم ويتبعوه إلى نهر الأردن حيث يفلقه بأمر منه كما فعل موسى عليه السلام.
(1)[19] – را: حسن ظاظا: “الفكر الديني اليهودي أطواره ومذاهبه”، (القاهرة: جامعة الدول العربية، 1971)، الصفحات 116_147.
(2)[20] – الزوهر أو الزوهار كلمة عبرية تعني “الإشراق” أو “الضياء”. من أهم كتب التراث القبَّالي (الصوفي اليهودي)، وهو مكتوب بالآرامية، ويسعى إلى كشف المعنى الباطني للعهد القديم، وخصوصًا أسفار موسى الخمسة، ونشيد الأنشاد، وراعوث، والمراثي. ويعود تاريخه الافتراضي، حسب بعض الروايات، إلى ما قبل الإسلام والمسيحية، وهو ما يحقق الاستقلال الفكري (الوهمي) لليهود، وكتابته بلغة غريبة، تحقق العزلة لأعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية. ويُنسَب الكتاب إلى الحاخام شمعون بن يوحاي (القرن الثاني)، وإلى زملائه، ولكن يُقال إن موسى دي ليون (مكتشف الكتاب في القرن الثالث عشر) هو مؤلفه الحقيقي أو مؤلف أهم أجزائه، وأنه كتبه بين عامي 1280 و1285، مع بدايات أزمة يهود إسبانيا. والزوهار، في أسلوبه، يشبه المواعظ اليهودية الإسبانية في ذلك الوقت. وبعد مرور مئة عام على ظهوره، أصبح الزوهار بالنسبة إلى المتصوفة في منزلة التلمود بالنسبة إلى الحاخاميين. وقد شاع الزوهار بعد ذلك بين اليهود، حتى احتل مكانة أعلى من مكانة التلمود، وخصوصًا بعد ظهور الحركة الحسيدية. والموضوعات الأساسية التي يعالجها الزوهار هي: طبيعة الإله وكيف يكشف عن نفسه لمخلوقاته، وأسرار الأسماء الإلهية، وروح الإنسان وطبيعتها ومصيرها، والخير والشر، وأهمية التوراة، والماشيَّح والخلاص، مع الإشارة إلى أن جوهر فكر الزوهار هو تَوقُّع عودة الماشيَّح، الأمر الذي يخلع قدرًا كبيرًا من النسبية على ما يحيط بأعضاء الجماعات اليهودية من حقائق تاريخية واجتماعية. را: عبد الوهاب محمد المسيري: “موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية”، (القاهرة: مؤسسة الأهرام، 1975)، الصفحتان 206و 207 .
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/12627/judaism/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.