رمضان؛ شهر الله

رمضان؛ شهر الله

في هذه الفقرة من الدعاء يذكر (عليه السلام) إحدى هذه الطرق: شهر رمضان المبارك؛ حيث يقول: “وَالْحَمْدُ لِلّه الَّذِي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ، شَهْرَ الصِّيَامِ، وَشَهْرَ الإِسْلَام، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحِيْصِ، وَشَهْرَ الْقِيَامِ، الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ، وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ.

شهر رمضان هو إحدى الطرق التي يمكن لاجتيازها أن يوصلنا إلى الرضوان الإلهي، حيث يصف الإمام (عليه السلام) هذا الطريق القيّم؛ أي شهر رمضان المبارك، بالتوصيف التالي:

رمضان؛ شهر الله

شهر رمضان شهر الله. طبعًا، ففي ثقافتنا الإسلامية، جميع ما سوى الله مخلوقٌ ومنسوب إلى الله، ولكن في بعض الموارد قد منح الله ميزةً “خاصّة” لبعض هذه المخلوقات؛ أي منح بعض المخلوقات شرفًا وقيمةً خاصّةً من خلال نسبتها إلى نفسه. جميع الأماكن في الأرض هي من الله تعالى، ولكنّ المساجد فقط هي التي يسمّيها “بيت الله”، وكذلك فجميع المساجد هي مكان عبادة الله وهي له جلّ وعلا، ولكن من بينها كلّها مسجدٌ واحد فقط يسمّيه بيته؛ وهو المسجد الحرام الذي يُقال له: “بيت الله الحرام”. وكذلك جميع الأزمنة منسوبة إلى الله، ولكنّ الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في خطبته المعروفة في آخر شهر شعبان، يطلق اسم “شهر الله” على شهر رمضان: “قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُم شَهْرُ اللهِ بِالبَرَكِةِ وَالرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ”[1].

سؤال: إذا كان مقرّرًا أن تُنسَب بعض الأزمنة والأمكنة إلى الله تعالى، فلماذا ينبغي أن يُحدَّد ويُعيَّن المكان الفلاني أو الزمان الكذائي؟ ما هي الحكمة من هذه النسبة والشرف؟ هذه النسبة المهمّة ينبغي أن لا تكون عبثًا وبدون حكمه، إذًا فما هي الحكمة فيها؟

الجواب: هذه النسبات والتشريفات هي لأجل أن ندرك نحن أهمية ذلك الزمان والمكان، ونستفيض من الرحمة الإلهية بشكل أكبر. عندما يُسمَّى مكانٌ ببيت الله، فهذا يجلب اهتمامًا أكبر به ويجعل الناس تتوجّه إليه أكثر، وبالتالي فمع حضور الناس في ذلك المكان بشكل أكبر، تزداد الفيوضات والرحمة الإلهيّة في ذلك المكان ويصبح الناس أقرب إلى الله ويحظون أكثر ببركات ذلك المكان؛ إذ إنّ نسبة ذلك المكان إلى الله بسبب وجود الرحمة الإلهية فيه.

إنّ كون شهر رمضان المبارك شهر الله هو لهذا السبب أيضًا؛ وذلك لأنّ الرحمة الإلهية في هذا الزمن أكثر منها في سائر الأزمنة. ونسبة هذا الشهر إلى الله تؤدّي إلى أن يُقبِل عليه عباد الله أكثر ويستفيدوا من الفيوضات الربانية فيه بشكلٍ أكبر، إلى حدّ أنّ رسول الله (ص) نراه في تلك الخطبة يحثّ عباد الله على شهر رمضان بهذا النحو فيقول: “دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ”.

وعلى أيّ حال، فإنّ أحد أسماء شهر رمضان المبارك هو: “شهر الله”، وقد فتح الله لنا هذا الطريق لكي نصل إلى رحمته ورضوانه، وأسماه باسمه حتى يلفتنا أكثر إلى أهميته.

ثمّ يعتبر الإمام السجّاد (عليه السلام) أنّ الميزة الثانية لهذا الشهر هي كونه “رمضان”: “شَهْرَ رَمَضَانَ”. فما معنى اسم “رمضان”، وما هو وجه التسمية بهذا الاسم؟ في هذا الخصوص ذُكِر في كتب اللغة والأدب وحتى في كتب التفسير والروايات بحوثٌ كثيرة، ولكنّ أيًّا من تلك الأبحاث حول وجه تسمية شهر رمضان المبارك لا يُمكن أن يُركَن إليه بالشكل الكافي[2].

غير أنّ من جملة المباحث التي يمكن قبولها أكثر من البقية: هو أنّ الله تعالى قد خصّ شهر رمضان من بين أشهر السنة الاثني عشر بذكره في القرآن الكريم بالاسم، حيث قال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[3]. هذا الأمر بذاته يكشف عن لطف الله الخاص بهذا الشهر. كما يكشف هذا الأمر المهمّ أيضًا عن أنّ تسمية شهر رمضان المبارك ليس أمرًا ذوقيًا وتابعًا لميل هذا وذاك؛ بل هو اسمٌ ارتضاه الله لهذا الشهر، ولهذا السبب يعتبر الإمام السجاد (عليه السلام) أنّ إحدى صفات هذا الشهر هي اسمه: “شهر رمضان”[4].

أمّا الصفة الثالثة التي يذكرها الإمام السجاد (عليه السلام) لشهر رمضان المبارك فهي: “شَهْرَ الصِّيَامِ”. هذا التعبير يمكننا أن نستخرج منه الدرس التالي: وهو أنّ شرف هذا الشهر ومكانته عند الله كبيرةٌ جدًا؛ وذلك لأنّه جعل هذا الشهر بتمامه زمانًا للصيام ولضيافته، ومن خلال هذه الوسيلة يتهيّأ للعباد بشكلٍ أكبر أرضية الاستفادة من الفيوضات، والرحمات، والبركات الإلهية حتى يكون عباد الله شاكرين له وحامدين باستفادتهم من هذا الشهر.

رمضان شهر الإسلام

الميزة الأخرى لشهر رمضان المبارك هي كونه “شَهْرَ الإِسْلَام”، وحول كون شهر رمضان المبارك “شهر الإسلام” وجوهٌ كثير قد ذُكرت، بعضها معروفٌ أكثر من سواه، وهي التي نشير إليها في ما يلي:

الوجه الأول: أنّ الإسلام في هذه العبارة هو بالمعنى اللغوي؛ أي التسليم، فشهر الإسلام بمعنى شهر التسليم لله. في شهر رمضان المبارك على الإنسان أن يكون لديه جهوزية لمزيدٍ من التسليم في مقابل الشرع المقدّس والأحكام الإلهية، فعبد الله في هذا الشهر، من أوّل طلوع الفجر إلى آخر النهار، دائمًا مثل أذنٍ صاغية لأوامر الله. فمن أوّل الصبح وقبل أن يطلع الفجر يُوجِّه إليه الأمر بالإمساك: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾[5]، وعلى امتداد النهار يُحرَم على الإنسان كثيرٌ من الأمور المحلّلة، وعليه أن يبتعد عمّا كان حلالًا عليه في سائر الشهور. عبد الله في هذا الشهر مُسلِّمٌ لجميع هذه الأحكام الإيجابية والسلبية والأوامر والنواهي الإلهيّة. طبعًا فالإنسان المسلم والعبد المؤمن مُسَلِّمٌ دائمًا للأمر الإلهي؛ ولكنّ ظهور هذا التسليم وبروزه في هذا الشهر أكثر منه في سائر الشهور؛ وذلك بسبب وجود تكاليف أكثر في هذا الشهر.

الوجه الثاني: إنّ صوم شهر رمضان المبارك قد شُرّع للمسلمين فقط فهو خاصٌ بالمسلمين، ولهذا السبب كان شهر رمضان المبارك “شهر الإسلام”. لقد خصّ الله تعالى أمّة الإسلام؛ أي أمّة آخر الزمان، بهذا الشهر وبما له من خصوصيّات وبركات، ولا توجد أيّ أمّةٍ أخرى، غير المسلمين، لها شهرٌ باسم شهر رمضان ينبغي أن تصوم فيه. هؤلاء ليس لديهم في هذا الشهر تكليفٌ مثل التكليف المُوجَّه إلى المسلمين. وعلى الرغم من أنّ الآخرين قد يكون لديهم، هم أيضًا، صومٌ واجبٌ وبعض العبادات الشبيهة بعبادات المسلمين، ولكنّهم مع ذلك محرومون من عبادةٍ بهذه الميزة والخصوصية.

الوجه الثالث: في شهر رمضان المبارك تظهر آثار الإسلام بشكل أكبر، بحيث إنْ دخل شخصٌ غير مسلمٍ إلى المجتمع الإسلامي في شهر رمضان المبارك فإنّه يرى في هذا المجتمع الميزات الحصرية التي تختلف عن ميزات سائر الشهور. هذه الميزات من قبيل تعطيل المطاعم وجميع مراكز تقديم خدمات الطعام والشراب، حالة الخضوع والاستكانة والسكينة عند أغلب الناس، اشتغالهم بالعبادة، توجّههم إلى الله بشكل أكبر، الازدحام في المساجد والمراكز العبادية، تراجع نسبة ارتكاب الذنوب و… هذا الشخص غير المسلم عندما يسأل عن هذا الاختلاف الواضح فسيقولون له إنّ أهالي هذا المجتمع مسلمون والتزامهم بدين الإسلام هو الذي جعلهم بهذا الشكل. وبناءً عليه، يمكن القول إنّ علائم الإسلام وشعائره تظهر في هذا الشهر أكثر من سائر الشهور.

 

 

[1]  محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، ج 93، الباب 46، ص 356، “وجوب صوم شهر رمضان وفضله”.

[2]  أحد هذه التوجيهات في هذا المجال هو ما يلي: قال بعضهم: “أصل رمضان من مادة “رمض” بمعنى شدّة الحرارة واللهيب. وعندما سُمّي شهر رمضان بهذا الاسم أول مرّة، كان الطقس في غاية الحرارة والشدّة. وكذلك شهرا ربيع الأول وربيع الثاني عندما سُمّيا بهذا الاسم أول مرّة كانا مقترنَين مع شهرَين من أشهر فصل الربيع، وقد بقيا بهذا الاسم لاحقًا نتيجةً لكثرة الاستعمال، في حين أنّ الشهر القمري أساسًا في حال تغيّر على امتداد السنة الشمسية، ومع مرور الزمن، فجميع الأشهر القمرية يمكن أن تتطابق مع جميع الأشهر الشمسية”. على أنّ هذه البيانات في وجه تسمية الأشهر لا يمكن الاعتماد عليها.

[3]  {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (سورة البقرة، الآية 185).

[4] في ما يتعلّق بوجه تسمية شهر رمضان المبارك، قيل إنّ “رمضان” هو أحد أسماء الله تعالى، ولهذا السبب، فلا ينبغي حين الاستعمال أن يطلق كلمة “رمضان” فقط، وإنّما يُقال: “شهر رمضان”. وهذه الصيغة هي التي وردت في القرآن الكريم أيضًا، وكذلك في خطبة رسول الله (ص) وفي دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) لم ترد كلمة “رمضان” وحدها. ونحن بدورنا، رعايةً للأدب [والاحترام] نعتمد دائمًا الاستعمال القرآني وما ورد في الرواية النبوية وفي دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) فنقول: “شهر الله” أو “شهر رمضان”. هذا النوع من رعاية الأدب، ولو كان لمجرد وجود احتمال، له قيمته، ولعلّ لرعاية الأدب المحتمل قيمةً أكثر حتى؛ أي أن يبادر الشخص إلى أن يضيّق الأمر الصادر من الشرع المقدّس ولو كان ذلك لمجرد احتمال كونه مراعاةً للأدب. على أنّه لم يرد في أي روايةٍ من الروايات التي بُيّن فيها أسماء الله، لم يرد “رمضان” بصفته اسمًا من أسماء الله تعالى، وكذلك لم يذكر أي كتابٍ من كتب اللغة أنّ رمضان اسمٌ من أسماء الله تعالى.

[5] سورة البقرة، الآية 187.

**من كتاب زاد اللقاء الصادر عن دار المعارف الحكمية لآية الله مصباح اليزدي



المقالات المرتبطة

الدعوات الإلهيّة أسباب لبلوغ السعادة

إنّ الالتفات إلى عظمة الله تعالى ورأفته ولطفه يدفع الإنسان إلى الالتذاذ فقط بالخضوع أمام ربّه، وينسى بتاتًا ما كان يريد أن يطلبه منه

ساحة الرحمة لها باب اسمه التوبة

تتمثّل الخاصّية العجيبة لهذه الساحة في غفران كافّة ذنوب العاصي عند دخولها؛ ولو كان قد لوّث روحه وجسده بالعصيان لمائة سنة؛ والأرقى من ذلك أنّ كلّ هذه المعاصي سوف تُستبدل بالحسنات، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿يُبَدِّلُ‏ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾

الحمد والشكر

من جملة النعم المعنوية التي يشير إليها الإمام زين العابدين (عليه السلام) في هذا الدعاء ويأتي على حمدها وشكرها: نعمة شهر رمضان المبارك وبَحر النعم التي جعلها الله لعباده في هذا الشهر.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<