أهمية مقام القرآن
في هذا الدعاء يعتبر الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّ شهر رمضان المبارك هو أحد الطرق التي توصل الإنسان إلى منزل السعادة والسرور؛ أي الرضوان الإلهي. ومن ثمّ يتمسّك (عليه السلام) في مقام توصيفه لهذا الشهر الشريف بهذه الآية الشريفة: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَیِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان﴾[1].
لعل الفضيلة الأكبر لشهر رمضان المبارك هي الحدث المهم المتمثّل بنزول القرآن فيه، والذي تتّضح أهميته عندما نعلم أن القرآن قد أُنزل في ليلة القدر التي تقع أيضًا في هذا الشهر المبارك: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِی لَیْلَةٍ مُبَارَكَة﴾[2].
إن اكتساب ليلة القدر وشهر رمضان المبارك أهمّيتهما من نزول القرآن فيهما يظهر عظمة حقيقة القرآن النورانية؛ فعظمة القرآن وأهمّيته بالغة إلى درجة أنّ هذه الأهمّية والشرف يسريان إلى ظرف نزول هذا القرآن الكريم. ولا يبعد أيضًا أن تكون سائر فضائل شهر رمضان المبارك وليلة القدر إنّما هي ببركة فضيلة نزول القرآن؛ ذلك أنّنا نعتقد بأنّ القرآن هو الهديّة الإلهية الكبرى للإنسان. إنّ عظمة القرآن لا يمكن مقارنتها مع أيّ شيءٍ آخر، وفي أهمّية مقام القرآن ومكانته يكفي أنّ الوجود المقدس لحضرة مولى الموحّدين أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أطلق في مقام توصيفه للقرآن تعابير تظهر أنّه لا يمكن بيان حقائق القرآن بشكلٍ صحيح وأنّ مقام القرآن ليس في حدّ فهمنا وإدراكنا: “إِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِیقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِیقٌ لَا تَفْنَی عَجَائِبُهُ وَلَا تَنْقَضِي غَرَائِبُه”[3].
ولعله لهذا السبب كان بعض الأفراد حين نزول القرآن يسخرون من آياته، وعندما كانت تنزل آياتٌ حول بعض الأمور التي قد تظهر لهم أنّها ساذجة؛ مثل البعوضة ﴿إِنَّ اللَّهَ لا یَسْتَحْیِی أَنْ یَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾[4] أو الذباب ﴿إِنْ یَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَیْئًا لا یَسْتَنْقِذُوهُ مِنْه﴾[5]، كانوا يضحكون وينظرون بعضهم إلى بعضٍ ويقولون: كيف يمكن لهذا الكتاب الذي يطرح هذه المسائل الساذجة والبدائيّة أن يزيد من إيمان الإنسان؟ ﴿أَیُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِیمَانًا﴾[6]. في حين أنه كان ثمّة في المقابل أشخاص حتى من غير المسلمين ومن أهل الكتاب، عند استماعهم لآيات القرآن النورانية ترتجف قلوبهم من الخضوع أمامه، وتجري الدموع من عيونهم ويؤمنون به مباشرةً، ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْیُنَهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ یَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِین﴾[7].
هؤلاء مع أنهّم لم يكونوا مؤمنين ولا حتّى مسلمين، ولكن لمّا كانوا بعيدين عن الغرور، فقد تهيّأت عندهم الأرضيّة المناسبة لقبول الحق، وهذه الأهليّة التي كانت عندهم أدّت إلى أن لا يتركهم الله تعالى، بل يهديهم.
إن للقرآن عظمةً إلى حدّ أنّ إنسانًا معصومًا مثل حضرة مولى الموحّدين أمير المؤمنين (عليه السلام) يقدّمه على أنّ حقيقته في غاية العمق ولا يمكن إدراكها، كما إنّ له نورانيّةً تنوّر الحروف، والكلمات، والعبارات، وتجعل قلوب غير المسلمين ترتجف وبهذا النحو، نورانيّته عندما تشرق على حرفٍ ما أو على كلمةٍ أو عبارة تجعلها منوّرةً ومقدّسةً بحيث لا يمكن لمسها دون وضوء.
[1] سورة البقرة، الآية 185.
[2] سورة الدخان، الآية 3. بعضهم تصوّر خطأً أنّ النبي (ص) عندما تلقّى نور القرآن كانت ألفاظه وكلماته وخطوطه منه (ص) وليست من الله. هذا التصوّر خاطئ، فقد أنزل الله آيات القرآن بنمطٍ خاص {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَیْدِي سَفَرَة * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (سورة عبس، الآيات 13 – 16). فالله تعالى كتب بنفسه آيات القرآن في صحف نورانية وأنزلها بالألفاظ والعبارات عينها. ثمّ قام رسول الله (ص) بعد تلقّيها، بإبلاغها للناس بالصورة نفسها التي تلقّاها بها؛ دون زيادة ولا نقصان. وبناءً عليه، فما نراه، وما نسمعه وما نقرأه، هو عينه كلام الله تعالى.
[3] نهج البلاغة، ص 61، الخطبة 18.
[4] سورة البقرة، الآية 26.
[5] سورة الحج، الآية 73.
[6] سورة التوبة، الآية 124.
[7] {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الْیَهُودَ وَالَّذِینَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیسِینَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا یَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْیُنَهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ یَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِینَ} (سورة المائدة، الآيتان 82 – 83). سافرنا قبل عدّة سنوات إلى أمريكا الجنوبية. وفي مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية كان هناك جامعة تابعة للكنيسة، كما كانوا قد بنوا كنيسةً للجامعيين إلى جانب الجامعة. دُعينا في إحدى الليالي حتى نتحدّث مع القساوسة والأساقفة والراهبات. في تلك الجلسة جلس في الصف الأول أساقفة وقساوسة متقدّمون وطاعنون في السن مع لحًى في غاية البياض، و كان عدّةٌ من أعضاء الجلسة راهبات، وبعضهنّ غير معروفاتٍ في الواقع، حيث اكتشفنا في ذلك السفر عندما ذهبنا للقاء أسقفٍ كان إلى جواره كنيسة ودير؛ اكتشفنا أنّ ذلك الدير تعيش فيه راهبات ما يزلن من أوائل سنيّ شبابهنّ وحتى ذلك الوقت لم يخرجن من الدير ولم يتعرّفن على أيّ شيءٍ آخر غير الإنجيل، وهنّ إمّا في حال العبادة والدعاء وإمّا في حال قراءة الإنجيل وشرحه، دون أن يكون لهم أيّ تواصل مع المحيط الخارجي. وعلى أيّ حال، فقد تقرّر أن نتحدّث للأساقفة والقساوسة الحاضرين قليلًا حول الدعاء من وجهة نظر الإسلام، وبهذه المناسبة خطرت في بالي عباراتٌ من دعاء عرفة، فقرأتها هناك ورأيت الدموع تنهمر من عيون القساوسة وكبار السنّ الجالسين في الصف الأمامي. وكذلك في الأرجنتين كان هناك قسّيس يتتبّع برامجنا كل يوم حتى يشارك هو أيضًا في كلّ محاضرةٍ لنا.
** من كتاب زاد اللقاء الصادر عن دار المعارف الحكمية لآية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
المقالات المرتبطة
ولاية الله تعالى على أهل شهر رمضان المبارك
إنّ بركات هذا الشهر هي على درجة من الوفرة، بحيث إنّ كلّ من يعلم بحلوله سوف يعرف قدره بالضرورة، وكلّ من حُرم من هذه البركات، فإنّ حاله كحال من لم يعلم بحلول شهر رمضان من الأساس.
مسألة الشر عند الفيلسوف الشيخ مصباح اليزدي
يمثل الشر ظاهرة إنسانية ارتبطت بوجود الإنسان على الأرض منذ بدء الخليقة، وهو من أقدم المباحث التي طرحها الفلاسفة والمفكرين
الرحمات المعنويّة
إذا تمكّنا من الصيام في شهر رمضان المبارك، فلا ينبغي علينا أن نمنّ على الله، بل المنّة له تعالى على أن دعانا للصيام، حتّى يضمن لنا سلامة الجسم والروح، ويُحقّق في الوقت ذاته العديد من المنافع للمجتمع،…