تلخيص كتاب على أعتاب الحبيب

by سكينة أبوحمدان | أبريل 28, 2021 12:08 م

ليس بين الحبيب وحبيبه عتبة أو حاجز، فكيف إذا كان الحبيب هو الله، إنّما تنشأ هذه العتبة من تراكم الذنب والهفوة، فيصبح السالك بحاجة إلى اجتياز هذه العقبة بالسعي ليتسنّى له الدخول إلى ساحة الحقّ تعالى.

فالأعتاب ناشئة من العبد نفسه لا من الحبيب، والسعي للوصول إلى المعشوق يستحقّ منّا العمل “اذكروني أذكركم”.

هذا الكتاب الذي بين أيدينا يجمع شروحًا لمقاطع من ثلاثة أدعية مركزية عالية المضامين، والتي ورد الحثّ على المواظبة عليها – خصوصًا في شهر رمضان المبارك – والتأمّل في أبعاد مطالبها، وهي: دعاء الافتتاح، ودعاء أبي حمزة الثمالي، ودعاء مكارم الأخلاق.

افتُتح الكتاب ببحث تأسيسي حول الدعاء. استعرض فيه الشيخ مصباح اليزدي معاني الدعاء، وأنّه سلاح المؤمن ووسيلة للتقرّب إلى الباري تعالى.

والدعاء في حقيقته توجّه إلى حضرة المعبود. وهو ليس مجرّد تلفّظ بمجموعة من الكلمات مع مراعاة بعض الآداب، بل هو نوع من العروج والتجرّد من ذات الداعي إلى أصل الخلقة وعلّة الوجود، الغنيّ المطلق في قبال الفقير المحض، الذي لا يملك لنفسه دونه شيئًا. وهو مخّ جميع العبادات كما ورد في الحديث الشريف، وإظهار للعبوديّة أمام المالكيّة الإلهيّة المطلقة.

وفي الإشارة إلى تأثير الدعاء العجيب، يشير الشيخ اليزدي إلى أنّ الدعاء، وبحسب الرؤية القرآنيّة، سببٌ لتحقّق أمور دون الاستفادة من الأسباب الظاهريّة كنوع من أنواع الكرامة أو المعجزة، باعتبار أنّه سنّة إلهيّة حاكمة على السنن الأخرى. وبعبارة أخرى، لا يخرج الدعاء عن السنن الطبيعيّة والعادية، ولا يتخلّف عن قانون العلّة السببيّة، لأنّه بحدّ ذاته علّة تامّة وشرطٌ خاص لتحقّق أيّ أمر بإذن الله.

لكن الملاحظة التي يؤكّد عليها اليزدي هو أن لا يتوهّم أحدنا أنّ الدعاء يمكن أن يؤدّي إلى الضعف والكسل عند الناس، بل على عكس ذلك سيكون عاملًا للسعي ولبثّ المزيد من الأمل في النفوس، لأنّ الله أمرنا أن لا نترك الأسباب، ونستفيد من كلّ المقدرات التي بين أيدينا، ثمّ نتّكل عليه سبحانه لتوفير أسباب الرضا والرحمة والاستجابة.

فالإسلام لم يجعل الدعاء بديلًا عن العلل المتوفّرة بين أيدي الناس أبدًا، بل أراد أن يفهم هؤلاء أنّ الأسباب ليست مستقلّة بذاتها، وأنّ تأثير هذه الأسباب كلّه بيده سبحانه. والدعاء مطلوب في كلّ حال، سواء كان الإنسان قاصرًا عن الوصول إلى الأسباب العاديّة، أو كانت هذه الأسباب متوفّرة له. وبالتالي، فإنّ الاعتقاد بالدعاء لا يبعث على الكسل، بل يشكّل تلك القدرة المحرّكة التي تزيد من سعي الإنسان وجدّيّته.

ويعرض الشيخ بعضًا من آثار الدعاء. ومن أهمّ الفوائد التربويّة التي تترتّب عليه هو التوجّه الخالص لله سبحانه وتعالى وتحقيق العبوديّة الخالصة، وبالتالي معرفة الله والاعتراف بالذلّ مقابله، والتخلّق بأخلاقه.

ثمّ إذا كان الله تعالى قد طلب من عباده الدعاء وضمن الإجابة، فكيف نفسّر عدم استجابة بعض الأدعية؟ يقول الشيخ اليزدي إنّ للدعاء شروطًا خاصّة ليست فقط من قبيل الزمان والمكان ومراعاة الطهارة وغيره، بل أهمّ من ذلك التوجّه القلبي الحقيقي والصادق إلى حضرة الحقّ، أن يعلم السالك أنّ أمره وطلبه عنده تعالى لا غير؛ يسأله متيقّنًا بالإجابة، عارفًا أنّ كلّ ما يمكن أن يتخيّله من عطايا وأسباب منه وحده.

كما ويستحيل على ذات الباري أن لا تجيب، وهو الذي دعا عباده إليه، فكيف يمكن أن يخلف بما دعا إليه؟ وهنا تبرز أهميّة المصلحة الواقعيّة التي يشخّصها تعالى لعبده، وهو أعلم بما خلق. وليس في استجابة الدعاء تقييد أبدًا، إنّما هو لطف من الله، فإمّا أنّه يحجب عن عبده الأمر لعدم ملاءمة ذلك الأمر لمقتضيات حياته، أو يدّخرها له ليوم الجزاء، وهو تعالى يعلم أنّ المؤمن يحبّ الأمور الأخرويّة أكثر من أيّ شيء آخر لنيل المقامات العالية.

وما هو أهمّ من الإجابة، هو الدعاء بحدّ ذاته ومناجاة الله. إذ إنّ قيمة ولذّة المناجاة مع الله والأنس به هي بحيث لو أدركها الإنسان لما توجّه بعدها إلى القضايا الماديّة والدنيويّة. وإنّ مطلوبيّة الدعاء ليست من أجل تأمين الحاجات الماديّة – وإن كانت موجودة – بل هو بحدّ ذاته اتصال بالمطلق بما في ذلك من أنس وحبّ إلهيين لا يمكن للمرء وصفهما. فلا تحتاج مع الله أن ترفع صوتك، يكفي أن تهمس فيسمعك، أو أن تتوجّه إليه فيعلم حاجتك، ففيض رحمة الباري لا يمكن أن ينقطع عن معلوله قيد أنملة، ولو انقطع لصار في مصافي العدم.

ورغم أنّ الدعاء، الذي ينطلق من خلوص النيّة، جيّد ومفيد ومؤثّر في أيّ لغة أو في أيّ زمان ومكان، إلّا أنّ أفضل الأدعية ما ورد على لسان أولياء الله مثل الأدعية التي وردت في القرآن الكريم نقلًا عن الأنبياء وعباد الله الصالحين أو في الروايات عن النبي الأكرم (ص) والأئمّة الأطهار (ع). وقد اختير في هذا الكتاب بعض مقاطع قام الشيخ اليزدي بتفسيرها وشرحها.

يعرض القسم الثاني من الكتاب شرح مقاطع من دعاء الافتتاح. ويعدّ شهر رمضان من الزمن الاستثنائي الذي شدّد عليه الباري سبحانه، ودعا فيه عباده إلى مائدته المفتوحة التي فيها من النعم المعنويّة ما لا يعدّ ولا يحصى. وفي هذا الشهر الكريم، تُغَلّ فيه أيدي الشيطان وأعوانه. وهو فرصة حقيقيّة للتفكّر والعبادة، ومناسبة للخلوّ مع الله والقرب منه.

ودعاء الافتتاح هو من الأدعية الواردة في كتاب مفاتيح الجنان وكتاب الإقبال للسيد ابن طاووس، والمستحبّ قراءته في كلّ يوم من أيام شهر رمضان.

يبدأ الدعاء باللهّم كما هو مشار إليه في كلّ الأدعية على وجه العموم. يفتتح السالك في دعاء الافتتاح ثناء الله بحمده استجلابًا للرحمة الإلهيّة وقرعًا لبابه سبحانه ورغبةً فيما عنده، وهو على يقين من تسديد الله للصواب بمنّه سبحانه “وأنت مسدّد للصواب بمنّك”.

وإذا كان السالك يقف عند عتبة الحبيب يطلب الإذن بالدخول، فهو بلا شكّ يوقن بأنّ هذا الحبيب والمعشوق أرحم الراحمين، شديد العفو والصفح في موضعهما، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة، وأعظم المتجبّرين في موضع الكبرياء والعظمة. وفي تعداد هذه الحالات حكمة أن يبقى هذا السالك متردّدًا بين الخوف والرجاء من الله، فلا يغترّ بما يصل إليه من مقامات، ويبقى متيقّظًا لئلّا يخسر المرتبة التي وصل إليها، بل ويسعى لأن يتدرّج أكثر فأكثر.

وبعد التوجّه إلى الصفات الإلهيّة، يشير الشيخ اليزدي إلى نقطة مهمّة في دعاء الإمام (ع) “اللّهم أذنت لي في دعائك ومسألتك”، أنّه من أعظم نعم الله علينا أن سمح لنا بالوقوف عند بابه، ولولا رغبته تعالى في أن يتقرّب منه العبد لما سمح له أن يدعوه، أو أن ينبس ببنت شفة، ولا أن يوفّقه لعبادته.

ثمّ يطلب السالك من الباري أن يسمعه، ويجيبه، ويقيل عثرته الحاصلة في جميع أعضائه وجوارحه من العين والأذن والقلب. فما لم يقع الإنسان في المشاكل أو تُحيط به الصعاب لا يقدّر أهميّة النعم التي وهبه الله إياها، فيعدد العبد تلك النعم ويقول “فكم يا إلهي من كربة قد فرّجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بلاء قد فككتها”.

ومن لوازم بقاء النعم والاستمتاع فيها أن يفكّر الإنسان بها ليأخذ العبر. فمن عناية الله تعالى أن ينجيه تعالى ممّا هو عليه من البلاءات، لذا على السالك أن يتفكّر فيما عُرض له، كيف نجا، وما الذي جرى ليدرك النعم الإلهيّة التي أعطاه إياها الباري. ومن هذه النعم التي يعدّها الشيخ اليزدي خوف السالك من العقوبة، وهو ما يشكّل رادعًا لعدم الذنب. والتكاليف كذلك تعدّ نعمًا إلهيّة لأنّها نابعة من اللطف الإلهي، والتي من خلالها نستطيع أن نحقّق نتائج ومنافع جمّة.

ثمّ يعرض هذا السالك المشتاق أحواله البائسة إلى الله، يتحسّر على لحظات الغفلة والبعد عنه، يلوم نفسه حين لم يقبل حين دعاه إليه وتودّد، فقبّح في نفسه الغرور والتكبّر مقابل مائدة رحمة الله الواسعة. إلّا أنّ كل ذلك الجفاء لم يمنع الباري من الجود والإحسان والعطف على عبده المذنب، فلم يغلق عليه بابًا، ولا أسدل حجابًا، ولا ردّ سؤلًا.

وفي هذه العبارات، يُظهر هذا العاشق الجاهل حبّه ورغبته في معشوقه، يطلب النظر إليه والتوفيق لحضور القلب والتوجّه للعبادة. لقد عرف معنى نار البعد الذي كانت تحيطه، عاد إلى أصله، إلى علّته ومصدره، وأعلن تعلّقه الشديد به فشكره وحمده، واتّكل على هذا الحبّ الرباني الذي يحيطه ليعود إليه وإلى ساحته ينهل من معينه ويدعوه، ويطلب منه.

كما يشرح الشيخ اليزدي فقرة في آخر دعاء الافتتاح تمّ التأكيد عليها، وهو ما يرتبط بإظهار الاهتمام الشديد بدولة الإسلام المرجوّة في ظلّ حضرة وليّ الأمر (عج). وفي هذا المقطع من الدعاء، يظهر الهدف من إقامة الحكومة الإسلاميّة والمسؤولية تجاهها، ويقول: “اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة”.

والاعتقاد بظهور الإمام المهدي (عج) من العقائد المشتركة بين جميع الفرق الإسلاميّة من الشيعة والسنة، وحتّى غير المسلمين. هذا الاعتقاد نابع من مبدأ العدالة والمساواة، والرغبة في القضاء على الكفر والشرك. فيختلف دافع الانتظار عند المنتظرين، فمنهم من يعتقد أنّ الإمام (عج) حين يظهر تتأمّن معيشته بشكل مجاني، أو من يعتقد أنّ الوظائف والمسؤوليّات تسقط عن كاهلهم، وكأنّ هذا الإمام سيحارب الكفر والنفاق لوحده.

مثل هذا الانتظار لا قيمة له، ولا يعدّ ميزة. لكن الانتظار المطلوب هو انتظار دولة العدل الإلهي التي يشير إليها الإمام في الدعاء “تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله”. وفي هذه الدولة، لا تسقط المسؤوليّات والتكاليف، لأنّ الناس حين يظهر (عج) لن تُقبل على الإيمان وعلى الأعمال الصالحة دون دعوة وتبليغ، لذا سوف تزداد المسؤوليّات في زمنه (عج). بناءً عليه، يجب أن نعدّ أنفسنا في جميع الأبعاد، لنستحقّ أن نكون مبلّغين في دولته (عج).

وقد أشار الإمام (ع) في الدعاء إلى عظيم الأسى لفقد نبي الرحمة (ص) وغيبة الولي القائد الإلهي (عج) لأنّ احتياجات الإنسان لا تنحصر بالأمور الماديّة فبركة وجود النبي محمّد (ص) وإمام الزمان (عج) هي من الحاجات الضروريّة، حاجة وجود وسكن وأمان. وإنّ الحرمان من هذه النعمة تستدعي جملة من المسؤوليّات فنكون مستعدّين وجاهزين لتقديم أموالنا وأرواحنا وكلّ متعلّقاتنا في خدمة إمام زماننا (عج)، وأن نجعل وجودنا تحت إرادته “وقتلًا في سبيلك فوفّق لنا” حتّى نستحقّ وجوده بيننا، ونوفّق لمحبّته ولتحقيق الانتظار الحقيقي لحكومته.

أمّا القسم الثالث من الكتاب فهو شرح لمقاطع من دعاء أبي حمزة الثمالي. نُقل هذا الدعاء عن الإمام علي بن الحسين (ع)، وقد نقله أبو حمزة الثمالي الذي كان من أصحاب الإمام السجّاد (ع)، وعاصر الإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع) أيضًا. وتدلّ مضامين هذا الدعاء، والذي يُقرأ في أسحار شهر رمضان، على الشخصيّة الاستثنائيّة لهذا الرجل. إذ كلّما كانت حالة الإنسان المعنويّة والقابليّات التي يحملها أكثر تناسبًا أمكنه أن يدرك ويفهم ويستفيد من هذه الأدعية الواردة على لسان أئمة أهل البيت (ع).

يقول الإمام زين العابدين (ع): “الحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب دعائي”. في كلّ الأدعية المأثورة والمنقولة إلينا، يشدّد أصحابها على الرابطة التكوينيّة بين الخالق والمخلوق. تذكرنا هذه الأدعية دائمًا بأصل وجودنا ومنبعه حتّى لا يشتّ الإنسان وينسى وبالتالي يبتعد، ويفقد ذلك التوجّه الصحيح والعميق بين العبد وربّه.

فالله سبحانه قد بسط مائدة عنايته ولطفه بخلقه، ودعاهم إليه، وعلى السالك المريد أن يحقّق ذلك الاستعداد ويعمّق الرابطة ليأنس بمناجاة بارئه، فتتنزّل عليه الفيوضات الإلهيّة، ويحقّق الهدف من الدعاء. ومهما أخطأ وأذنب العبد فإنّ ملجأه الوحيد والآمن لكلّ ما يعاني منه هو هذه الساحة الرحمانية لله تعالى، فيتقلّب بها بين القبض والبسط، بين صفات الجمال وصفات الجلال، وبين الخوف والخشية.

ومع الله الرحيم، يحقّ للسالك أن يظهر بعض الدلال والغنج مع الله “إلهي إن أدخلتني النار ففي ذلك سرور عدوّك، وإن أدخلتني الجنة ففي ذلك سرور نبيّك، وأنا والله أعلم أنّ سرور نبيّك أحبّ إليك من سرور عدوّك”. وكأنّ ذلك السالك يستجدي عطف الباري ورحمته وهو يعترف بذنوبه ولا يهرب منها، إلّا أنّه يعلم أنّه حين يُقبل على الله لا يحرمه تلك الرحمة.

ثمّ يعرض الشيخ اليزدي في شرحه إلى الحالات الدنيويّة التي تُعرض على الإنسان فيكون غافلًا عن العبادة. ويشكو ذلك العابد ذلك إلى الله “اللّهم إنّي كلّما قلت قد تهيّأت وتعبّأتُ وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ألقيتَ عليّ نعاسًا إذا أنا صلّيت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت”.

فإذا أراد الإنسان أن يوفّق للصلاة أو الدعاء مع خشوع وحضور قلب أو تلاوة القرآن عليه أن يهيّئ المقدّمات المعنويّة مسبقًا، لأنّ الأعمال الاختياريّة التي يؤدّيها في هذا العالم لها تبعات تُختصر بنتيجتين: النتيجة الأولى تظهر في هذا العالم، والنتيجة الأخرى ستظهر في عالم الآخرة. وعلى الإنسان، وخاصّة في شهر رمضان، أن يسعى لنيل توفيق الضيافة الإلهيّة، فيكون ضيفًا مؤدّبًا في مجلس الأنس الإلهي، يختار كلّ يوم ساعة يبتعد فيها عن الانشغالات والأعمال الدنيويّة ويفكّر بأحواله وأموره الأخرويّة، ويشارك مجالس العلماء والعباد الصالحين، لأنّ عِشرة الأطهار والأخيار تذكّر الإنسان بالله، مثلما أنّ معاشرة أهل الباطل وأهل الدنيا تجعل الإنسان غافلًا عن ربّه.

ومن الإشارات اللطيفة في دعاء أبي حمزة التأكيد على قضيّة عدم اليأس من رحمة الله مهما كان ذنب العبد. فالسالك يتقلّب بين حالتي الخوف والرجاء. وأرقى ظهور كامل لخوف الإمام السجّاد (ع) ورجائه هو حين قال: “إلهي لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ودللت على فضائحي عيون العباد، وأمرت بي إلى النار، وحُلت بيني وبين الأبرار ما قطعت رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبّك من قلبي. أنا لا أنسى أياديك عندي وسترك عليّ في دار الدنيا…”.

يقول الشيخ اليزدي في تفسير هذا المقطع أنّ هذا الكلام لا يمكن أن يتحقّق بصدق في قلبٍ إلّا الإمام المعصوم (ع) فمن الذي يمكنه أن يدّعي أنّ حبّ الله لن يخرج من قلبه حتّى لو عذّبه الله هذه الأنواع من العذابات، ونحن الذين نشكو الله عند حلول بلاء بسيط، بل وأحيانًا قد نعترض عليه سبحانه؟ إنّ هذه العبارات يذكرها السالك عن لسان المعصوم، ويسعى بقدر استطاعته وقابليّته أن يحصّل المحبّة الإلهيّة المرجوّة عبر جملة من الأمور أهمّها:

“أفبلساني هذا الكالّ أشكرك أم بغاية جهدي في عملي أرضيك؟ وما قدر لساني يا ربّ في جنب شكرك! وما قدر عملي في جنب نعمك وإحسانك!”.

ثمّ يُلفت الشيخ اليزدي إلى مقطع آخر، وهو موضوع الذكر؛ “يا مولاي بذكرك عاش قلبي وبمناجاتك برّدتُ ألم الخوف عنّي”. إذ إنّ الغاية والهدف الكلّي من وراء جميع التكاليف العباديّة هو إيجاد رابطة متينة بين الإنسان وربّه. وإنّ شرط كمال الأعمال هو توجّه الإنسان أثناء القيام بها إلى الله تعالى.

كما أنّ حقيقة الذكر هو الحضور الدائم والتوجّه القلبي، وجريان هذا الذكر على اللسان نتيجة الحضور القلبي الدائم والمستمرّ. وما يميّز ذكر الله أنّه لا يحتاج إلى جهد جسدي أو لفظي، لأنّ الله حاضر دائمًا. وهذا الذكر يدفع عن الإنسان حالات الاضطراب والقلق؛ فيشهره بالطمأنينة والأمان، وهذا هو المطلوب من الدعاء. وأعظم من ذلك، أنّ حالة الذكر عند أولياء الله مطلوبة لذاتها لأنّها تحقّق لذة الأنس مع الحبيب. هذه الحالة من العشق والهيمان وحدها تكفي؛ أن يحدّث الحبيب حبيبه دون واسطة، ودون أن يتنظر منه شيئًا، إلّا أنّ الباري تعالى قد أعطاهم منازل وكرامات وحالات معنويّة لا يمكن وصفها، فأحيا لهم قلوبهم حياة طيّبة تتسع فيها مداركهم واستعداداتهم لقبول الفيوضات الإلهيّة، فلم يعودوا مهتمّين بهذه الحياة الدنيا لأنّ الحياة الحقيقيّة بالنسبة إليهم هي الحياة الأخرويّة.

وحذّر الشيخ اليزدي من أنّ التعلّق بالدنيا هو أكبر مانع من ذكر الله، وهو عامل أساسي في الغفلة عن التفكّر في الكمالات الإنسانيّة الرفيعة. وهي – أي الدنيا – خادعة ماكرة، تسعى بجهدها أن تحرف أصحاب السير والسلوك عن الله بإيهامهم أنّ حاجاتهم تنحصر في الأمور الماديّة، إذ تشعرهم بلذّتها ليقبلوا عليها. ولكن هيهات هيهات أن تخدع من تعلّقت قلوبهم بالغنيّ المطلق والكمال الصرف.

ويذكّر الإمام زين العابدين (ع) أبي حمزة بالموت، الذي يهدم جميع اللذات، ويوقظ الساهي من غفلته، فيصف حالة الغربة والوحدة التي يشعر بها “وارحمني صريعًا على الفراش تقلّبني أيدي أحبّتي، وتفضّل عليّ ممدودًا على المغتسل يقلّبني صالح جيرتي، وتحنّن عليّ محمولًا قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجُد عليّ منقولًا قد نزلت بك وحيدًا في حفرتي، وارحم في ذلك غربتي حتّى لا أستأنس بغيرك”. هذه اللحظات التي لا ينفع معها سوى العلاقة الصادقة مع الله، الارتباط به، التمسّك بحبله، الأنس به سبحانه لأنّه سيرد إلى بيته الجديد الموحش دونه تعالى وحيدًا.

ويختم الإمام (ع) دعاء أبي حمزة بخلاصة تختصر أعلى مطالب هذا الدعاء، وهو الإشارة إلى أهميّة الإيمان في مسيرة الإنسان، وأنّه الملجأ الوحيد للإنسان الذي يبعث على الطمأنينة من كلّ ما جرى عليه وسيجري، فيرى الأمور من منظارها الإلهي فلا يحزن على ما فاته ولا يفرح بما يأتيه. وهذا الإيمان حين يستقرّ في القلب سيكون له ثمرات أهمّها اليقين أنّ كلّ شيء بيده سبحانه لا يتخلّف عن إرادته ولطفه.

والرضا بقضائه تعالى هو الأثر الثاني للإيمان “ورضّني من العيش بما قسمت لي” في كلّ أمور الإنسان سواء كانت أمورًا مفرحة أو مزعجة. فكلّها امتحانات من الله لاختبار درجة الإيمان التي يصل إليها السالك في رحلته نحو الله.

أمّا القسم الرابع من الكتاب فهو شرح لمقاطع من دعاء مكارم الأخلاق. ويشير عنوان هذا الدعاء إلى أنّه لا يجب أن نحصر مطالبنا من الله بالأمور المادّيّة والدنيويّة، بل إنّ من الحاجات الأساسيّة تحصيل مكارم الأخلاق والسجايا الإنسانيّة.

يبدأ الدعاء، كما هو معهود، بالصلاة على محمّد وآله، أفضل الأدعية وأحبّها إلى الله، وسببٌ لقبول ما بين الصلاتين. ثمّ يطلب الإمام زين العابدين (ع) من الله أكمل الإيمان، وأفضل اليقين، وأحسن النيّات والأعمال. وهذه المطالب هي مطالب معنويّة لازمة العمل الصالح لإزالة الموانع والحواجب لقبول الفيوضات الإلهيّة.

وهذه الأمور لا يمكن أن تتحقّق دون معونة من الله تعالى، لذا يطلب بـ”اللّهم” لاستجلاب الرحمة والتودّد والأدب مع الله أنّي يا إلهي دون لطفك لا يمكنني أن أحقق النيّة الرفيعة فـ “وفّر بلطفك نيّتي، وصحّح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد منّي”.

إلهي اجعلني تحت حمايتك ورأفتك ورحمتك كي أصل إلى حيث تريدني أن أكون. وأعرف أنّ ذلك يستلزم منّي السعي والعمل ولكنّي بحاجة إليك لتسدّد خطاي وتبعد عني بعض الموانع والعقبات “واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني به غدًا عنه”.

فالإنسان مسؤول أمام الله في السعي لتأمين حاجاته الضروريّة المادّيّة من مأكل وملبس ومشرب وغير ذلك، والمعنويّة لازمة العبادة والذكر. وما يطلبه السالك ليس أن يُنزل الباري عليه مائدة من السماء دون سعي، بل أن يهيّئ له أسباب رزقه بالحلال. فالعبادة مفهوم عامّ لا تنحصر فقط بالصلاة والصيام، بل كلّ عمل يبغي به السالك وجه الله هو أمر عبادي، حتّى نوم الصائم في شهر رمضان عبادة إذا أراد به الصائم أن يستريح لينهض في السحر لعبادة الله ومناجاته.

كما أن الحصول على توفيق العبادة لا يكفي وحده، بل من الممكن أن يتسلّل الشيطان فيُبتلى السالك بالعُجُب. كما يطلب الإمام (ع) بلسان السالك أن يجري الله على يديه الخير في إعانة المحتاج ومداواة المرضى، ولكن أن يُبطل هذا العمل بالمنّ والرياء والسمعة.

ولكي يبقى الإنسان في دائرة اللطف الإلهي، يطلب من الله أن يحافظ على تواضعه مع الناس وذلّ العبوديّة مع الله “ولا ترفعني في الناس درجة إلّا حططتني عند نفسي مثلها”، لكي لا يرى نفسه أنّه أصبح عزيزًا عند الناس فيناله شيئًا من الغرور وتطغى عليه المفاسد الأخلاقيّة؛ “ولا تحدث لي عزًّا ظاهرًا إلّا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها”.

ثمّ يطلب (ع) دوام هذه النعم وعدم زوالها “ومتّعني بهدىً صالح لا أستبدل به، وطريقة حقٍّ لا أزيغ عنه، ونيّة رُشد لا أشكّ فيها” لأنّ الإنسان معرّض في أيّ لحظة للانزلاق والانحراف، وإنّ الانتقال من هذا العالم على الإيمان الراسخ ليس سهلًا، لأنّ العقائد والسلوك والأعمال معرّضة دائمًا للتحوّل ما لم يجاهد الإنسان نفسه لبقائها، ويتعلّق قلبه بالله تعالى على الدوام، ويرى كلّ الأشياء من خلاله سبحانه؛ “اللّهم لا تدع خصلة تُعاب منّي إلّا أصلحتها، ولا عائبة أُؤَنّب بها إلّا حسّنتها، ولا أكرومة فيّ ناقصةً إلّا أتممتها”.

ويشير الشيخ اليزدي إلى أنّ العلاقات الزوجيّة والأبويّة والصداقة والجيرة وغيرها من العلاقات الاجتماعيّة بشكلّ عام معرّضة لحالات من الرضا والانزعاج في بعض الأحيان. هذه النزاعات قد تؤدي في بعض الأحيان إلى انشغالات قلبيّة من كدورات واضطرابات سببها الحسد والغيرة والعداوة والبغضاء وغيرها، وبالتالي تؤثّر تأثيرًا سلبيًّا على حضور القلب في العبادة. لذا نرى الإمام (ع) يدعو الله أن يبدّل هذه الشرور والآفات إلى الحسنات والخيرات، فلا يقف الإنسان عندها طويلًا تبعده عن هدفه السامي لنيل رضا الله، بل والاستفادة من هذه الحالات لرفع منسوب العلاقة مع الله عبر كظم الغيظ والعفو والبذل.

كما ويشير إلى بعض الأزمنة كشهر رمضان وخصوصًا ليلة القدر والأمكنة كمسجد الأقصى وبيت الله الحرام الاستثنائيّة التي ينبغي أن يلتفت إليها المرء ويستفيد منها للتقرّب من الله بالمناجاة والدعاء.

ففي الدعاء، يرتقي الداعي إليه تعالى، يدخل الحرم الآمن الذي لا كدر فيه ولا نصب، يُسقط عن نفسه آلام التعب وأوجاع الحياة، وحين يلفظ همسًا “أي ربِّ” يسمع الصوت الآمن أن “عبدي لبّيك”. حينها فقط، ينتفي حيّز الأعتاب، فيخلع الداعي نعليه حبًّا، ويخطو؛ ليحظى بأنس اللقاء.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/12809/booksummary1/