مفهوم الحقيقة وخصائصها [1]

by الشيخ سمير خير الدين | أبريل 28, 2021 12:18 م

سأحاول أن أستعرض بعض المفاهيم المفتاحية وفق المدرسة الفكريّة المعاصرة (الإمام الخميني، العلامة الطباطبائي، الإمام الخامنئي، الشيخ مطهري، الشيخ اليزدي، والشهيد الصدر… ).  ومن هذه المفاهيم مفهوم “الحقيقة”، فالقول بامتلاك الحقيقة، والدعوة إليها، والموت في دربها، يقتضي تعريفها وتحليلها، وهي وفق الشهيد الشيخ مطهري عبارة عن “صفة للإدراكات من حيث مطابقتها للواقع…، ووسيلة تشخيصها من الخطأ هو “علم المنطق”، ويستحيل تعدّد الحقائق لاستحالة تعدّد الواقع”.

بناء لتعريف الحقيقة بأنها “صفة للإدراكات من حيث مطابقتها للواقع، ستترتّب مجموعة من النتائج التي ستظهر في جميع المجالات المعرفيّة ومن ذلك:

  1. ثبات الحقيقة، فلا تكون نسبيّة، ولا تقبل التحوّل.
  2. وحدة الحقيقة، فلا تكون كثيرة؛ لأنها تابعة لوحدة الواقع.
  3. دوام الحقيقة مهما تقلّب الزمان والمكان، فلا تكون مؤقّتة.
  4. استحالة صدق مقابل الحقيقة كنقيضها وضدها…؛ لأن النقيضين لا يصدقان معًا ولا يكذبان معًا. وهذه الأمور ستنعكس في جميع المجالات المعرفية ومنها المجال التربويّ، وأقتصر هنا على ذكر مثالين على ذلك:

المثال الأول: هناك نتيجة معرفيّة تقول: “طلب العلم ينبع من طلب الحقيقة”، بناء لذلك ستتّجه التربية لتعزيز الروح العلميّة “من أجل الحقيقة”، دون الاقتصار على مجرّد تحصيل الشهادة “من أجل الكسب والعيش”، أي ستختلف الغاية الكبرى؛ فيكون طلب العلم عندها طريقًا لا ينتهي لسموّ الإنسان وتكامله، وهو لا ينتهي؛ لأنه طلب للمطلق (وهو الله تعالى)، وطلب المطلق مطلق لا يُحدّ، وكل سير فيه هو وصول، وتكون الشهادة محطّة في الطريق، لا نهاية الطريق.

المثال الثاني: بطلان كون الحقيقة “الفكرة ذات الأثر العمليّ النافع”  كما يذهب إليه وليم جيمس، وقد قام كل المشروع البراجماتي الذي لوّن وجه القرن العشرين – ولا يزال- بلونه على هذا المبدأ، الذي ترك أثره في جميع المجالات الإنسانية، وكان أخطرها المجال التربويّ الذي سيؤول إلى أصالة المصالح لا المبادىء في نفوس الأجيال الآتية، كما عملوا عليه في الأجيال السابقة. وللكلام تفصيل واسع.

  1. إنّ الطريق إلى الحقيقة هو البرهان، وليس المطلوب مطلق الاعتقاد، بل الاعتقاد الكاشف عن الواقع، وهذا يتحقّق من خلال الاستدلال، وليس أيّ استدلال، بل الاستدلال المستند إلى البرهان، والذي بدوره يرتكز على اليقين؛ وبالتالي فإن المشتبِه أو المتوهّم لديه اعتقاد، لكنّ اعتقاده غير مطابق للواقع، ويندرج تحت هذا النوع كلّ أنواع الشبهات العقائديّة والمعرفيّة في العلوم الأخرى؛ كمن يعتقد بتجسّم الإله، أو باتّحاده، أو بإمكان رؤيته البصريّة، أو بأنّ علاقتنا بالله تعالى كعلاقة البناء بالبنّاء يبنيه ويتركه، أو بأنّ هناك ترجيحًا لشيء على شيء في النظام التكويني… أو غير ذلك.

فإنّ في كل هذه الأمور اعتقادًا، لكنه غير مطابق للواقع، وعليه، فإنّ الواقع شيء والاعتقاد شيء آخر،  فإن طابق الاعتقاد الواقع كان ذلك يقينًا وحقيقة، وإن لم يطابق كان ذلك شبهة وخطأ. من هنا ينصبّ كلّ جهد العلماء على إثبات أنّ ما في الذهن مطابق لما في الواقع، لذلك يركّزون جدًّا على الاستدلال البرهانيّ، ويعتبرونه قاعدة ارتكاز لبناء رؤية كونيّة كليّة ويقينيّة، كما عمل على ذلك الشيخ مطهري في كتابه “الرؤية الكونية التوحيدية”، وغيره من العلماء.

ويتوسّعون أكثر ليعتبروا أن التجربة مفيدة ولكن نتائجها جزئيّة، يمكن تغيّرها، ولذا لم يصح الاستناد إليها في تشكيل رؤية كونية وفق الشهيد مطهري؛ لأن من صفات الرؤية الكونيّة أن تتصف بالثبات، ولمّا كانت النتائج التجريبيّة ممكنة التحوّل،  فهذا يعني أنها متزلزلة، ولا يمكن أن يرتكز الثابت كرؤية كونية على المتزلزل.

من جهة أخرى يمكن للعلم التجريبيّ أن يقدّم نتائج عملية مفيدة، ولكن هذا لا يعني صدقها ومطابقتها للواقع، حيث يصحّ منطقيًّا استخراج نتيجة عمليّة من فرضيّة خاطئة، ومن باب المثال: فإن الدنيا منشغلة هذه الأيام بنظام تركيب الطعام من “أجل صحة البدن وكماله”، بل حتى الاتجاه العالميّ في التربية البدنيّة يتمحور حول ذلك، وقد أدّى إلى نتائج باهرة في عالم بناء الأجسام، وأعطى فوائد عمليّة كبيرة، غير أن هذا شيء وصحّة هذا المبدأ شيء آخر،  ويبدأ الخطأ عندما تمّ التفكيك بين “صحّة البدن وصحّة الروح”، فالصحة لا تتبعّض بينهما، حيث أخذ العالَم يربّي الأبدان وأهمل الأرواح، فانعطف إلى المادّة، وأمات الروح، وانعكس ذلك على الكميّات الهائلة من الطعام وأنواعه وعدد وجباته، بينما ركّز الإسلام على الواقع، وهو أن حقيقة الإنسان هي روحه الباقية في العوالم، وليس البدن المتحوّل، (فلينظر الإنسان إلى طعامه) فما سيطعمه سيراه إمّا تثاقلًا إلى الأرض، وإمّا تجرّدًا نحو الغيب.

وبالتالي، فإن نظام الطعام ملحوظ فيه الروح والبدن كحقيقتين متّحدتين، يؤثّر بعضهما بالآخر تأثيرًا بليغًا، فتألّم الروح يظهر ذبولاً في البدن، وألم البدن ألم للروح، فقد ورد: (… واطلب راحة البدن بإجمام القلب…)؛ والإجمام يعني الراحة، فلازَم الإمام الباقر (ع) بين الراحتين، وعليه فتقوية البدن تكون طريقًا لتقوية الروح، ولا تكون هدفًا رأسيًّا كما هو سائد؛ لذا فإن هذا سينعكس في التوجيه نحو نوع الطعام وكميّته ووقته، فبعضه يقسّي القلب وبعضه يليّنه، وبتعبير آخر، الحقيقة هنا بأن تنظر إلى الإنسان بنظرة الإسلام وتوجّه وتربّي وفق ذاك، والشبهة أن تفكّك بين البدن والنفس، وتربّي وفقًا لذلك، فستبقى شبهة حتى لو أعطت آثارًا عمليّة لتربية البدن.

للمقال صلة


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/12816/truth-2/