by معهد المعارف الحكميّة | أبريل 28, 2021 12:32 م
تبدو الحاجة ماسة إلى إثارة بعض الموضوعات الحوارية في خضم ما يجري من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة يعاني منها وطننا لبنان بعد مئة عام كاملة على مشروع تشكيله، الأمر الذي طرح بشكل ملح خلال العام المنصرم وبعد انفجار الأزمة الاجتماعية الاقتصادية مجموعة من الأفكار والممارسات الخلافية في أوساط الشباب والناشطين الحزبيين والمستقلين مما يعبّر عن اختلاف واسع في فهم الواقع اللبناني وطبيعة تشكيل النظام القائم في لبنان، وأبرز الحاجة لاكتشاف مشروع حقيقي للتغيير في هذا البلد يمكن أن يلبي حقيقة طموحات أهله في حياة كريمة لهم ولأبنائهم، وإذ يشعر المتابع أن النقاش القائم بين الأشخاص والأفرقاء يغلب عليه طابع عدم الوضوح و”الحكي بالومي” حينًا، وحوار الطرشان حينًا آخر، لذلك أرجو أن يتم نقاش هذه القضايا بشكل مفتوح وواضح، أو أيضًا طرح موضوعات أخرى للنقاش لم يتم التطرّق لها هنا بشكل مواز للوصول إلى الغايات المنشودة.
إن هذا الكيان اللبناني قد تشكّل من ضمن مشروع استعماري لتقسيم المنطقة، ولتسهيل إدارتها بعد ضرب وتفتيت الدولة العثمانية (وقد تم ضرب دولة الخلافة بالتتريك حينًا، وبالحرب وسلخ الأقاليم أحيانًا،) وهذا الأمر ليس خاضعًا للاعتبارات الثقافية أو العقائدية أو المزاجية، وكل من يراجع كيف تمت النقاشات بين الدول العظمى في ذلك الوقت وحواراتها، وأحيانًا تآمرها مع الأطراف الداخلية وتصغير وتكبير الخرائط بما تحويه من كيانات اجتماعية من طوائف ومذاهب وتكتلات قرابية يدرك حقيقة ما جرى،كذلك يجب أن نسلم بأن تقسيم الكيانات السياسية في المنطقة خضع لحساب مصالح البلدان المنتصرة، وليس لحساب مصالح القوى المحلية المتحالفة معها إلا بشكل جزئي وشكلي في أحسن الحالات؛ أي أن هذه الكيانات التي تم تشكيلها خضعت لنظام الوظيفة سلبًا وإيجابًا؛ أي ما هو الدور المنوط بكل كيان، وبالتالي تأمين مستلزمات هذا الدور، وما هو الدور الممنوع القيام به، وبالتالي سلخه عن المقومات التي تسمح له القيام بذلك، والقول بأن الكيان اللبناني تشكل من ضمن هذا المشروع ولتنفيذ أهدافه ليس كلامًا أيديولوجيًّا، وقد شاهدنا بأم أعيننا كيف تسعى الدول العظمى إلى تشكيل العالم والأنظمة والكيانات السياسية والتكتلات الأمنية والعسكرية والاقتصادية حسب ما تمليه أهدافها واستراتيجياتها في السيطرة على العالم والاستحواذ على مقدراته. وبالتالي فإن الجهود الكبيرة التي بذلت لإعطاء وجود الكيان معنًى أبديًّا وسرمديًّا هي جهود ذات طابع سياسي نمت في مرحلة من مراحل التضاد بين المفهوم اللبناني المنعزل للكيان بجغرافيته وتاريخه واقتصاده وثقافته وصولًا إلى لغته، والمفهوم الآخر العربي الذي يجمع لبنان بمحيطه الثقافي والحضاري والاقتصادي، وتواصل كتله الاجتماعية بكافة طوائفها بأصولها الممتدة في الداخل العربي والإسلامي؛ هذا الامتداد كان بحكم العلاقات القرابية من جهة، وبحكم الطموحات المشتركة والمشاعر والهموم والتحديات المشتركة كذلك، وقد أثبتت التجربة التاريخية هزالة المفهوم الانعزالي للبنان أمام الأحداث التي شهدتها المنطقة منذ الاستقلال حتى هذه اللحظة، بل أثبتت بشكل قطعي أن أواصر العلاقة وعلى كافة المستويات أقوى وأمتن من مباضع التقسيم وسياسات الانعزال.
إنّ المئة سنة المنصرمة على فكرة الكيان، والسبعة وسبعون التي مرّت منها على الاستقلال لم تكن فترة رتيبة من التاريخ الإنساني السياسي والعسكري والفكري والتطور العلمي والتقني، وما انعكس منها على منطقتنا كان أيضًا كبيرًا جدًّا، فلقد شهدت صعود وهبوط وتنازع دول كبرى وعظمى وانهيارها وتقسيمها، وحروبًا كبرى وصغرى حامية وباردة، وكلما تغيرت طبيعة الدول العظمى بما تحمله من مكونات حضارية وثقافية، وتغيرت طبيعة مصالحها ومشاريعها السياسية والاقتصادية،كلما عملت على إعادة تشكيل العالم على هيئتها وصورتها وبما يتناسب مع مصالحها، وقد رأينا في الماضي القريب قيام دولة مثل دولة داعش المسماة دولة الخلافة الإسلامية في العراق وسوريا، وقدرتها بما أوتيت من دعم إقليمي ودولي على الإحاطة بثلثي سوريا والعراق، وسعيها إلى الإحاطة بما تبقى منهما إضافة إلى لبنان والأردن، وإذا كنا ننظر اليوم إلى هذه الدولة المزعومة باعتبارها مشروعًا كاريكاتوريًّا تمت إزالة خطره بدرجة ما، فإنه من الضروري لذوي العقول والأبصار أن يعلموا أن إزالة هذا الخطر قد كلّفت المنطقة مئات الألوف من الشهداء والضحايا وبحر من العمران البشري الحضري والريفي المهدّم مع البنى التحتية التي عملت على تأسيسها الأنظمة الوطنية، وأنفقت عليها جل ميزانياتها ومدّخرات شعوبها، إضافة، وهو الأهم، إلى الكثير من النتائج السلبية على نفوس وعقول البشر التي مزقتها نيران الحروب وجيوش الحرب الناعمة، وصنّاع الفتن الطائفية والدينية، ولولا وجود تيار جاد وقوى حية في المنطقة دفعت بكل إمكانياتها لتحبط قيام هذه الدولة، لتحولت إلى أمر واقع جديد محمي بأفكار وأيديولوجيات وتحالفات إقليمية، وقادر على القيام بالدور الوظيفي المحدّد له في مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي خطّطت له، وأعلنت عنه، وشرعت بتنفيذه الإدارة الأميركية في حينه. ثم إننا لا يزال الكثير منا يذكر الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت بشكل رسمي في شهر نيسان 1975 واستمرت حتى اتفاق الطائف، والتي كلّفت بلدنا عشرات الألوف من الضحايا، وكثير من الخسائر المترتبة عن الدمار وتخلّف البنى التحتية وهجرة القوى الحية، ولا زالت ارتداداتها متواصلة حتى الآن، ويجب أن نلاحظ أنه في خضم هذه الحرب اتهمت كل الأطراف بعضها بعضًا بالشروع بالتقسيم وإقامة الدويلات، والتي كان من الممكن تمريرها من بعض القوى الإقليمية والرضى عنها دوليًّا طالما أنها بالمحصلة كانت تخدم المشروع الإسرائيلي عبر إزالة أو تحجيم خطر العمليات الفدائية على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وتحجيم دور التيار الوطني النامي في لبنان والمتحالف مع المقاومة الفلسطينية وسوريا والاتحاد السوفياتي، ولو لم يتوفر تيار شعبي وقوى سياسية وأنظمة وطنية في المنطقة استشعرت خطر هذه المشاريع وحاربتها لكان ذلك قد تحول إلى أمر واقع وأخذ شرعيته مع مرور الزمن واستمرار الدور الوظيفي الذي يلعبه، ثم لا زلنا نذكر العدوان الذي قام به العدو الصهيوني على الأراضي اللبنانية والذي بلغ ذروته في عام 1982، وبالتالي شروعه بمواصلة احتلال الأراضي وإقامة المناطق السكانية والأمنية الفاصلة بانتظار لحظة دولية شبيهة بلحظة ترامب التي شرعت له احتلاله وسيطرته من قبل القوة العالمية العظمى التي تحاول التمسك بدورها كقطب واحد يقود العالم ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية. ولولا ما قُدّم من جهود وتضحيات لكان الوضع في الجنوب اللبناني شبيهًا إلى حدّ كبير بالقدس وبالجولان. نخلص من هذه النقطة إلى ثلاث استنتاجات:
ج. أن إفشال هذه المشاريع لم يتم في السابق ولن يتم مستقبلًا إلا بجهود جبارة قامت وتقوم بها قوى شعبية ورسمية قدّمت خلالها تضحيات كبيرة ومباركة من الواجب التطلع إلى أهمية الحفاظ عليها ودعمها وتطويرها لمواجهة المقبل من التحديات.
إن لبنان كغيره من بلدان المشرق العربي يتكون من قبائل وشعوب وديانات ومذاهب وطوائف شتى ساهمت ظروف تاريخية معقدة كما ظروف ترسيم حدود الكيان وطبيعة التكتلات البشرية التي ضمتها هذه الحدود بجعله، إذا نظرنا إليه بشكل منفصل، ذو طبيعة فسيفسائية تتداخل فيها مشاعر التلاحم والتنافر في وقت واحد حسبما ترى كل طائفة فيه مصلحتها الضيقة بعد أن تم ترويضها جميعًا بقوة الهيمنة والحرب الناعمة حينًا، وبقوة الإرهاب والقمع العسكري حينًا آخر (كما جرى في جبل عامل بعد فشل الاعتراض على الاحتلال وحرب العصابات التي شنّها الأهالي ضد الاحتلال الفرنسي)، الأمر الذي دفع التكتلات العائلية والطائفية التي كانت تتناحر على النفوذ والولاية أو التقرب من الولاة زمن الدولة العثمانية إلى العمل بما يوحيه عقلها الجمعي وخوفها على وجودها لتحديد موقفها من أي طارىء يطرأ ضمن الكيان أو من خارجه،كذلك جعل من هذا التجمع مدعاة تدخل قوى الهيمنة العالمية الباحثة عن لعب دور في السياسة اللبنانية والساعية أحيانًا إلى إدخال البلد في تحالفاتها الإقليمية والدولية، لذلك فإن ردات الفعل السياسية على ما يجري من أحداث وتطورات في الخارج القريب والبعيد كانت تحظى بردود فعل متفاوتة وفي كثير من الأحيان متناقضة، فالاحتلال الفرنسي يحظى بتأييد شرائح، وبعداوة أخرى، والانتماء العربي بقي مدار نقاش وصراع وتسويات ولم يتم التوافق عليه إلا في اتفاق الطائف؛ أي عندما صار للعروبة معنى مختلفًا مرتبطًا بصعود وزن بلدان النفط بعكس ما كان عليه الأمر مع الاستقلال وبداية نشوء الحركات القومية العربية ذات الطابع الوطني التحرري،كذلك الموقف من المشاركة في حلف بغداد الذي تشكل رأي عام قوي ضده في جزء من الشارع اللبناني، ومعه في جزء آخر، الأمر الذي تداخل مع شروط أخرى فأنتج ما سمي حينها بثورة 1958 وإنزال عسكري أمريكي على شواطىء بيروت، والتي لم تنته إلا بتسوية إقليمية دولية حالت دون التجديد للرئيس كميل شمعون، وأتت بالرئيس فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية، ولعل الانقسام الأبرز الذي عرفه البلد هو الموقف من الثورة المصرية بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وما أحدثته من ارتدادات على الساحة العربية، بل وعلى مستوى بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كذلك كان الموقف من هزيمة الأنظمة العربية عام 1967، وبالتالي ما أفرزته تلك الهزيمة من ردة فعل شعبية عربية عارمة تمثلت بنهوض العمل الفدائي الفلسطيني الذي حظي بدعم كل الأمة ومشاركة من كثير من قواها الحية، إن الحيوية التي عرفها الشارع الوطني في لبنان بين أبناء الشعبين الفلسطيني واللبناني استفزت جزءًا من المكونات اللبنانية وحولتها إلى وقود لإشعال حرب أهلية عام 1975 دفع ثمنها لبنان عشرات آلاف الضحايا من قتلى وجرحى ومهجرين ودمار أحياء بكاملها كان أهمها مركز البلد المتمثل بمنطقة الأسواق التجارية التي كانت تشكّل نقطة لقاء لكل الشعب اللبناني، وخزان حي لذاكرة البلاد والعباد،كما أغرى الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان قوى أخرى للسعي لإجراء تعديلات على النظام السياسي تراوحت بين من يريد إجراء إصلاحات في نظام توزيع الحصص، وبين من يريد إعطاء النظام طابعًا جديدًا، ولعله من الضروري إعادة دراسة ظروف الحرب الأهلية التي يحاول الجميع التنصل من مسؤولياته في تأجيجها، حتى حاول البعض تسميتها “حرب الآخرين على أرضنا”، لكنها في الحقيقة كانت مسؤولية الطرفين: الطرف الأول الذي خاف من تغيير موازين القوى الداخلية فأغواه “الشيطان” الإسرائيلي، والطرف الثاني الذي قيّم بشكل خاطىء طبيعة الكيان وحقيقة الصراع فانزلق ظانًا أن مجرد طرح شعارات غير طائفية يخرجه من رجس الطوائف إذا به “يخرج من المولد بلا حمص”، ويعقد اتفاق الطائف لوقف الحرب الأهلية دون تمثيل فعلي له، وتتربع الطوائف مجدّدًا على عرش دستور جديد. ولم تكد تنطفىء ارتدادات الثورة الناصرية بوفاة الرئيس عبد الناصر عام 1970 وانقلاب النظام الذي خلفه عن وجهته الوطنية القومية، والتحاقه بالتحالف الأمريكي خاصة بعد إهدار تضحيات حرب تشرين 1973، والدخول في المفاوضات التي أفضت إلى اتفاقية “كمب ديفيد” في 17 أيلول (سبتمبر) 1978، حتى هبت الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني عام 1979، والتي أحدثت زلزالًا على مستوى المنطقة والعالم، وكذلك كانت ردات الفعل اللبنانية منها متفاوتة بين مؤيد ومتحفظ ومتوجس، وكانت العلامة الفارقة الكبرى في تمايز موقف التكتلات الاجتماعية من الأحداث متمثلة بالاجتياح الإسرائيلي عام 1982 الذي حاول استباق نتائج الزلزال الإيراني على المنطقة، ومنع حدوث تحالف فلسطيني سوري إيراني على الأرض اللبنانية، وبالتالي حاول تثبيت أمر واقع جديد عبر إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وتنصيب رئيس جمهورية موال للمشروع الإسرائيلي، وإبرام اتفاقية 17 أيار المشؤومة، وكانت الصورة الحية للمأساة اللبنانية متمثلة بقصف إسرائيلي عنيف على مناطق ومدن وأحياء محددة، وحصار الجزء الغربي والجنوبي من مدينة بيروت، ومنعه من الحصول على أي من عناصر الاستمرار بالحياة، بينما أجزاء أخرى من الوطن كانت مؤيدة لهذه الحرب مشجعة عليها، أو في أحسن الأحوال غير معنية بها، وكذلك الأمر عندما اندلعت المقاومة الشعبية والمقاتلة ضد الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء عزيزة من الوطن أيضًا كانت ردات الفعل ومستوى التفاعلات الإيجابية متفاوتة بين كتلة وأخرى، كما أننا لا زلنا نذكر المواقف المختلفة للكتل والطوائف من الحرب على سوريا وما كان يجري من تحشيد أهلي مدعوم خارجيًّا لامس انفجارًا واسعًا للفتن والصراعات المسلحة.
إن هذه الصور التي أردت استحضارها من التاريخ الاجتماعي والسياسي الحديث للبلد تعطينا فكرة عن حركة الطوائف والعائلات الاجتماعية والروحية في تنافسها على حلبة الصراع التي أعدها لها صانعو الكيان والاستقلال المزعوم، والجائزة كانت دائمًا هي الحصول على الموقع المتميز على سلّم التراتبية الطائفية، وتكريس ذلك التفوق في بنود الدستور أو في مسار الأعراف الميثاقية، الأمر الذي يتيح لهذا الفائز استحواذًا أكبر على الريع لإعادة توزيعه كوظائف وهبات وخدمات وتلزيمات ومداخيل غير منظورة، ونهبًا للمال العام، ونفوذًا على الأراضي الأميرية وغير ذلك من مصادر المنفعة المختلفة، بحيث تتحصل لهذا الطرف، أو ذاك إمكانية تراكم الثروة والتحكم بها باعتبارها مصدرًا هامًّا آخر من مصادر النفوذ، لقد وضعت هذه الصراعات المفتوحة البلد بشكل دائم على أهبة صراع أهلي مسلح، ووضعت المواطن اللبناني دائمًا على حد السكين، الأمر الذي لا يمكن التغاضي عنه في سياسة أي طرف طامح إلى تغيير الواقع السياسي للبلد، ولا بدّ من ملاحظة أن الطوائف كرمى لمصالحها في الاستحواذ على المنافع داخل النظام مستعدة لتغيير اتجاهها، وإحداث تحول في موقفها من القضايا الكبرى مع الأخذ بعين الاعتبار لعاملين متحركين أولهما تغير ولاءاتها الإقليمية أي تغير المظلة الواقية، ثم تغير موقع الشريك الداخلي من الصراع الإقليمي، وبالتالي أخذ الموقع النقيض له. ولقد أثبت بشكل لا يدع مجالًا للشك المسار الذي أخذته الصراعات والتسويات كم أن هذه الطوائف تملك القدرة دائمًا على رص صفوفها، وشد عصبها، ووضع مصالحها الطائفية في طليعة اهتماماتها حتى لو أدّى ذلك إلى الحرب الأهلية، أو الانهيار الأمني أو الاقتصادي بشكل يخالف توقعات الكثير من المراقبين والمراهنين في الداخل كما في الخارج. إن السياسة التي انتهجها سماحة الإمام موسى الصدر بالتحالف مع سوريا بقيادة الرئيس حافظ الأسد في مواجهة الحرب الأهلية التي سعى الطرفان المتقاتلان لتأجيجها كل لمصلحته تعتبر نموذجًا يجب العودة إليه واستحضاره في كل مرحلة من مراحل الصراع الأهلي، حيث رفض مشروع عزل الكتائب الذي طرحته الحركة الوطنية بقيادة الراحل كمال جنبلاط، ثم عمل بكل قوة لوقف ردود الفعل الطائفية حتى أدّى الأمر إلى إعلانه الاعتصام والإضراب عن الطعام الشهير في الكلية العاملية في بيروت، كما بذل جهدًا كبيرًا في أوساط رجالات السياسة والزعماء ورجال الفكر، كذلك رجال الدين من كل الطوائف، بعد ذلك عمل بشكل دؤوب لتعبئة المواطنين في مناطق الاشتباك مثل الشياح وعين الرمانة للنزول إلى الشارع رفضًا للحرب الأهلية، لقد كانت سياسة الإمام الصدر تعطي الأولوية لإطفاء فتيل الحرب الأهلية، وبالتالي إرساء السلم الأهلي، وتعزيز الحوار بين الأطراف المتصارعة إيمانًا منه بأن الصراع الأهلي المسلّح لا يمكن أن يفضي إلا إلى إذكاء نار العصبيات الطائفية، وتعزيز دور القوى الأكثر تطرّفًا داخل الطوائف، مما يقوّي الاتجاهات التقسيمية المرتهنة للخارج، ويمنع من تطوير عمل الدولة ومؤسساتها.
إن لعبة الوحدة والتقسيم داخل الكيان هي لعبة مفتوحة في كل مرحلة من مراحل الصراع بين القوى المتنازعة، وتأخذ في كل مرحلة طابعًا جديدًا وعلى قوى التغيير والنهوض ملاحظة تأثير خطواتها على هذه الخاصية التي لا تعني لبنان وحده، بل تشمل كل بلدان منطقتنا.
لقد طغت فكرة العلاقة بين الوطن بحدوده الراهنة، والوطن المتخيل، أو الوطن الأمنية خارج حدود سيكس-بيكو على العقل السياسي اللبناني فساهمت إلى جانب قضايا أخرى بتعميق الخلاف بين وجهات النظر السياسية والفكرية لقادة الرأي اللبنانيين، وانقسمت أفكارهم حولها إلى خمسة:
اتجاه القومية اللبنانية الذي نما في أوساط بعض المثقفين المسيحيين الذين جهدوا لتوليف تاريخ وثقافة وفن لبناني، وصولًا إلى محاولة اجتراح لغة خاصة ترتكز على العامية المحكية بهدف السعي لتشكيل عصبية معادية للعروبة الناهضة في تلك الفترة، والتي تتسم بعدائها للاستعمار وللثقافة الغربية، وعلى اعتبار أن هذه العروبة هي مرادف فعلي للإسلام.
ثم اتجاه القومية السورية بمساره المتعرج بين التحالف مع الرئيس شمعون في 1958 إلى التحالف مع المقاومة الفلسطينية، ثم التحالف مع سوريا ولعب دور مميز في الحياة السياسية السورية الحديثة، واتجاه القومية العربية بتلاوينه المختلفة من حركة قوميين عرب وناصرية إضافة إلى البعث باتجاهيه السوري والعراقي، بعد ذلك يأتي الاتجاه الأممي الإسلامي بشقيه الشيعي والسني اللذين بحثا دائمًا عن مرجعية خارجية تخرجهما من الأسر اللبناني الذي وضعوا فيه في لحظة استضعاف تاريخي، وإذا كان بعض قادة الاتجاه الشيعي قد بذل جهودًا في محاولة إنتاج مرجعية لبنانية لم يكتب لها النجاح قبل أن يستقر على ثنائية نجفية قمّية فإن الاتجاه السني لم تبدر منه أية محاولة شبيهه وبقي يتحرك بين قاهرة أزهرية وإخوانية، وبين رياض سلفية وهابية وحديثًا صار هناك توجهات ذات مرجعية قطرية وتركية استقطبت التيار الإخواني في خضم صراعه مع السعودية والإمارات وحليفهم المصري.
إضافة إلى هذه الاتجاهات الأربعة الأساسية برز اتجاه خامس يتمثل بالأممية الاشتراكية التي عبرت عنها التيارات الشيوعية المتنوعة المرجعية بين السوفياتي التقليدي والصيني الماوي، ثم الجنوب أميركي –الجيفاري.
لقد كان صعبًا تقبل ما جرى على الجيل اللبناني الذي عاصر انهيار الدولة العثمانية وتفككها، وفشل مشروع الدولة العربية بقيادة الشريف حسين الذي كان يطمح إليه الكثير من مثقفي ذلك العصر عن حسن ظن كحل وسطي، وما رافق ذلك الانهيار وهذا الفشل من مشاكل ومآسي وهزائم لحقت بشعوب المنطقة يأتي على رأسها احتلال الصهاينة لأراضي فلسطين وإقامة دولة الكيان الصهيوني، وتقسيم المنطقة إلى دول مقزمة وعاجزة وخلع المهابة والاقتدار عن هذه الأنظمة، وما أسست من منظمات إقليمية مشكّلة حديثًا التي ما كان بمقدورها تشكيل شبكة أمن إقليمي مستقل، بل كانت مرتهنة بكل حركاتها وسكناتها إلى القوى الدولية المسيطرة، وقد منيت بهزيمة 1948 التي أذلّتها أمام شعوبها، وأفسحت في المجال أمام الانقلابات العسكرية التي استحوذت على تأييد شعبي كبير، والتي اعتبرت محاولة من الجيوش العربية الوطنية لاستلام مقاليد الحكم ورد اعتبارها أمام شعوبها، ومن ثم بعد الانفجار النفطي ارتهنت المنطقة لمعادلات البترو-دولار فتشكل الخليج العربي كمستعمرات أجنبية توكل حراستها إلى قبائل وعشائر يتم إرضاؤها بفتات من هائل الخيرات التي تنتجها بلادها ضمن المعادلة التي أفصح عنها الرئيس ترامب بكل وضوح: “إذا لم ندافع عنكم ستنهار عروشكم خلال أيام، ولكي ندافع عنكم عليكم أن تدفعوا لنا أموالكم”، وكان لا بدّ لهذه القبائل والعشائر من ممارسة دورها الوظيفي ليس فقط داخل بلدانها، بل كذلك لخدمة مصالح الولي الخارجي على مستوى المنطقة، فانبرت تقاتل في اليمن، وتعمل على فرط عرى الوحدة المصرية السورية، وشراء الإعلام على امتداد المشرق والمغرب لمبايعتها في معركتها ضد عبد الناصر وما كان يمثله. أمام هذا الواقع لم يكن أمام الشباب الوطني إلا التماهي مع الحركات القومية بمختلف أحزابها ومرجعياتها الممتدة بين دمشق وبغداد والقاهرة، وفي مراحل متأخرة طرابلس الغرب.
كما كان صعبًا أيضًا على الجيل الثاني من الشباب اللبناني تقبّل فكرة الهزيمة الثانية في حزيران من عام 1967؛ هذه الهزيمة التي هزّت أحلامه التي بناها مع النهوض الناصري، ومواكبة حركة التحرر العربية التي استطاعت القيام بإنجازات هامة مثل تحرير الجزائر، وتأميم قناة السويس، وإحياء الأمل الوحدوي عبر إقامة الوحدة بين مصر وسوريا، ودعم حركات التحرر العالمية، ثم محاولة المساهمة بإرساء نظام عالمي جديد عبر المساهمة الفعالة بتشكيل حركة عدم الانحياز، ومن خلالها السعي إلى تشكيل محور عالمي ثالث خارج إطار التجاذب الحاد لخنادق الحرب الباردة، والاهتمام الخاص بدعم حركات التحرّر الأفريقية باعتبارها خط الدفاع الخلفي عن الأمة العربية، كما كان لإجراءات توزيع الأراضي على الفلاحين في مصر، وبناء السد العالي والذي ترافق مع إطلاق حركة فكرية تحاول التوليف بين الإسلام والاشتراكية. لقد كان لكل ذلك صدى كبيرًا فتح أمام شعوب الأمة نافذة أمل بإمكانية الوصول إلى مستوى من العدالة الاجتماعية من ضمن مبادىء ترتكز على التراث الإسلامي ومحمية بإجراءات عملية لكسر احتكار التسلح، والسعي لبناء القدرة العسكرية التي تحمي القرار السياسي المستقل، وتسمح بالانتقال إلى مرحلة تحرير الأرض وبناء نظام إقليمي عربي وحدوي جديد متحرر من التبعية للغرب، وقادر على الولوج في عملية التنمية، لكن هزيمة 1967 كانت بالمرصاد لأحلام هذا الجيل وطموحاته، غير أن الرد كان سريعًا فلم تستكن الجماهير التي خرجت في معظم المدن والمناطق اللبنانية رافضة للهزيمة وطالبة من الرئيس عبد الناصر التراجع عن استقالته، بل اتجهت إلى دعم الجهد الجبار الذي قامت به مصر وسوريا من أجل إعادة بناء الجيوش المقاتلة والتي كانت تتم تحت نيران حرب الاستنزاف، وكذلك نحو دعم المقاومة الفلسطينية باعتبارها ردًّا عمليًّا على الهزيمة، فانخرط الشباب اللبناني في المنظمات الفلسطينية على اختلاف توجهاتها السياسية والعقائدية سعيًا إلى لعب دور ريادي في الصراع، وترافق ذلك مع نهوض واسع في حركة التحرر العربية متأثّرًا بالمد اليساري باتجاهاته السوفياتية والصينية وكذلك الأميركية الجنوبية الغيفارية، وقد كان لانتصار الثورة الفيتنامية والانسحاب المذل للقوات الأميركية منها تأثير كبير على التعجيل بتشكيل المنظمات اليسارية التي تشكلت بالتوازي مع الأحزاب الشيوعية التقليدية التي يعود أوان تشكيلها إلى حقبات سابقة غير بعيدة عن تاريخ انتصار الثورة البولشفية في موسكو في أكتوبر 1917.
كما كان صعبًا على الجيل الثالث من أبناء الشعب اللبناني رؤية الدبابات الإسرائيلية تتمدّد لتصل في حرب عام 1982 إلى عاصمته وإلى قصر رئاسة الجمهورية، وترى الآمال التي عقدتها على تحالف وطني لبناني فلسطيني سوري يصمد أمام العدو الإسرائيلي تنهار ويرى أمامه الانسحاب البري لقوات الجيش العربي السوري التي كانت موجودة بقرار قمة عربية كقوات ردع عربية، والانسحاب البحري لقوات المقاومة الفلسطينية، وترك الشعب اللبناني والفلسطيني الموجود في المخيمات اللبنانية لمصيره الذي تمثل أولًا بالإتيان ببشير الجميل رئيسًا للجمهورية اللبنانية كرمز معنوي للغلبة الإسرائيلية، ثم الإتيان بأخيه أمين بعد مقتله، وثانيًا بمجازر صبرا وشاتيلا وعمليات القمع الممنهج للشارع الوطني اللبناني كرمز عملي لتولي القوة الحليفة لإسرائيل مقاليد رئاسة الجمهورية، ومفاتيح الحكم والأمن وصولًا إلى عقد اتفاقية 17 أيار التي تجعل من لبنان محمية أمنية خاضعة لدولة الكيان الصهيوني، والتي انتفض الشعب اللبناني ضدها وحولها نسيًا منسيًّا،كذلك استطاع هذا الشعب بواسطة نخبه الحية من تشكيل قوى مقاومة تبذل جهودًا جبارة تفرض على الصهاينة انسحابًا مذلًّا من جنوب لبنان في أيار من عام 2000 باستثناء منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر التي لا تزال تحت الاحتلال، كذلك استطاعت هذه القوى الحية من هزيمة القوات الإسرائيلية في حرب 2006 وفرضت عليه تبادلًا للأسرى تم خلاله تحرير جزء كبير من الأسرى اللبنانيين وكذلك جثث شهداء لبنانيين وعرب، وقد فرضت هذه الحرب والجهود التي بذلت بعدها على العدو توازنًا مذلًّا بالرعب حدّ من إمكانيات حركته ومنعه من التمادي خوفًا من انزلاق الأوضاع إلى حرب شاملة غير مرغوب فيها من قبله.
في هذه المواجهات الكبيرة كان شباب لبنانيون وقوى حية من مختلف فئات الشعب تستشعر ضرورة التناغم مع الحركات الناهضة في العالم العربي والإسلامي، كذلك في بلدان العالم المناهضة للاستعمار والهيمنة لإيمان هؤلاء بأن المشاكل التي يعاني منها بلدهم ليست إلا امتدادًا لمشاكل أكبر تعاني منها المنطقة برمتها، بل وتعاني منها كل بلدان الجنوب، وأن أعداءه ليسوا إلا جزءًا من تحالف معاد رأسه في الغرب وسنده القاعدة الإسرائيلية المتقدمة، كذلك لإيمانه بأن الوصول إلى حلول وإنجازات حقيقية مرتبط بتقدم النضال العالمي ضد نظام الهيمنة وتطور النظام الإقليمي المعادي لوجود الكيان الصهيوني. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى ضحالة فكرة النأي بالنفس التي أطلقت في مرحلة من مراحل التداخل الإلزامي بين الوضع اللبناني والسوري، والصراع على لبنان وسوريا والتي لم تصمد لأن من أطلقها كان أول من خالفها وعمل بخلافها.
نخلص من هذه النقطة إلى أن الأزمات المتتالية التي عاشتها وتعيشها وستعيشها مستقبلًا شعوب المنطقة هي أزمات متداخلة لا يمكن فصل أو عزل جزء منها عن جزء آخر، بل سيكون مثيرًا للشفقة تصنيع سياسات وبرامج عمل لا تأخذ بعين الاعتبار هذا التمازج والانسجام بين عناصر الأمة في مناطقها المختلفة.
إن وجود الكيان الصهيوني الذي أخذ طابعه الشرعي الدولي عام 1948 إثر حرب أطلق عليها العرب اسم النكبة شملت الجبهات العربية في مصر والأردن ولبنان بعد مسلسل طويل من مسلسلات الهجرة اليهودية المحمية بالوجود الاستعماري البريطاني، والذي كان قد أعطى اليهود الصهاينة وعدًا بإقامة دولة لهم في فلسطين الذي سمي وعد بلفور (المشؤوم ) عام 1916، وكانت هذه الهجرات متلازمة مع صراع مرير مع أصحاب الأرض والشرفاء من أبناء العرب الذين استشعروا الخطر من وجود كيان غريب مغتصب للأرض ومرتبط بشكل عضوي بمشروع الهيمنة الاستعمارية داخل بلادهم. إن هذا الفهم المتقدم لطبيعة الكيان الصهيوني باعتباره قاعدة من القواعد العسكرية المتقدمة لحماية مصالح الوجود الاستعماري الغربي في بلادنا، وبالتالي استشعار الخطر الذي يمثله هذا الكيان على أرضهم وتاريخهم وثقافتهم، وكذلك طبيعة التضامن الذي استشعره جزء كبير من اللبنانيين مع الشعب الفلسطيني الذي تم تهجير جزء منه إلى لبنان. إن ذلك خلق دينامية خاصة للعمل السياسي في لبنان لا يمكن فصله سلبًا وإيجابًا عن قضية الصراع ضد الكيان الصهيوني، وتأييدًا ودعمًا ومشاركة لنضال الشعب الفلسطيني. لقد قدم الشعب اللبناني (كما قدم غيره من الشعوب العربية والإسلامية نماذج مشرّفة) وقواه الحية أمثلة ناصعة للتضحية في مجال الصراع السياسي والمسلح إلى جانب إخوانهم من أبناء الشعب الفلسطيني، وهذه سمة من السمات الهامة التي طبعت وستطبع صورة العمل السياسي في لبنان حتى إزالة دولة الكيان الصهيوني المغتصبة عن الخارطة، وإقامة الكيان الفلسطيني الذي يعيد وحدة الوجود للشعب الفلسطيني على أرضه المحررة. فلا يمكن في أي شكل من الأشكال ممارسة العمل السياسي والتنمية والحكم بشكل عام في بلدنا دون الأخذ بعين الاعتبار وجود هذا الكيان المصطنع على حدودنا، وتدخله سلمًا وحربًا في عملية إدارتنا للصراعات الداخلية فيما بيننا، وبالمقابل صراع أبناء الأمة من فلسطينيين وعرب ومسلمين ومسيحيين مع قوى الاستعمار والهيمنة وبالتالي معه.
لقد أثبت تاريخ الصراع مع هذا التجمع الاستيطاني العنصري بما يمثله من قاعدة متقدّمة لجيوش الاحتلال، والهيمنة الغربية على بلادنا أننا لا يمكن أن نبني أوطانًا نامية متطورة ومستقلة في خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون أن نكون قادرين على مواجهة هذا الكيان وردع تدخله في شؤوننا بالحد الأدنى، وهذا التوصيف الواقعي لوجود هذا الكيان وممارساته ليس له علاقة بأي اصطفاف أو خلفية عقائدية دينية أو أيديولوجية سياسية، بل إن الممارسة التاريخية لهذا الكيان من تاريخ بدء العمل على تأسيسه، ثم بدء المشاريع الاستيطانية، ثم تكريس الكيان بعد مهزلة حرب 1948 المسماة نكبة وحرب 1956 ضد مصر التي شاركت فيها إسرائيل عدوانًا فرنسيًّا بريطانيًّا استهدفت التصدّي للتوجهات الاستقلالية للنظام المصري بقيادة عبد الناصر، وبعدها حرب 1967 التي عملت على احتلال شبه جزيرة سيناء في مصر والضفة الغربية لنهر الأردن، وكذلك الجولان السوري والتي أدت فيما أدت إليه إلى توجيه ضربة قوية للمشروع التحرّري في المنطقة العربية، والتي شهدت بعدها جولة من الصدام المسلح سميت “حرب الاستنزاف”، بعد ذلك حدثت حرب 1973 وهي الحرب الوحيدة التي اندلعت بمبادرة من الجيشين المصري والسوري، والتي انتهت بمفاوضات سياسية أفضت إلى اتفاقات كمب ديفيد التي أبعدت مصر عن دورها في الصراع ضد إسرائيل، وبالتالي الاستفراد بسوريا، الأمر الذي أدى إلى تغير في موازين القوى الإقليمية سمحت باندلاع الحرب الأهلية في لبنان بهدف أساسي هو تصفية المقاومة الفلسطينية أو الحد من جهدها في القتال ضد العدو، وبالتالي عندما توقفت الحرب الأهلية، وعادت المقاومة إلى ممارسة دورها تدخلت إسرائيل عام 1982 بشكل مباشر، واحتلت جزءًا كبيرًا من الأراضي اللبنانية، وصولًا إلى بيروت العاصمة، ومن ثم سوق نواب المجلس النيابي لانتخاب بشير الجميل رئيسًا للجمهورية اللبنانية، وبعد اغتياله وانتخاب أخيه أمين الجميل سعت إسرائيل إلى عقد اتفاقية سياسية أمنية تسمح لها بالتدخل في الشأن اللبناني متى شاءت، وتحد من سيطرة الدولة على أجزاء واسعة من الأراضي اللبنانية مما أدى إلى اندلاع مقاومة لبنانية أطاحت بالاتفاقية، ثم فرضت على العدو انسحابًا مذلًّا عام 2000، وهزيمة عام 2006، وردعًا حقيقيًّا يمنعه من حرية العمل إلى هذه الساعة. إن هذا التاريخ من الصراع إذ يعبّر عن طابع عدائي يتعدّى الشعب الفلسطيني إلى كل شعوب المنطقة ومنها لبنان، وأينما حللت في المناطق اللبنانية كافة يحدثك الناس عن مجاهد هنا وشهيد هناك سقط في القتال أثناء التصدي لهجمات الجيش الإسرائيلي على ربوع وطنه، أو ثائرًا أراد القفز على نتائج النكسة والهزيمة فقرر الاستشهاد على ربى الوطن المحتل، أو متشبثًا بأرضه فتعرّض للقصف الغاشم، وأحيانًا مدافعًا عن المقاومة الفلسطينية في حقها بالقتال انطلاقًا من الأراضي اللبنانية.
إن الطبيعة العدوانية الاحتلالية للكيان الصهيوني باعتباره جزءًا من المشروع الاستعماري الذي ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ثم مشروع الهيمنة الأميركية على بلادنا وعلى العالم، إن هذه الطبيعة التي تنفذ سياساتها من خلال القتل والتدمير والمجازر لا تدع مجالًا لإمكانبة العيش بمحاذاة هذا الوحش الجاثم على تخومنا دون سياسة دفاعية رادعة تجعل من تدخله العسكري أو السياسي أو الأمني أمرًا دونه خرط القتاد. لذلك فإن أي قوة سياسية تريد تحمّل مسؤولية السلطة السياسية في لبنان وأي ّكان اتجاهها المعتقدي إذا لم تضع قضية الردع باعتبارها حلقة مركزية في سياساتها واستراتيجياتها وتكتيكاتها، وبالتالي تحديد تحالفاتها وعداواتها فهي في الحقيقة تضع نفسها في جيب العدو إن كانت تدري أو لا تدري.
منذ الاستقلال يتشكّل داخل الكيان اللبناني قوى تغييرية تنقسم إلى نوعين: الأول يقوم به قوى تقليدية تسعى لتحسين مواقعها في السلطة وفي توزيع الريع بين القوى الطائفية المختلفة، وقد تمظهرت هذه المعارضة بأشكال متنوعة انخرط بعضها بنشاطات حزبية وحركات معارضة فئوية، أو جهوية أظهرت لونها الطائفي بشكل مباشر أو غير مباشر كما كانت الحروب الأهلية المتتالية منذ عام 1958 حتى الآن أهم تجلّيات الصراع المرير على السلطة، والتي أنتجت مجموعة من التسويات كان أولها دولة الشهابية، ثم دولة الطائف، ودولة الدوحة ويبحث الاستعصاء الحالي في إدارة الدولة وتحديد مآلات استمرار هذه الدولة عن لقاء واسم عاصمة جديدة قد تؤسس لتسوية جديدة ولدولة جديدة في المستقبل إذا أريد لهذه الدولة اللبنانية أن تستمر.
من جهة أخرى، هناك الاتجاه التغييري التبشيري بشقيه الديني والعلماني، وقد أسميته الاتجاه التبشيري؛ لأنه يعتمد التبشير كوسيلة لتراكم النقد والوعي بضرورة التغيير سبيلًا للخلاص، وفي لحظات التوتر الكبير كان يختفي الاتجاه التبشيري ليأخذ الاتجاه التقليدي مكان الصدارة في المفاوضات وتحصيل التنازلات والمكاسب؛ لأنه هو الوعاء القادر على ذلك، بينما يبقى الاتجاه التبشيري هامشيًّا يؤدي خدمات بوعي أم بغير وعي، ويدفع أيضًا التضحيات دون أن يستطيع التحول إلى رقم صعب يجعل من التسوية مستحيلة من دونه.
يعتمد الفكر التغييري التبشيري على فلسفة سياسية طغت على معظم اليسار العالم ثالثي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت طيلة الحرب الباردة وحتى الآن ترتكز هذه الفلسفة على فكرة أن التناقض الرئيسي الذي كان خلال فترة الاستعمار المباشر يتمحور على الصراع بين الشعوب من جهة والاحتلال الأجنبي من جهة أخرى، فإن هذا التناقض قد انتقل بعد انسحاب الاحتلال الخارجي إلى الصراع بين الطبقات الحاكمة والطبقات المحكومة غير آبهين لآليات الاستعمار الجديد ولوسائل السيطرة المختلفة التي أنشأها الاستعمار قبل انسحابه، ومن ثم آليات تشكل الإمبراطورية الأميركية وتحولها إلى أخطبوط عالمي قابض على خيرات الشعوب كما هو قابض على أنفاسها، وإلى وجود الكيان الصهيوني في منطقتنا كعنصر من عناصر السيطرة الأجنبية على مقدرات المنطقة وعلى حرية شعوبها، وقد نظر بعض أساتذة هذا التيار على المستوى العربي والعالم ثالثي إلى إمكانية الوصول لتسوية سلمية مع إسرائيل تسمح ببلورة الصراع الطبقي داخل دولة الكيان، وبالتالي تحولها إلى دولة اشتراكية، وقد خاض هذا التيار معارك كبيرة على امتداد ساحة العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وتعرض إلى القمع وبطش السلطات الحاكمة المدعومة بأجهزة المخابرات العالمية من أندونيسيا إلى إيران وتركيا وعشرات البلدان في أفريقيا وأميركا اللاتينية ولم يحقق إنجازات تذكر إلّا حين كان يتم رفده بانقلاب عسكري والطيران إلى موسكو في اليوم الثاني لتأمين حماية من المظلة الاشتراكية، لذلك فإننا نلاحظ على سبيل المثال أن معظم منظّري هذا الاتجاه لم يلتقطوا أهمية المشروع الناصري وطرحه لمبدأ الاستقلال والتحرر الوطني والوحدة العربية ودخلوا في صراع حاد معه في مصر نفسها ثم في العراق وسوريا ولبنان، وكانوا يمارسون أحيانًا ما يعجز أذناب الاستعمار عن ممارسته، وللعلم فقد كان التيار التغييري التبشيري ذو الصبغة اليسارية، والتيار التغييري التبشيري ذو الصبغة الإسلامية يؤدّيان الدور نفسه كل من منطلقاته السياسية المختلفة وخلفياته العقائدية المختلفة.
لقد أكدت تجربة المئة عام من عمر الكيان اللبناني وعمر الصراع في المنطقة أنه من دون توحيد أوسع الطاقات الممكنة من شعوبنا لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي ونظام الهيمنة الأميركي الغربي على شعوبنا وخيرات بلادنا لا يمكن بأي شكل من الأشكال التأسيس لأنظمة عدالة اجتماعية، وتوزيع عادل للثروة، وتأمين مشاركة شعبية في السلطة السياسية، وبالتالي نهضة شاملة على كافة المستويات.
إن التجربة الناصرية وحجم التكالب الغربي عليها والحصار الاقتصادي والتحالف مع القوى والأنظمة العميلة، وحرب اليمن، وحربي 1956، ومن ثم حرب 1967 والتآمر المكشوف لضرب الوحدة مع سوريا وصولًا إلى تصفية الإرث الناصري تجعل من الضروري على كل مناضل تغييري التفكير بشكل جدي بنظام الأولويات وبتحديد التناقضات ووضع الرئيسي منها في موقع الرئاسة.
إن فكرة التناقض الرئيسي ليست فكرة ذاتية يمكن أن نختار منها ما نشاء بشكل مزاجي كما يختار الإنسان اللون الذي يفضله، أو الرائحة المحببة إلى قلبه. إنه قانون علمي حاكم في حركة الصراعات الاجتماعية والسياسية كما تتحكم القوانين الطبيعية بحركة المادة وتفاعلاتها؛ أي إنه التناقض الذي نستطيع عبر حله إطلاق العنان لحركة المجتماعات ونضالات أبنائها لتحقيق أهداف النهوض الشامل، ومن دون ذلك سنبقى عالقين أمام نموذج الدعوة اليسارية والدعوة الإسلامية اللذين التقيا على أعتاب ما سمي بالربيع العربي فأسهما بانتكاسة هذا الربيع وإهدار تضحياته.
إن أهمية فكرة التناقض الرئيسي هو أنها تفسح في المجال أمام القوى الحية في شعوبنا والشعوب المستضعفة وقوى الحرية في العالم من تشكيل جبهة واسعة مترامية نقاط الصدام مع العدو، كما تجعل كل انتصار تكتيكي أو استراتيجي في نقطة من النقاط نموذجًا يُحتذى ومدماكًا للتراكم، وهكذا يصبح الفيتو الروسي الصيني في الأمم المتحدة جزءًا من موازين القوى في سوريا، والمساعدة الإيرانية لفنزويلا عنصرًا حاسمًا في الصراع عليها، وتصبح معركة سوريا جزءًا من موازين القوى في لبنان والعراق وفلسطين، ويصبح لبنان جزءًا من موازين القوى في الخليج، وخطرًا وجوديًّا على الكيان الصهيوني، وهكذا كأنها مباراة ملاكمة باستخدام عشرات الأذرع، وكلما حقّق أحد الأذرع ضربة موفقة استفاد منها القبضات الأخرى.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/12822/lebanesepolitics/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.