فنون الغُنج والدلال – قراءة في دعاء أبي حمزة الثمالي –

by سكينة أبوحمدان | مايو 7, 2021 1:53 م

حديث العشق لا يشبه كلّ الأحاديث. وربّما يتراءى للسامع أنّه طويل. وأنّى لحديث السرّ أن يختصر كلّ كلمات الجوف في جمل!

في حديث العشق، يطول الشرح، ويطول الكلام كما يحلو للعاشق أن يطيل مكوثه في حضرة المعشوق.

هو ليس تقلّب بين الخوف والرجاء فحسب كما يبدو، هو تمايلٌ بين غنج ودلال؛ “إلهي لو أدخلتني النار أعلمتُ أهلها أنّي أحبّك”. مع الله، حبٌّ لا يعرف المستحيل، ولا يعرف النهاية، ولا يعرف الكفاف.

في حديث العشق، كلّما لاح للحديث ختام، أمكن للعاشق أن يفتتح حديثًا آخر، أن يبدأ من جديد؛ كي يطيل مدة مكوثه مع معشوقه. معه، لا يمكن أن يملّ الكلام.

هو هذا دعاء السرّ والمناجاة في أوقات السحر، حين تنام العيون، وتسكن النفوس، فيطيب الهمس والدلال مع الحبيب.

سنعرض في هذه المقال بعضًا من فنون الغُنج والدلال مع الله في دعاء أبي حمزة الثمالي؛ وهو دعاء علّمه الإمام زين العابدين (ع) لصاحبه أبي حمزة، يستحبّ قراءته في أوقات السحر من شهر رمضان المبارك.

تمّ تقسيم الدعاء إلى ستّة أساليب في التعبير عن حالات الغنج التي يتحلّى بها العبد مع مولاه، يبدأ كل قسم بـ”إلهي”.

لم يُفتتح دعاء أبي حمزة كما هو متعارف بين الأدعية بتمهيد أو مقدّمات. لم يتسنَّ للعبد أن يتذكّر آداب البدء. هو على عجلٍ من أمره، لا يستطيع أن ينتظر، لقد ارتمى بين أحضان المعشوق دونما إشارة. ناداه باسمه “إلهي”، وهو أعزّ الأسماء على قلبه وأقربها. إلهُه أي علّته التي من دونها لا يمكن له أن يكون، أو أن يبقى، قوّته التي تجرّأ بها أن يبدأ اعترافه بذنبه، ورجاءه في قبوله.

يعرف أنّه سيقبله بكلّ ما فيه من أدران، هو دعاه، فتدلّل، كطفل ارتمى بين أحضان أمّه عاصيًا مذنبًا مسيئًا معترفًا، متسلّحًا بأوّل فنّ من دلال الرضوخ؛ “لا تؤدّبني بعقوبتك”، وإن كنتُ أستحقّ العقاب “فمن أين لي الخير يا ربِّ ولا يوجد إلّا من عندك؟”. عصيتك يا إلهي، وجئتك أطلب النجاة منك بك، “وأنت دللتني عليك، ودعوتني إليك”.

وحين تدعوني أعلم أنّي مقبول، وأستطيع أن أطلب ما أشاء. حينها يبدأ العبد بالحمد والشكر وتعداد ما منّ الله عليه، تعدادًا تفصيليًّا ليطول الكلام مع الحبيب؛ “الحمد لله الذي تحبّب إليّ وهو غنيّ عني”. يذكر العبد في هذا المقطع أمورًا حسّاسة للغاية، تورث الأنس مع الله.

فأنا أشكرك يا إلهي أن لم تُحرجني كي أرجو غيرك، ولو رجوت غيرك فأنا أعلم أنّ حاجتي لديك وحدك. والحمد لله على حلمك عليّ حتّى كأنّي لا ذنب لي. وفي هذا الأسلوب، يُبدع السائل في عرض نعم الله، لا ينسى التفاصيل، وفي ذلك نوع من المسكنة التي تجعله يتودّد أكثر من الله. فبالرغم من أنّي لا أستحقّ استماعك إليّ، أو استجابتك لي، إلّا أنّي واثق بكرمك ومنّك.

وبعد سرد كلّ ذلك، يتقلّب في فنّ من فنون الثقة بالله، فأنت يا إلهي الذي ربّيتني صغيرًا بإحسانك، فكيف يمكن أن تتركني كبيرًا. “معرفتي يا مولاي دليلي عليك، وحبّي لك شفيعي إليك”.

إنّ أملي يا سيدي عظيم، وأنت متّكل على عظيم هذا الأمل، وليس على سوء عملي؛ “وحلمك يكبر عن مكافأة المقصّرين”. ها أنا ذا هارب منك إليك، راجيًا صفحك، وأنت خير الساترين، وأكرم الأكرمين.

فيناديه في هذا القسم بأسمائه “يا حليم، يا كريم، يا حيّ، يا قيّوم، يا عظيم المنّ، يا قديم الإحسان”. يستحضر كلّ أنواع الاستعطاف، والتقرّب، فينسجم العبد مع نفسه، يغوص في حالات الحبّ والذوبان، ويسأل ربّه “أين سترك الجميل؟ أين عفوك الجليل؟ أين فرجك القريب؟ أين غياثك السريع؟” وتطول القائمة.

هنا يسمح الداعي لنفسه أن يسأل الله بما رأى منه تعالى إصغاءً، يسترسل بأسئلته، ينسى تلك الحدود بين المحدود والمطلق، يذوب به سبحانه، فيتركه الله يتحدّث، فيأنس العبد بما وصل إليه سريعًا من هذا القرب، ويرى نفسه متحدة مع الباري لا يستطيع الانفكاك عنها قيد أنملة. فيقسم بعزّة الجبّار “فوعزّتك، يا سيّدي”. ما الذي يريده ذلك العبد؟ “لو نهرتني ما برحت من بابك”.

قمّة الغنج والدلال حين يلتصق العبد بمولاه، حين لا يستطيع أن يفارق الحبيب حبيبه بالرغم من طرده. والداعي يعرف أنّه يذكر ذلك الكلام من باب التقرّب والذوبان في ذات الحقّ، وإلّا لا يمكن لله تعالى أن يطرد عبده أو أن ينهره. هو دعاه إليه، ولا يمكن للباري أن يتخلّف عن وعده وإجابته.

ثمّ يستيقظ المحبوب في تلك اللحظات، يستحضر النعم، ينقلب إلى فنّ الفخر بمَن ينتسب؛ “إلهي، أنت أوسع فضلًا، وأعظم حلمًا من أن تقايسني بعملي”. فأنا معك وبك لست شخصًا عاديًا “أنا الصغير الذي ربّيته، وأنا الجاهل الذي علّمته، وأنا الضالّ الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي آمنته” وتطول السلسلة بما يسرد ذلك العبد.

يعدّد فيها كلّ تفصيل، يأنس بذكرها جميعها، يفتخر بأنّ أيادي الله هي التي رعته وغذّته، وصنعته. وفجأة، ودون إنذار، في حضرة السكر والهيمان الذي هو فيها، يستفيق “أنا يا ربّ الذي لم أستحيك في الخلاء، ولم أراقبك في الملأ، أنا صاحب الدواهي العظمى”. كيف أمكنني أن أتجرأ على سيّدي ومولاي؟ كيف انغمستُ بكل تلك النعم، ولم أراعِ حجمي أمام عظمة الباري تعالى. يقسو على نفسه “أنا الذي عصيت جبّار السماء”.

ثمّ بعد ذلك يُسكن روعه ويدخل في فنّ التبرير وإيجاد العذر، “إلهي، لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيّتك جاحد، ولا بأمرك مستخفّ”. لم أقصد يا إلهي أن أخرج من دائرة العبوديّة، ولكنّي ضعيف أحتاج إلى قوّتك كي تنشلني من جهلي وضعفي. أتوسّلك أن لا ترفع يد رحمتك عني، لا تعرض بوجهك “إلى من يذهب العبد إلّا إلى مولاه؟ وإلى من يلتجئ المخلوق إلّا إلى خالقه”.

ولم يطل في هذا الفنّ لأنّ عذره قبيح. فانتقل بعجل إلى دلال العبوديّة. لقد احترق بنار العشق، وهاجت به نيران العذاب من الفراق؛ “إلهي لو قرنتني بالأصفاد، ومنعتني سيبك من بين الأشهاد، ودللت على فضائحي عيون العباد، وأمرت بي إلى النار، وحلت بيني وبين الأبرار، ما قطعت رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبّك من قلبي”. لا يمكننني يا إلهي أن أتخيّل نفسي دون ارتباطي بك، أن أشعر أنّك أشحت بوجهك عني.

إلهي أرى نفسي في لحظات خروج روحي من جسدي، فيا ربِّ ارحمني، وأبعد عني كلّ تلك الأشباح التي يمكنها أن تبعدني عنك؛ “سيدي إليك رغبتي، وإليك رهبتي، وقد ساقني إليك أملي، وعليك يا واحدي عكفت همّتي”. أنت وحدك الذي يمكنه أن يخرجني ممّا أنا فيه، أن ترحم غربتي الناشئة من بعدي عنك.

لقد بتّ وحيدًا دونك، عريانًا تشهد الخلائق كلّها على سوء فعلي وتجرّوئي. وأنت يا ربّ وحدك وحدك مَن يمكنه أن ينشلني، ويسترني؛ “سيّدي، لا تعذّبني وأنا أرجوك”.

وحين يطمئن ذلك العبد إلى رأفة الباري وحنانه وعطفه، يزداد دلالًا وخفّة فيتفنّن في دلال الطلب، ويستخدم في ذلك أفعال الطلب. يتجرّأُ بحبّ وغنج “سيدي، أنا أسألك ما لا أستحقّ، وأنت أهل التقوى وأهل المغفرة، فاغفر لي وألبسني من نظرك ثوبًا يغطّي عليّ التبعات وتغفرها لي، ولا أُطالب بها”. أنا أعرف أنّي لا أستحقّ منك شيئًا، ومع ذلك فإنّي أطلب، لأنّي أعلم أنّك ربٌّ رحيم لن تردّ حاجة من دعاك. فلا يترك العبد شيئًا لا يذكره من حاجة الدنيا والآخرة بثقة عمياء، واطمئنان.

وتطول في هذا القسم ما يطلب، ويطالبه بها، بل ويقسم “إلهي وسيّدي، وعزّتك وجلالك، لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنّك بعفوك، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنّك بكرمك، ولئن أدخلتني النار لأخبرنّ أهلها أنّي أحبّك”.

أي دلال وغنج يأذن به الباري لذلك العبد! وأي العبارات التي يسمعها منّا الله بحبّ ولطف دونما تذمّر، ودونما خوف! وأي عظيم نعبد! ذلك المولى الذي يسمح للعبد أن يتقلّب بين دلال ودلال، بين حبّ وعشق، بين ذنب ومغفرة، ورجاء ورجاء!

ثمّ يقول العبد: “إلهي، إن أدخلتني النار ففي ذلك سرور عدوّك، وإن أدخلتني الجنّة ففي ذلك سرور نبيّك، وأنا، والله، أعلم أنّ سرور نبيّك أحبّ إليك من سرور عدوّك”. إنّه اليقين بأنّ المعشوق الحقيقي الذي لا يُنافس في حبّ يحنو ويرأف ويقبل التوبة ويعفو بخطوة منه واحدة أن أقْبِل عبدي إليّ فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني.

في حديث العشق، لا يمكن للكلام أن يجفّ، لا يمكن للعبد أن يفيق من حالة السكر.

في حديث العشق، تزول الموانع التي تحول بين العاشق ومعشوقه، تختفي الحجب، فينغمس الحبيب في جمال محبوبه، فلا يعرف ما يقول، وليس مهمًّا ما يقول، المهم أن يبقى في حالة حديث دائم ومستمر معه.

جعلنا الله ممن يحسنون قيام الليل ومناجاة السرّ، ويُقبلون على الله بدافع العشق والفقر، ويستحقون فيض الحبّ الإلهي الذي لا ينضب.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/12985/do3aabihamza/