البساطة في منهج الإمام الخميني (قده)
لم يكن الإمام الخميني (قده)، بالرغم من مصطلحات فكره الفلسفيّة المعقّدة، بالشخص الشائك. كان عبدًا أبسط ممّا يمكن أن يظنّ البعض. عبدٌ بسيط لله، بسيط بمعنى عدم التركّب من عبد لله ولغيره.
لقد حمل بين ثنايا روحه العميقة بعضًا من محمّد (ص) وعلي (ع)، ذاب بهما حتّى بانت صرافة روحه وسماحتها، وتشبّهت بهما؛ فالشيء لا ينسجم إلّا بما يسانخه في الجوهر والتركيب.
فما هو معنى البساطة في منهج الإمام الخميني (قده)؟ وكيف جسّدها في حياته العمليّة؟
والبسيط في فلسفة الخميني (قده) هو الشيء الذي لا يشوبه نقص أو خلل أو كدر، ويقابله المركّب. وبسيط الشيء هو الصرف منه، كالبياض مثلًا الذي يمكن أن نتصوّره بمعزل عن تلبّسه بشيء آخر، ندرك معناه الحقيقي إلّا أنّنا لا نجد له مصداقًا محسوسًا، ولا يمكن ملاحظته دون متعلّقاته، أو الشيء الذي يتلبّسه، ومن هنا تنشأ درجات هذا البياض تبعًا لذلك.
إلّا أنّ البسيط الذي يسعى الخميني (قده) للارتباط به، ونبحث عنه في مقالنا هو صرف الوجود وبسيطه، وهو الواجب تعالى. ولشدّة بساطته، فإنّ الله سبحانه لا يمكن أن يُرى بالعين الحسّيّة، لأنّ المحسوس لا يحوي المجرّد، بل العكس صحيح.
ولكي ندخل في صلب ما نودّ الإشارة إليه في منهج الإمام الخميني (قده) في مبدأ البساطة وتجسيدها، سنتوجّه مباشرة إلى الموضوع. وبحساب منطقي بديهي، فإنّ البسيط هو الكامل، وهو المطلق، وهو وحده الله تعالى. والمركّب الذي يودّ أن يتّصف بصفات البسيط عليه أن يقترب منه، ويسانخه، ويتشبّه بصفاته. وبالتالي، يوحّده.
إذن، فإنّ مبدأ البساطة ينطلق من مبدأ التوحيد بكل معانيه وحيثيّاته. والتوحيد أصل أصول المعارف، وتتشعّب منه أكثر الفروع الإيمانيّة والمعارف الإلهيّة، والأوصاف الروحيّة الكاملة، والصفات القلبيّة النورانيّة[1].
ويعتبر (قده) أنّه ما لم يتصل الإنسان بالواحد البسيط لن تستطيع نفسه أن تتجرّد، وتصل إلى المقامات العالية، فيقول: “ما لم يحصل للنفس صفاء باطني، ولم تصل إلى الكمالات المتوسّطة، فلن تكون موردًا لتجلّي الأسماء والصفات والمعرفة الحقيقيّة، ولن تصل إلى كمال المعرفة، بل إنّ جميع الأعمال الصوريّة والأخلاق النفسيّة مقدّمة للمعارف الإلهيّة، وهي أيضًا مقدّمة لحقيقة التوحيد والتفريد الذي هو الغاية القصوى للسير الإنساني ومنتهى السلوك العرفاني”[2].
فالصفاء الباطني هو نوع من أنواع الصرافة والتجرّد التام عن المتعلّقات. والإنسان الموحّد هو الذي لا يرى في الوجود إلّا الواحد، الذي لا يتكرّر ولا يتثنّى. وهو تعالى وحده الذي يؤّثر فيه، وهو الخالق والرازق.
والحياة الدنيا ما هي إلّا طريق عبور إلى دار الفناء. وهي دار امتحان واختبار، وهي أيضًا دار التكليف الذي كرّم الله بها بني آدم على عكس ما يُشاع من التفكير العامّي بأنّ هبوط آدم (ع) من الجنّة جاء كعقاب له على خطيئة اقترفها.
وهذا التفكير سطحي للغاية، إذ إنّ الله تعالى خلق هذه الدنيا لتتشرّف بعمارة الإنسان الكامل وخلافته عليها. وهو سبحانه زوّده بآليّات هذه الخلافة وأساليبها، وأودعه حقّ الاختيار الذي نشأ عنه أنّ بعض البشر حادوا عن أصل فطرتهم وتوجّهوا إلى الشرّ، إلّا أنّ أصل هذه الخلقة وهذا التكليف هو تشريف من الله للإنسان. وأنّ آدم (ع) خُلق من أجل أن يهبط إلى الأرض فيعمرها بالخير، لذا كان جواب الله للملائكة حين استهجنوا هذا المخلوق، وتحسسّوا قدرته على سفك الدماء أن قال: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[3].
هذا الحبّ الإلهي الذي أودعه الله في قلب البشر له سبحانه كفيل أن تتجرّد هذه النفس الإنسانيّة بتوجّهها إلى الواحد البسيط الذي لا يشوبه النقص، ولا يعتريه الفقر بأن ينشئ الإنسان نفسًا ومجتمعًا حاضرًا ليكون في غاية البساطة، وهذا هو منهج الإمام الخميني (قده) الذي هو بدوره منهج الإنسان الكامل والحقيقة المحمّدية الخالصة البسيطة غاية البساطة وصرافتها وسماحتها المتّصلة بالمطلق الذي لا حدّ له ولا رسم.
وهذا هو عرفان الخميني (قده). الأصل فيه التوحيد في العبادة والخالقية والرازقيّة. ولأنّ الرازق هو الباري الأحد، فلا شيء يملكه الإنسان بمعزل عنه سبحانه. ولأنّ الله هو المالك الحقيقي لكلّ شيء، وهو الذي يعطي دون منّ، فعلى الإنسان السالك، بحسب منهج الإمام الخميني (قده)، أن يكون خادمًا في المجتمع الذي يفترض أن يكون صورة وتجلٍّ عن تجلّيات أخلاق الباري تعالى، فأعلن (قده) أنّ خدمة الناس هي شرف لارتباط هذا الشرف بشرف الخلافة التي أودعها الله في الإنسان؛ “لا أعلم عملًا عند الله هو أفضل من خدمة الناس”.
فلا يرى الإنسان لنفسه فضلًا حين يسدي إلى الآخرين بعضًا من الخدمات، فهي وسيلة للتقرّب إلى الله، ولا يوجد وسيلة أسرع منها إلى ذلك، وخاصّة ما كان ينفعهم ويعينهم على عبادته تعالى وشكره.
كما كلّ شيء مرتبط بهذا الهدف، وبقدر ما يرتبط الفرد بالبسيط الصِرف بقدر ما يكون التجرّد في الممارسات العمليّة أشدّ وأعمق. ولا يعني ذلك أن يعزف المرء عن ملذّات الحياة، ويعتكف عنها. فليس المطلوب أن يحرم المرء نفسه بما حلّل له الله.
يمكن للإنسان أن يأخذ من الزاد ما شاء له من عطاء الله، ولكن على نحو من منهج البساطة. والبساطة في ذلك هو التزوّد بالقدر الذي يحتاجه؛ في المأكل من الحلال ما يعينه على سدّ حاجة الجوع والعطش دون شرهٍ أو طمع. وفي الشهوة، يطفئ ذلك بالزواج والإنجاب بما يعينه على هدف استمرار هذه الحياة للخير والصلاح، وعلى هذا يرسم مسار حياته. والتزوّد بالحاجات الغريزيّة التي فطر الله الإنسان عليها واجب وهي حاجات طبيعيّة لزوم تكوين الإنسان، مضافًا إلى ذلك أنّها تعينه في مساره التكاملي؛ “وما الزهد في الدنيا إلّا من أجل الآخرة”[4].
ولأنّ البسيط الصِرف لا يتحمّل دخول الأغيار كان لا بدّ للسالك أيضًا في منهج الإمام الخميني (قده) أن لا يُدخل حرم قلبه سوى الباري تعالى؛ فـ”لا تكن محبًّا لنفسك، سلّم إرادتك للحق تعالى، فإنّ الذات المقدّسة يتفضّل عليك بجعلك مظهرًا لإرادته، ويجعلك متصرّفًا في كافّة الأمور، ويخضع لقدرتك مملكة الإيجاد”[5]. كما يتقلّب بين الخوف والرجاء؛ بين خوف من البعد عن الله، وانقطاع رابطة القرب منه، ورجاء في لطف ورحمة الباري التي تقبل المذنبين.
البساطة والتجرّد أمران متلازمان؛ البساطة بمعنى الخلوص والنقاء، والتجرّد بمعنى مشابهة الحقّ تعالى ومسانخته، وكلّما اقترب المرء من مصدر النور الحقيقي ناله من ذلك النور ومضًا نقيًّا. ومع كثرة التصاق الإنسان وقربه من ذلك النور يصبحان متآلفان على نحوٍ يكون المعلول دالًّا على العلّة بصفات تلك العلّة، وليس فقط على نحو من التسلسل المنطقي والفلسفي بأنّ المعلول عقلًا يدلّ على العلّة، بل على نحو مشابهته له، وعلى نحوٍ يكون فيه القرب من ذلك المعلول البسيط القريب هو قربٌ من العلّة التامّة الأصيلة، تمامًا كما أنّ التقرّب من الإنسان الكامل المعصوم هو بعينه قرب من الباري تعالى.
[1] الإمام الخميني، التوحيد في كلام الإمام الخميني، إعداد السيدة فروغ السادات رحيم بور، ترجمة وتعريب الشيخ العبيدان الأحسائي (قم المقدّسة: دار الكرامة للطباعة والنشر، الطبعة 1، 2013)، الصفحة 8.
[2] المصدر نفسه.
[3] سورة البقرة، الآية 30.
[4] الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، تعريب محمّد الغروي (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، الطبعة 9، 2014)، الصفحة 275.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 73.
المقالات المرتبطة
مشاريع فكرية 13 | الدكتور غلام رضا أعواني
شرع في الدروس الابتدائية والمتوسّطة في مسقط رأسه، ثم أتمّ البكالوريوس في قسم الفلسفة عام 1967 م في الجامعة الأمريكية في بيروت، والماجستير عام 1969 م في جامعة طهران
المهدوية في التراث الديني للشعوب
إنّ تطلّع البشرية نحو المنقذ والمصلح العالمي الذي سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد ما ملئت ظلمًا وجورًا، ظاهرة عامة عند جميع أو معظم الشعوب، وهي أطروحة آمن بها أهل الأديان، وآمن بها من لا يؤمن بالدين والغيب.
القيّوميّة الإسلاميّة بين السياسة والعبادة
تقوم الرسالة الإسلاميّة على أصل مركزيّ بأن لعمارتها العباديّة والأخلاقيّة والشرعيّة، بل وعمارتها المعرفيّة أيضًا. وهذا الأصل هو التوحيد باعتباره العقيديّ والقيميّ المؤسِّس لإنسان الرسالة الوحيانيّة.