عبد الله بن سبأ (بين الأسطوريّة وتضخيم الدور)

عبد الله بن سبأ  (بين الأسطوريّة وتضخيم الدور)

مقدّمة:

يُعتبر عبد الله بن سبأ من أكثر الشخصيّات غموضًا وجدليّةً في التاريخ الإسلامي، وتتراوح الأقوال فيه ما بين نافٍ لوجوده أصلًا ومعتبرًا له من الشخصيّات الأسطوريّة، وما بين ناسبٍ له أعمالًا عظيمة لا يمكن أن يقوم بها إلا عبقري من طراز فذ، فهو لا بدّ أن يكون ذا عيون مغناطيسية تكسر الصخور، أو ذا قوه نفسية خارقة تجعل الناس أمامه كالغنم يتأثرون بأقواله من حيث لا يشعرون كما يقول الدكتور علي الوردي في كتابه وعّاظ السلاطين[1].

كما أنّ البعض ذهب إلى حدّ وصفه بأنّه بطلٌ يخوض غمار الأهوال ويتحمّل متاعب الانتقال ومشقة الأسفار، فمن المدينة إلى مكة ومنها للبصرة ثم الكوفة فالشام، ثم يجوب البراري ويقطع القفار فلا يخلو منه مكان فهو كالموج الساحر أو البرق الخاطف.

يستمرّ التناقض في وصف هذه الشخصيّة ودورها فتارةً هو داعية إلحاد وشركٍ يضلّل الناس بآرائه ويسمّم العقول، وتارةً أخرى يدعو إلى المباديء اليهودية والعقائد الزرادشتية[2].

إلّا أنّ الكلام المشهور فيه أنّه يهوديٌّ من اليمن، يُطلق عليه ابن السوداء أسلم في عهد عثمان بن عفان، وينسب إليه أغلب الأحداث التي حصلت في عهد عثمان من تحريضٍ عليه وصولًا إلى قتله.

  1. رأي علماء السنّة.

إنّ البعض من علماء السنّة جعله مؤسّسًا لفرقة السبئيّة التي انبثق عنها التشيّع وجعله مؤسّسًا لفكرة الرجعة، ومبدأ لعن الخلفاء، وصولًا إلى من ينسب له كلّ ما حدث من أحداث الفتنة في صدر الإسلام من مقتل عثمان إلى معركة الجمل وغيرها، كالشيخ سلمان العودة في كتابه (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة التي حصلت في صدر الإسلام).

كذلك، وللأسف نجد نفس هذا الكلام أو قريبًا منه عند بعض الباحثين المنصفين في قضايا أخرى كالشيخ محمد أبو زهو، والدكتور محمد أبو زهرة، يقول الأوّل: “ويقيني أن التشيع كان ستارًا، احتجب وراءه كثير من أعداء الإسلام من الفرس، واليهود، والروم، وغيرهم ليكيدوا لهذا الدين، ويقلبوا نظام هذه الدولة الإسلامية… ثمّ يقول وأصل هذه الفتنة على ما ذكر المؤرخون، رجل يهودي يدعى عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام، وغلا في حب علي، حتى زعم أن الله تعالى حلّ فيه، وأخذ يؤلّب الناس على عثمان رضي الله عنه، ومن هذه الأصول الملعونة -على حد تعبير ابن حزم- حدثت طائفتا الإسماعيلية، والقرامطة اللتان تجاهران بترك الإسلام جملة، وتقولان بالمجوسية المحضة”[3].

هذه بشكلٍ عام وجهة نظر بعض الباحثين، والملاحظ على آرائهم أنّهم حاولوا إلصاق كلّ هذه الأساطير بهذه الشخصيّة من دون التدقيق في وجودها أصلًا، وفي الروايات التاريخيّة التي تتحدّث عنها وأسانيدها ورواتها، فهل هم ممّن يُستَنَد إلى رواياتهم أمّ من الضعفاء الوضّاعين؟ ليصلوا إلى نتيجة مفادها أنّ التشيّع نشأ على يدّ يهوديّ أسلم، وأنّه الأصل في كثير من عقائد الشيعة.

أمّا المنصفون من الكتّاب والمفكّرين السنّة وبعض المستشرقين فيقولون عكس ذلك، وقد لفتهم عدّة أمورٍ منها:

  1. الاختلاف في أنه هو ابن السوداء أم لا مع أن الذي قام بكل المصائب هو ابن السوداء،حيث ذهب بعض علماء السنّة كالإسفرايني إلى أنّ ابن السوداء شخص آخر شارك عبد الله بن سبأ بمقالته.
  2. الاختلاف في وقت ظهوره؛ فالطبري وجماعة يصرّحون بأنه ظهر أيام عثمان، بينما يذهب جماعة آخرون إلى أنه ظهر أيام علي(ع) أو بعد موته، ومن هؤلاء سعد بن عبد الله الأشعري القمّي في كتابه المقالات[4].
  3. إنّ رواية عبد الله بن سبأ رواها الوضّاعون الكذّابون، وما يساعد على أنَّ الرواية موضوعة أنها ليست الوحيدة التي وُضِعت ضدَّ الشيعة.
  4. ذُكر في كتب بعض علماء الشيعة وجوده كرجال الكشّي مثلًا، لكنّه يذكره ضمن حديثه عن الغلاة، وأنّه كانت له فرقة تنسب إلى الغلو، وقد ادَّعوا في الإمام علي(ع) الألوهيّة، فأحرقهم بالنار، وانتهى أمر ابن سبأ ولم يثبت له دورًا أكثر من ذلك، بل إنّ بعض المستشرقين مثل “ولهوزن” في كتابه (الدولة الأمويّة وسقوطها) يعتبره شخصيةً مختلقةً ولا حقيقة لها، وأنَّ ابن السوداء هو في الحقيقة عمار بن ياسر (الذي كان يشتمه الأمويون وقريش بعبارة ابن السوداء معيرين إياه بسواد أمه سميّة).

وسوف أعرض الآراء البارزة لهؤلاء المفكّرين:

  1. رأي طه حسين: “إنّ أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلّفًا منحولًا قد اخترع حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، فأراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول المذهب عنصرًا يهوديًّا إمعانًا في الكيد لهم والنيل منهم”. ثمّ يعرض ستّة أدلّة على قوله، أهمّها:

أ. إنّ كل المؤرخين الثقاة لم يشيروا إلى قصة عبد الله بن سبأ ولم يذكروا عنها شيئًا.

ب. إنَّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر وهو رجل معلوم الكذب، ومقطوع بأنه وضاع.

ج. إنَّ الأمور التي أسندت إلى عبد الله بن سبأ تستلزم معجزات خارقة لفرد عادي، كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبد الله بن سبأ وسخّرهم لمآربه وهم ينفذون أهدافه بدون اعتراض، في منتهى البلاهة والسخف[5].

  1. رأي المؤرّخ السوري سهيل زكّار: قال الدكتور الأستاذ سهيل زكار: “المرجح أن ابن سبأ لم يوجد بالمرّة بل هو شخصية مخترعة”[6].
  2. رأي الدكتور عبد العزيز الهلابي؛ الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض: “الذي نخلص إليه في بحثنا هذا أن ابن سبأ شخصية وهمية لم يكن لها وجود، فإن وجد شخص بهذا الاسم فمن المؤكد أنه لم يقم بالدور الذي أسنده إليه سيف وأصحاب كتب الفرق، لا من الناحية السياسية ولا من ناحية العقيدة”[7].
  3. رأي علماء الشيعة.
  4. شخصيّة وهميّة أسطوريّة كما يقول السيّد مرتضى العسكري في كتابه (عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى).
  5. شخصيّة موجودة ولكن نسبت لها كثير من الأساطير والخرافات والخيالات، خاصة أنّ الناقل لقصّته اثنان:

أ. سيف بن عمر الكذّاب الوضّاع ساقط الرواية، بل المتّهم بالزندقة عند أهمّ رجاليي السنّة، حيث يقول ابن حبّان بأنّه كان يروي الموضوعات، ويضع الحديث وقد اتهم بـ الزندقة، كما يقول عنه الحاكم النيسابوري إنه بالرواية ساقط، ويقول عنه ابن معين ضعيف الحديث ليس فيه خير[8].

ب. السرّي بن يحيى كما يسمّيه الطبري، وهو ليس بالسري بن يحيى الثقة، لأن السري بن يحيى الثقة يكون زمانه أقدم من الطبري فقد توفي سنة 167 ه،‍ في حين ولد الطبري سنة 224 هـ، فالفرق بينهما سبعة وخمسون عامًا، ولا يوجد عند الرواة سري بن يحيى غيره، ولذلك يفترض أهل الجرح والتعديل أن السري الذي يروي عنه الطبري يجب أن يكون واحدًا من اثنين، كل منهما كذاب، وهما: السري بن إسماعيل الهمداني الكوفي وهو أولهما، وثانيهما السري ابن عاصم الهمداني، نزيل بغداد المتوفى سنة 258 هـ، الذي أدرك ابن جرير الطبري وعاصره أكثر من ثلاثين عامًا.

وكل من هذين قد كذّبه أهل الحديث واتهموه بالوضع؛ فقد كذبهما ابن حجر في تهذيب التهذيب، والذهبي في ميزان الاعتدال.

  1. يوجد شخصان: الأوّل أسطوري؛ وهو ابن السوداء اليهودي الذي أسلم، ونُسِبت له كلّ هذه الأفعال، والثاني: موجود وهو المغالي الذي قتله الإمام علي (ع) كما في الروايات الشيعيّة، وهو ما لا يستبعده السيّد جعفر مرتضى العاملي[9]، باعتبار أنّ هناك شخصية تحمل هذا الاسم (عبد الله بن سبأ) تعرّضت لها الرّوايات الشيعية، ولم تذكر عنها شيئًا مما ذكره الطبري في تاريخه سوى أنه غالى في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فادّعى له الربوبية ولنفسه النبوة، فعرض عليه أمير المؤمنين التوبة فلم يفعل فأحرقه بالنار.

فقد روى الكشّي في رجاله بسنده عن هشام بن سالم أنه قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول وهو يحدث أصحابه بحديث ابن سبأ، وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فقال: “إنّه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين (ع) فلم يتب فأبى أن يتوب فأحرقه بالنّار”[10]. ويروي أيضًا بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال: “قال علي بن الحسين: لعن الله من كذب علينا، إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادّعى أمرًا عظيمًا ما له لعنه الله، كان علي (ع) والله عبدًا صالحًا، أخو رسول الله، ما نال الكرامة من الله إلاّ بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله (ص) الكرامة من الله إلاّ بطاعته الله”[11].

الخاتمة

بعد أن استعرضت أهمّ الآراء في هذه الشخصيّة الإشكاليّة في هذه المقالة المقتضبة، يمكن القول كخلاصة بأنّه كيف يمكن أن يقبل الباحث المنصف بنسبة مذهبٍ بكامله إلى هذا الشخص المختلف في وجوده أصلًا، مع أنّنا  لا نجد حديثًا واحدًا مرويًّا عنه  في كتب الإمامية، ولا قولًا له منقولًا فيها، ولا سيرة له متبعة، ولا فتوى له معمولًا بها، ولا شيئًا في المذهب يمت إليه بصلة، ولو كان مذهب الشيعة صنيعة عبد الله بن سبأ لكانت آثاره في مذهبهم لائحة، وأخباره جلية واضحة، ولكانت أقواله منقولة، وفتاواه مدونة، وآراؤه في الفروع والأصول في كتبهم ومصنفاتهم مبثوثة، فإذا لم يكن شيء من ذلك فكيف يصح نسبة مذهبهم إليه[12].

 

[1]  الوردي، علي، وعّاظ السلاطين، (لبنان: دار الورّاق، 2017م)، الصفحة11.

[2] راجع، حيدر، أسد، عبد الله بن سبأ من منظورٍ آخر، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الصفحة 13 وما بعدها.

[3] أبو زهو، محمد، الحديث والمحدّثون، الصفحة 82.

[4] الأشعري، سعد بن عبد الله القمّي، المقالات والفرق، الصفحة 15.

[5] حسين، طه، علي وبنوه، الصفحة 518.

[6] زكّار، سهيل محقق كتاب “المنتظم لابن الجوزي” في المجلد الثالث من المنتظم، هامش صفحة 302.

[7] الهلّابي، عبد العزيز، عبد الله بن سبأ، الصفحة 26.

[8] راجع الضعفاء للنسائي، الصفحة 50، تهذيب التهذيب، الجزء 4، الصفحة 259.

[9]  تحدّث عن ذلك في أحد أجوبته على أسئلة مركز الإشعاع الإسلامي حول عبد الله بن سبأ وحقيقته.

[10]  الكشّي، اختيار معرفة الرجال، الجزء1، الصفحة 324.

[11]  اختيار معرفة الرجال، الجزء1، مصدر سابق، الصفحة 323.

[12]  راجع، عبد الله بن سبأ دراسة وتحليل، الشيخ علي آل محسن، الصفحة 138.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
عبد الله بن سبأ

المقالات المرتبطة

القربان

المشهد: أرض قاحلة كل ما فيها يوحي بالغربة والظلمة والموت، حرارة الشمس، صحراء، أجساد مقطّعة، وامرأة تمشي بوقار باحثة عن مقصد هو محجتها.

المبعث النبوي بداية للحياة الطيبة

إنّه نداء السماء إلى من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أودنى، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[1]. إنها رحمة الشمولية العامة لكل الوجود، وعليه أن يصدع بما يؤمر، والحرص على نشر هذه الرسالة العالمية التي تهدف إلى صناعة الإنسان، بل إلى صناعة الوجود وإيصاله إلى كماله المنشود.

ما الفلسفة؟

الفلسفة، في نظر دولوز، هي فنّ اختراع الأفاهيم وابتكارها وصنعها، أو هي بالأحرى فنّ إبداع الأفاهيم. والأفهوم هو فعل فكريّ محض

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<