by الشيخ علي كريّم | يونيو 11, 2021 5:02 ص
مقدّمة:
يُعتبر عبد الله بن سبأ من أكثر الشخصيّات غموضًا وجدليّةً في التاريخ الإسلامي، وتتراوح الأقوال فيه ما بين نافٍ لوجوده أصلًا ومعتبرًا له من الشخصيّات الأسطوريّة، وما بين ناسبٍ له أعمالًا عظيمة لا يمكن أن يقوم بها إلا عبقري من طراز فذ، فهو لا بدّ أن يكون ذا عيون مغناطيسية تكسر الصخور، أو ذا قوه نفسية خارقة تجعل الناس أمامه كالغنم يتأثرون بأقواله من حيث لا يشعرون كما يقول الدكتور علي الوردي في كتابه وعّاظ السلاطين[1][1].
كما أنّ البعض ذهب إلى حدّ وصفه بأنّه بطلٌ يخوض غمار الأهوال ويتحمّل متاعب الانتقال ومشقة الأسفار، فمن المدينة إلى مكة ومنها للبصرة ثم الكوفة فالشام، ثم يجوب البراري ويقطع القفار فلا يخلو منه مكان فهو كالموج الساحر أو البرق الخاطف.
يستمرّ التناقض في وصف هذه الشخصيّة ودورها فتارةً هو داعية إلحاد وشركٍ يضلّل الناس بآرائه ويسمّم العقول، وتارةً أخرى يدعو إلى المباديء اليهودية والعقائد الزرادشتية[2][2].
إلّا أنّ الكلام المشهور فيه أنّه يهوديٌّ من اليمن، يُطلق عليه ابن السوداء أسلم في عهد عثمان بن عفان، وينسب إليه أغلب الأحداث التي حصلت في عهد عثمان من تحريضٍ عليه وصولًا إلى قتله.
إنّ البعض من علماء السنّة جعله مؤسّسًا لفرقة السبئيّة التي انبثق عنها التشيّع وجعله مؤسّسًا لفكرة الرجعة، ومبدأ لعن الخلفاء، وصولًا إلى من ينسب له كلّ ما حدث من أحداث الفتنة في صدر الإسلام من مقتل عثمان إلى معركة الجمل وغيرها، كالشيخ سلمان العودة في كتابه (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة التي حصلت في صدر الإسلام).
كذلك، وللأسف نجد نفس هذا الكلام أو قريبًا منه عند بعض الباحثين المنصفين في قضايا أخرى كالشيخ محمد أبو زهو، والدكتور محمد أبو زهرة، يقول الأوّل: “ويقيني أن التشيع كان ستارًا، احتجب وراءه كثير من أعداء الإسلام من الفرس، واليهود، والروم، وغيرهم ليكيدوا لهذا الدين، ويقلبوا نظام هذه الدولة الإسلامية… ثمّ يقول وأصل هذه الفتنة على ما ذكر المؤرخون، رجل يهودي يدعى عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام، وغلا في حب علي، حتى زعم أن الله تعالى حلّ فيه، وأخذ يؤلّب الناس على عثمان رضي الله عنه، ومن هذه الأصول الملعونة -على حد تعبير ابن حزم- حدثت طائفتا الإسماعيلية، والقرامطة اللتان تجاهران بترك الإسلام جملة، وتقولان بالمجوسية المحضة”[3][3].
هذه بشكلٍ عام وجهة نظر بعض الباحثين، والملاحظ على آرائهم أنّهم حاولوا إلصاق كلّ هذه الأساطير بهذه الشخصيّة من دون التدقيق في وجودها أصلًا، وفي الروايات التاريخيّة التي تتحدّث عنها وأسانيدها ورواتها، فهل هم ممّن يُستَنَد إلى رواياتهم أمّ من الضعفاء الوضّاعين؟ ليصلوا إلى نتيجة مفادها أنّ التشيّع نشأ على يدّ يهوديّ أسلم، وأنّه الأصل في كثير من عقائد الشيعة.
أمّا المنصفون من الكتّاب والمفكّرين السنّة وبعض المستشرقين فيقولون عكس ذلك، وقد لفتهم عدّة أمورٍ منها:
وسوف أعرض الآراء البارزة لهؤلاء المفكّرين:
أ. إنّ كل المؤرخين الثقاة لم يشيروا إلى قصة عبد الله بن سبأ ولم يذكروا عنها شيئًا.
ب. إنَّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر وهو رجل معلوم الكذب، ومقطوع بأنه وضاع.
ج. إنَّ الأمور التي أسندت إلى عبد الله بن سبأ تستلزم معجزات خارقة لفرد عادي، كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبد الله بن سبأ وسخّرهم لمآربه وهم ينفذون أهدافه بدون اعتراض، في منتهى البلاهة والسخف[5][5].
أ. سيف بن عمر الكذّاب الوضّاع ساقط الرواية، بل المتّهم بالزندقة عند أهمّ رجاليي السنّة، حيث يقول ابن حبّان بأنّه كان يروي الموضوعات، ويضع الحديث وقد اتهم بـ الزندقة، كما يقول عنه الحاكم النيسابوري إنه بالرواية ساقط، ويقول عنه ابن معين ضعيف الحديث ليس فيه خير[8][8].
ب. السرّي بن يحيى كما يسمّيه الطبري، وهو ليس بالسري بن يحيى الثقة، لأن السري بن يحيى الثقة يكون زمانه أقدم من الطبري فقد توفي سنة 167 ه، في حين ولد الطبري سنة 224 هـ، فالفرق بينهما سبعة وخمسون عامًا، ولا يوجد عند الرواة سري بن يحيى غيره، ولذلك يفترض أهل الجرح والتعديل أن السري الذي يروي عنه الطبري يجب أن يكون واحدًا من اثنين، كل منهما كذاب، وهما: السري بن إسماعيل الهمداني الكوفي وهو أولهما، وثانيهما السري ابن عاصم الهمداني، نزيل بغداد المتوفى سنة 258 هـ، الذي أدرك ابن جرير الطبري وعاصره أكثر من ثلاثين عامًا.
وكل من هذين قد كذّبه أهل الحديث واتهموه بالوضع؛ فقد كذبهما ابن حجر في تهذيب التهذيب، والذهبي في ميزان الاعتدال.
فقد روى الكشّي في رجاله بسنده عن هشام بن سالم أنه قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول وهو يحدث أصحابه بحديث ابن سبأ، وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فقال: “إنّه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين (ع) فلم يتب فأبى أن يتوب فأحرقه بالنّار”[10][10]. ويروي أيضًا بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال: “قال علي بن الحسين: لعن الله من كذب علينا، إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادّعى أمرًا عظيمًا ما له لعنه الله، كان علي (ع) والله عبدًا صالحًا، أخو رسول الله، ما نال الكرامة من الله إلاّ بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله (ص) الكرامة من الله إلاّ بطاعته الله”[11][11].
الخاتمة
بعد أن استعرضت أهمّ الآراء في هذه الشخصيّة الإشكاليّة في هذه المقالة المقتضبة، يمكن القول كخلاصة بأنّه كيف يمكن أن يقبل الباحث المنصف بنسبة مذهبٍ بكامله إلى هذا الشخص المختلف في وجوده أصلًا، مع أنّنا لا نجد حديثًا واحدًا مرويًّا عنه في كتب الإمامية، ولا قولًا له منقولًا فيها، ولا سيرة له متبعة، ولا فتوى له معمولًا بها، ولا شيئًا في المذهب يمت إليه بصلة، ولو كان مذهب الشيعة صنيعة عبد الله بن سبأ لكانت آثاره في مذهبهم لائحة، وأخباره جلية واضحة، ولكانت أقواله منقولة، وفتاواه مدونة، وآراؤه في الفروع والأصول في كتبهم ومصنفاتهم مبثوثة، فإذا لم يكن شيء من ذلك فكيف يصح نسبة مذهبهم إليه[12][12].
[1][13] الوردي، علي، وعّاظ السلاطين، (لبنان: دار الورّاق، 2017م)، الصفحة11.
[2][14] راجع، حيدر، أسد، عبد الله بن سبأ من منظورٍ آخر، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الصفحة 13 وما بعدها.
[3][15] أبو زهو، محمد، الحديث والمحدّثون، الصفحة 82.
[4][16] الأشعري، سعد بن عبد الله القمّي، المقالات والفرق، الصفحة 15.
[5][17] حسين، طه، علي وبنوه، الصفحة 518.
[6][18] زكّار، سهيل محقق كتاب “المنتظم لابن الجوزي” في المجلد الثالث من المنتظم، هامش صفحة 302.
[7][19] الهلّابي، عبد العزيز، عبد الله بن سبأ، الصفحة 26.
[8][20] راجع الضعفاء للنسائي، الصفحة 50، تهذيب التهذيب، الجزء 4، الصفحة 259.
[9][21] تحدّث عن ذلك في أحد أجوبته على أسئلة مركز الإشعاع الإسلامي حول عبد الله بن سبأ وحقيقته.
[10][22] الكشّي، اختيار معرفة الرجال، الجزء1، الصفحة 324.
[11][23] اختيار معرفة الرجال، الجزء1، مصدر سابق، الصفحة 323.
[12][24] راجع، عبد الله بن سبأ دراسة وتحليل، الشيخ علي آل محسن، الصفحة 138.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13117/abdallahbensabaa/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.