الحضور المعرفي في النظرية الإسلامية المعاصرة (2)

الحضور المعرفي في النظرية الإسلامية المعاصرة (2)

مهما يكن من شأن الأعمال التي قد أقوم بها، فإن شيئًا لا يمكن أن يتطرق إليه الشك أبدًا، وهو إدراكي أن هذه الأفعال صادرة عني، وكذلك إدراكي لما أعيشه من حالات نفسية حين تكون النفس مسرحًا لكثير من الأحوال والأفعال كالجوع والخوف والتردّد والشك واليقين … والأهم من كل ذلك هو إدراكي بأن هذه الإدراكات ما كانت لتحصل لي لولا إدراكي لذاتي. فالمحور الأساس في كل هذه الإدراكات هو إدراك الذات لذاتها، ولولا إدراك الذات لذاتها لما حصلت لها أية إدراكات أخرى.

وقديمًا قيل: إن ما بالغير لا بدّ أن يرجع إلى ما بالذات، وأن ما بالغير يعلّل، وأما ما بالذات فلا يعلّل، فإذا انتهى الأمر إلى ما بالذات انقطع السؤال. ومع الفلاسفة المتأخرين سوف يتضح الأمر أكثر على الصعيد المعرفي حيث يتم إرجاع العلوم الحصولية إلى العلم الحضوري بالذات.

ويبدو أن الفيض الفلسفي للعرفاء قد ساهم بدرجة كبيرة في تنقيح مسألة العلم الحضوري، ففي مقام بيان الإدراك الذاتي يدرك الإنسان بأنه لا يتخذ موقفًا من الأشياء، أو يصدر قرارًا بشأنها، إلا بعد انكشاف هذه الأشياء في نفسه. بل إن الإنسان لا يتحرك نحو الشيء إلا بعد العلم بنفعه فيجلبه، أو ضره فيدفعه، فهو لا يستظل برأي أحد إلا بعد انكشافه له في نفسه.

مهما يكن، فإن ما انتهى إليه النظر العرفاني هو أنه ليس لنا من معرفة الشيء إلا بمقدار ما فينا منه. أي ما يدخل منه في حوزة النفس وإدراكها. ولهذا كان الجهد العرفاني منصبًا في مجمله على قضية استجلاء النفس بما تختزنه من دلالة وجودية عميقة كمرحلة لتجاوز الذات؛ من عرف نفسه عرف ربه.

وهكذا في الجانب المعرفي، إذ يتجلى العلم الحضوري أكثر ما يتجلى من خلال إدراك النفس لذاتها. أي وجدانها لذاتها. من هنا، تفتق العلم الحضوري للنفس عن دلالات فلسفية متضمنة في طيات النصوص المبكرة لفلاسفة من أمثال ابن سينا وشيخ الإشراق والملا صدرا الشيرازي، وتوزعت دلالات هذا العلم – على الترتيب – باعتباره نحوًا من الانبثاق الداخلي، أو الإشراق النفسي، ومن ثم كنمط من أنماط الوجود الخاص.

ومنذ أن عرض صدر الدين الشيرازي للمعرفة الحضورية على مستوى الوجود، تنبّه المتأخرون إلى الأبعاد المعرفية التي يمكن أن تفصح عنها هذه المعرفة، وما يترتب على ذلك من تحولات على صعيد استثمار العلم الحضوري من مستوى الإشراق والعرفان إلى مستوى البناء المعرفي وعلى كافة الصعد.

المعرفة انبثاق داخلي

لم يقع هذا المقدار من العلم موضع تشكيك أي من الفلاسفة الأوائل، إذ يقرر ابن سينا أن “إدراكي لذاتي هو مقدّم لي لا حاصل له من اعتبار شيء آخر. فإني إذا قلت: فعلت كذا، فقد عبّرت عن إدراكي لذاتي؛ وإلاّ فمن أين أعلم أنّي فعلت كذا، لولا أني اعتبرت ذاتي أوّلًا ثم اعتبرت فعلها، ولم أعتبر شيئًا أدركت به ذاتي؟! الذات تكون في كل حال حاضرة للذات لا يكون هناك ذهول عنها. ونفس وجودها هو نفس إدراكها لذاتها، فلا تحتاج إلى أن تدركها إذ هي مدركة وحاضرة لها ولا افتراق هناك، كما يكون من المدرِك والمدرَكّ”[1].

ولأن شعور الذات بذاتها لا يكون بتوسط شيء، بل هو نفس وجودها، فإن هذا النمط من الإدراك لا يكون إلا بنحو الفعلية الدائمة؛ فإن “الشعور بالذات يكون للنفس بالفعل فإنها تكون دائمة الشعور بذاتها … إدراكي لذاتي هو أمر يقوم لي، لا حاصل لي من اعتبار شيء آخر، فإني إذا قلت: فعلت كذا، فإني أعبّر عن إدراكي لذاتي، وإن كنت في غفلة عن شعوري بها، وإلا فمن أين يكون أعلم أني فعلت كذا … شعورنا بذاتنا هو نفس وجودنا. الشعور بالذات هو غريزي للذات، وهو نفس وجودها فلا تحتاج إلى شيء آخر من خارج ندرك به الذات، بل الذات هي التي ندرك بها ذاتها، فلا يصح أن تكون موجودة غير مشعور بها، على أن يكون الشاعر بها هو نفس ذاتها، لا شيء آخر”[2].

المعرفة إشراق نفسي

إن إدراك النفس لذاتها ليس بواسطة صورة، والسر في ذلك – كما يبين السهروردي – أن الصورة التي تكون وسيطًا في عملية الإدراك تقع دائمًا في مقام الهو، والنفس أبدًا في مقام الأنا، ولهذا السبب فإن إدراك الذات لذاتها لا يقع في مرتبة الهو أبدًا؛ لأن الهو زائد على الأنا وليس هو عينها. يقول السهروردي: “إنّ الصورة التي هي في النفس ليست بعينها هي هي، والمدرِك لذاته مدرِك لعين ما به أنانيته لا لأمر يطابقه، وكل صورة هي في المدرِك زائدة على ذاته هي بالنسبة إليه “هو” لا أن تكون له “أنا” فليس الإدراك بالصورة”[3].

ولهذا قد نتحفظ على ما يقال اليوم في بعض الفلسفات الغربية من أن معرفة الأنا لا بدّ أن تمر عبر الهو، حتى ولو اعتبرنا أن الهو المفترض في تلك الفلسفات لا يتجاوز الأنا؛ باعتبار أن الهو عبارة عن أناي الأخرى الذي يسهم في تشكيل الذات. إلا أن هذا المعنى خارج عن الموضوع المعرفي للذات والذي نحن بصدده هنا.

وإذا أردنا صياغة المطلب بنحو يتلاءم مع المقصود لنا في الجانب المعرفي، فلا بد من الالتفات إلى أن أي شيء هو في مقام الهو لا يمرر إلى الذات إلا من خلال صورة وسيطة بما هي صورة لشيء قابل للتعميم. وبتعبير السهروردي فإن “إدراك النفس لذاتها إن كان بالصورة فكل صورة تحصل في النفس فهي كلّية ولا يمتنع مطابقتها للكثرة، وإن أخذت أيضًا مجموع كلّيات تختصّ جملتها بشخص واحد من النفوس لا تخرج عن كونها كلّي. وكل إنسان يدرك ذاته على وجه، يمتنع فيه الشركة، فتعلّقه لذاته الجزئية لا يصحّ أن يكون بصورة أصلًا”[4].

أما نفس الصورة فقد تدركها الذات من خلال حدس معرفي بحيث يتم استكناه الصورة بما هي وجود من موجودات عالم النفس، بحيث يمكن استمزاجها بالأنا كحضور معرفي تشرف من خلاله النفس على عالمها الذاتي؛ ذلك أن “جميع ما تدركُه النفس يجب أن يقسّم إلى أقسام: أمّا الكلّيات، فبحضور الصورة لانطباعها في ذاتها. وأمّا الجزئيات: فإمّا بحضور ذواتها وإشراق للنفس، وإمّا بحصول صورتها في شيء حاضر للنفس يقع للنفس عليها إشراق، فتدرك النفس الجزئيات إمّا بحضورها لها أو بحضورها في أمر حاضر لها، كالصور الخيالية”[5].

والنتيجة التي يخلص إليها السهروردي هي، أنّ نفوسنا إذا أدركت ذاتها ليس إدراكها لها بصورة، وإنما هو بإشراق من النفس. والجديد مع شيخ الإشراق السهروردي هو هذا التحول الإشراقي والذي يتجاوز انكشاف النفس إلى انكشاف الأشياء.

وهذا التوسع في الإدراك الشفاف هو نتيجة إشراقة النفس في عالم التجرد، وأن النفس ليست من عالم الطبيعة إذ الطبيعة لا تعي ذاتها، وإنما الإدراك يقع في صقع النفس التي تعي نفسها بنفسها؛ وبحسب تعبير بعض العرفاء فإن لذعة الجوع لا تدركها “طبيعة” الجائع، بل تدركها أناه، وقد لا تدركها بسبب انشغالها وإن كانت الطبيعة تفعل مقتضاها. فالنفس خارجة عن أسر الطبيعة، داخلة في عالم الأمر والمشيئة.

وببركة هذا الإشراق، تتسع دائرة العلم الحضوري لتشمل مثل إدراك النفس للبدن وللوهم والخيال فضلًا عن علم المجرد بما سواه؛ “إنّ النفس تدرك بدنها وتدرك وهمها وخيالها، فإن كانت تدرك هذه الأشياء بصورة في ذاتها، وتلك الصورة هي كلّية – فالنفس محرّكة لبدن ومستعملة لقوة كلّية- وليس لها إدراك بدنها ولا إدراك قوى بدنها. وليس هذا بمستقيم”[6].

من هنا، كان علمنا بأحاسيسنا هو من نمط العلم الحضوري؛ “وممّا يؤكّد أن لنا إدراكات لا يحتاج فيها إلى صورة أخرى غير حضور ذات المدرَك: أنّ الإنسان يتألّم بتفريق الاتصال في عضو له ويشعر به، وليس بأنّ تفريق الاتصال يحصل له صورة أخرى في ذلك العضو أو في غيره، بل المدرَك نفس ذلك التفرّق، وهو المحسوس وبذاته الألم لا بصورة تحصل منه. فدلّ على أنّ من الأشياء المدركة ما يكفي في الإدراك حصول ذاتها للنفس أو لأمر له تعلّق حضوري خاصّ بالنفس”[7].

المعرفة كنمط من أنماط الوجود الخاص

وقد انتهى هذا الإرث الفلسفي والمعرفي إلى صدر الدين الشيرازي، والذي أرسى قسمة العلم إلى حصولي وحضوري بشكل نهائي؛ وهو يرى أن علم النفس بذاتها وبأحوالها وقواها هو من قسم العلم الحضوري[8].

والعلم في مستوى الوجود يمكن النظر إليه تارة من زاوية المعلوم بالذات؛ بما هو صورة حاضرة عند المدرَك، وتارة أخرى بمعنى حصول شيء عند المدرَك؛ “إنّ العلم قد يطلق على المعلوم بالذات الذي هو الصورة الحاضرة عند المدرك حضورًا حقيقيًّا أو حكميًّا، فالعلم والمعلوم على هذا الإطلاق متّحدان ذاتًا مختلفان اعتبارًا، وقد يطلق العلم على نفس حصول شيء عند القوّة المدركة أو ارتسامه فيها وهو المعنى الإضافي التجريدي الذي يشتقّ منه العالم والمعلوم وأمثالهما”[9].

إن العلم بمعنى حضور الصورة عند العقل يشبه في نسبته إلى المعلوم نسبة الوجود إلى الماهية؛ ذلك “أنّ العلم عبارة عن حضور صورة الأشياء عند العقل ونسبته إلى المعلوم كنسبة الوجود إلى الماهية، ووجود الشيء وماهيته متّحدتان ذاتًا متغايران اعتبارًا، وكذا العلم والمعلوم به أمر واحد بالذّات، متغاير بالاعتبار، وكما أنّ الوجود موجود بنفسه والماهية موجودة به، كذلك العلم معلوم بنفسه منكشف بذاته وغيره من المعلومات معلوم به”[10].

كما “إنّ ماهية العلم على ما يشهد به الحدس الصحيح، بل التتبّع والفحص البالغ وضرب من الاعتبار، يرجع إلى حقيقة الوجود الحاصلة للموجود المستقلّ في وجوده.. العلم هو حصول ماهية شيء لأمر مستقلّ في الوجود بنفسه أو بصورته حصولًا حقيقة أو حكميًّا”[11].

وبذلك انتهى صدر الدين الشيرازي إلى تأسيس القسمة العلمية بصورتها التي انتهت إليها على لسان الفلاسفة المتأخرين؛ وهي القسمة التي افترضها العمل على حلّ مشكلات معرفية ووجودية في مباحثه الفلسفية، ذلك “أنّ العلم بالشيء الواقعي قد يكون نفس وجوده العلمي نفس وجوده العيني كعلم المجرّدات بذواتها وعلم العلم بذاتها وبالصفات القائمة بذاتها وهكذا أفعالها النفسانية وأحكامها وأحاديثها النفسية، وقد يكون وجوده العلمي غير وجوده العيني كعلمنا بالأشياء الخارجة عن ذواتنا وذوات قوانا الإدراكية كالسماء والأرض والإنسان والفرس وغير ذلك ويقال له العلم الحادث والعلم الحصولي والإنفعالي”[12].

ويبقى أن نستشرف كيفية تلقف المتأخرين لهذا الإرث المعرفي، وكيفية استثماره على صعيد المعرفة نفسها.

 

 

[1]  ابن سينا، التعليقات، الصفحة 148.

[2]  المصدر نفسه، الصفحة 161.

[3]  شيخ الإشراق، مجموعة المصنّفات، الجزء1، الصفحة 484.

[4]  مجموعة المصنّفات، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 484.

[5]  المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 487.

[6]  مجموعة المصنّفات، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 484؛ الجزء2، الصفحة 111.

[7]  المصدر نفسه، الجزء1، الصفحة 485.

[8]  صدر الدين الشيرازي، رسالة في التصوّر والتصديق المطبوع مع جوهر النضيد، الصفحة307.

[9]  صدر الدين الشيرازي، المظاهر الإلهية، الصفحة 26.

[10]  رسالة في التصوّر والتصديق المطبوع في جوهر النضيد، مصدر سابق، الصفحة307.

[11]  صدر الدين الشيرازي، مفاتيح الغيب، الصفحة 108.

[12]  رسالة في التصور والتصديق المطبوع مع جوهر النضيد، مصدر سابق، الصفحة307، الأسفار، الجزء 6، الصفحة 161.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الفلسفة الاسلاميةالنظرية الإسلامية المعاصرة

المقالات المرتبطة

منهج التغيير لدى سيّد قطب

يقدّم الأستاذ هشام عليوان قراءةً في المنهج التغييري لدى سيد قطب، مستعرضًا وبشكل نقدي، التطور الفكري والمنهجي لقطب

العنف والعنف الرمزي

إنّ هذا النمط من العنف ليس أقل أهمية من العنف الجسدي، بل قد يكون العنف الأخير مجرد “مزحة” أمامه، لأنّه: “وإن لم يكن يمس حق الحياة لدى الفرد والجماعة.

قراءة في كتاب الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل: في دور الاجتهاد

في كتابه الجديد “الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل”، يرى السيد إلى دور الدين الإيجابي والفاعل والشمولي بعامة في المجتمع الإنساني المتسم بالتنوع، والذي هو “الوسيلة الفضلى للتعارف”، ويرفض مقولة “الدين أفيون الشعوب”، أو أنه يحافظ على الأوضاع القائمة من دون تغيير.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<