قراءة في كتاب: دستور الأخلاق في القرآن The Moral World of the Quran
تدوين: محمد عبد الله الدراز – ترجمة دانيل روبنسون وريبيكا ماسترتون
لندن: دار أي بي توريس عدد الصفحات: 396
ترجمة المراجعة: غدير سليم.
من أولى أعماله البارزة باللغة الإنجليزية هو مقدمة في القرآن[1]، والقرآن: تحدٍّ أبديٍّ[2]. ينطلق كلا الكتابان من الاعتقاد بأنّ القرآن عمل إعجازيّ فريد لا يمكن أن يكون إلا من تأليف الله، ويبيّنان هذا الاعتقاد. فيما يتفرّد الكتاب الثاني، في تركيزه على الأسلوب القرآني، بجمعه المزايا التي لا يمكن أن نجدها إلّا في الوحي الإلهي. ويقوم الكتاب الذي نستعرضه على الأساس عينه إلى حدٍّ ما؛ أنّ الدستور الأخلاقي القرآني مثالي من الجانبين النظريّ والعمليّ. فينجح بجدارة في ربط مبادئ وقوانين النظام الأخلاقي القرآني بتماسك وبإسهاب. كما أنّه يبيّن كيف أنّ الأخلاق “حفظت تراث الأسلاف ودعمته”، ووسعته “حين ضمت إليه فصولًا كاملة الجدة، رائعة التقدم، ختمت إلى الأبعد العمل الأخلاقي” (الدراز، 2005، ص 9).
يلفت الكتاب النظر نحو هذه الخصائص البارزة في الأخلاق القرآنية، بقوله: “نجد أن الأطر التي بينها القرآن صارمة ومرنة في آن. فمن حيث المضمون نجد أن وضوح كل قاعدة يوجِد نوعًا من الحجاز، يقف في مواجهة الفوضى، وجموح الهوى؛ ولكنها من حيث عدم تحديد هذا المضمون تترك لكل فرد حرية اختيار الشكل الذي يكيف في نطاقه مثله الأعلى؛ طبقًا للشروط التي تمليها التجربة، كما يختار الشكل الذي يوائم به بين الواجب العاجل والمقتضيات الأخرى التي تمليها الأخلاقية.[…]وبهذه الطريقة استطاعت الشريعة القرآنية أن تبلغ كملًا مزوجًا […] لطف في حزم، وتقدم في ثبات، وتنوّع في وحدة (ص 10 و11). هذا الأمر يذكرنا بسمة أخرى مدهشة في الشريعة القرآنية – لم يُسلّط الضّوء عليها في هذا العمل – وهي الجمع بين القانون والأخلاق.
ولقد اختتمت كلّ الآيات القرآنية ذات الصلة بالموضوع تقريبًا، وخصوصًا تلك التي تتحدث عن تشكيل العلاقات الاجتماعية والزوجية، ببعض المواعظ الأخلاقية المؤثرة والمنذرة. إليك التّوجيهات التّالية عن طريقة معاملة النّساء المطلّقات كمثال توضيحي ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا۟ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُۥ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓا۟ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ هُزُوًا ۚ وَٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾[3]. وفي مقطع آخر أكثر تأثيرًا، بحيث يثير حتى في قساة القلب شعورًا بالعطف والعدالة اتجاه الأيتام، وشعورًا بالخوف يوضع القرّاء أو المستمعون في المحنة عينها التي يعانيها الأيتام: ﴿وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا۟ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـٰفًا خَافُوا۟ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُوا۟ قَوْلًا سَدِيدًا﴾[4].
قدّم الدراز نظرية القرآن الأخلاقية تحت العناوين الرئيسة التالية: الإلزام (ص 21-134)، المسؤوليّة (ص 135- 242)، الجزاء (ص 243 – 417)، النية والدوافع (ص 419-581)، والجهد (ص 583 –688). وما يُثري هذا التوضيح للموقف القرآني تجاه المفاهيم والأبواب الأخلاقية الفلسفية هو التقييم المقارن مع آراء بعض المفكرين التقليديين والحديثين مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وكانط وبيرغسون وفوكونيت وفريديريك راوه. وفي نهاية الكلام المستفيض يختتم الدراز قائلًا: “لقد قدم لنا [القرآن] كل العناصر الضرورية،كيما تتكون لدينا فكرة دقيقة عن الطريقة التي ينبغي أن نتصور بها معنى الأخلاق من أين تأتي القاعدة الأخلاقية؟ وبأي الشروط تفرض نفسها؟ وما النتائج التي تترتب على موقفنا منها؟ وما المبدأ الذي يجب أن يلهم سلوكنا؟ وبأية وسيلة تُنال الفضيلة؟”. ويضيف استنتاج آخر ملفت توصل إليه، وهو أنّ القرآن يساعدنا في “التوفيق بين ’حرية‘ الفرد و’تنظيم‘، إرادته، […]تدعي الحرية الفردية إلى أن تمارس ذاتها في البحث عن درجات، تتزايد رفعة، ولكنها دائمًا متوافقة مع المقتضيات المحتلفة للحياة الأخلاقية”(ص 675 و 3-682).
ولا تقلّ أهميّة القسم الثّاني وميزته في عمل الدراز عما سبق، وعنوانه: “الأخلاق العملية: نصوص من القرآن” (ص 689-778). وهو اختيار ذكي ودقيق من الآيات القرآنية التي تُوجّه الإنسان بطرائق شتّى من حيث الأخلاق الشّخصية والعائلية والاجتماعية والدينية وأخلاق التعامل مع الدولة. فتتفوّق هذه المختارات على كثير من الأعمال الموجودة من هذا النوع، وذلك بسبب التّغطية الواسعة للمواد ذات الصّلة بالإضافة إلى العرض المنطقي والمتماسك وسهل القراءة. تنجح مختارات الدراز بجدارة في تقديم لمحة عامة شاملة حول الآداب والأخلاق القرآنية التي تشمل سلسلة كاملة من النشاطات والعلاقات والحقوق والمهمات البشرية.
وبطريقة ملائمة تمامًا، يشرح الدراز في خاتمة الكتاب (ص7– 345) الفضائل كما وردت في القرآن، التي تُميّز سلوك المسلم في حياته الفردية والجماعية.
تبرز الموارد الوفيرة في قسم “الملاحظات والمراجع” مؤهّلات العمل العلميّة، إلّا أنّ غياب السيرة الذاتية لكاتبه أمر غير مبرّر. ويجدر الثناء على جودة عمل مترجمي الكتاب ، تحديدًا على المستوى العالي في ترجماتهم لكثير من الآيات القرآنية.
عبد الرحيم كيداوي
جامعة عليكرة الإسلامية
[1] Introduction to the Quran (London I.B. Tauris, 2001)
[2] The Quran: An Eternal Challenge (Leicester: The Islamic Foundation, 2001).
[3] سورة البقرة، الآية 231.
[4] سورة النساء، الآية 9.
المقالات المرتبطة
صعوبات تحديد الدين
اصطدم المؤلفون، منذ القرن الثامن عشر ميلادي، عندما بدأت المحاولات الأولى لدراسة الدين دراسة علمية، بمشكلة تحديده، وهي مشكلة ستتعقد بقدر ترسّخ المذهب الإنسي الفلسفي
أيُّ “إسلامٍ”؟ استكشافُ المعاني الكثيرة للكلمة
عندما نبدأُ بمفهومِ الإسلامِ على أنَّه المصدرُ لكلِ الحقائقِ الأخرى يسهلُ علينا فهمُ سبب استخدام القرآنِ في بعضِ الأحيانِ كلمةَ “إسلام” لتعيينِ التسليمِ الجبريِّ الشامل لكلِّ شيءٍ في الكونِ
الإناسة وأثرها في السياسة الاجتماعية والنظرية السياسية في عصر النهضة
إن الموقف العالمي الحاضر، الذي يتميز أول ما يتميز بتصادم عنيف بين المذاهب الفكرية المتنافسة، ليجبر المفكّرين على أن يعيدوا تقرير آرائهم في الاعتقاد، وفي فلسفات الحياة، وهذا يصدق بوجه خاص على جملة الآراء المتعلقة بفهم الإنسان لنفسه