الفكر العربي الحديث والمعاصر | زكي نجيب محمود والوضعية – التسويغ والمصادر المعرفية (2)
هذا المفكّر الذي تبنّى الوضعية لم يستطع أن يصل إلى نتيجة من خلال النظرية التي تبناها، وهذا الأمر جعله يقول: “إنّني لم أقع على المفتاح الذي أفتح به الأبواب المغلقة، بل كثيرًا ما شكَكْتُ بأن يكون السؤال المطروح نفسه غير مشروع، وأنّ علّة الحيرة كلّها والاضطراب كلّه، هي أنّنا نسأل سؤالًا هو بطبيعته لا يحتمل الجواب”[1]، ولكن فجأة وجد الحل: “لقد وجدته في عبارة قرأتها نقلًا عن هربرت ريد، إذ وجدته يقول: إنّني لعلى علم بأنّ هنالك شيئًا اسمه التراث ولكن قيمته عندي هي في كونه مجموعة وسائل تقنية يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون بالنسبة إلى ما استحدثناه من طرائق جديدة”[2]، من هذا المنطلق يعود زكي نجيب محمود إلى التراث، ويحاول عبر التوفيق بينهما تجديد الفكر العربي – الإسلاميّ.
والتوفيق الذي دعا إليه زكي نجيب محمود، لا يقوم على فرضية استعادة الماضي، إنّما تحكمه آلية مختلفة ترتكز على أسس بعضها يتعلق بطبيعة حياة الإنسان المسلم، وبعضها يتناول تراثه وطريقة التعامل معه.
أ. طريقة حياة الإنسان العربي: وفي هذا المجال يعتبر زكي نجيب محمود أنّ طبيعة حياة الإنسان العربيّ تمنعه من تحقيق نهضة حقيقية، ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:
- احتكار الحاكم لحرية الرأي: وفي هذا المجال يعتبر أنّ مأساة العرب والمسلمين الحقيقية تتمثل في غياب حرية الفكر، وذلك بسبب اجتماع السيف والرأي في يد الحاكم، وهذا ما يعطي الحاكم القدرة على فرض رأيه على الآخرين، وهذا ما أدى إلى قتل أو تعذيب عدد كبير من المفكرين من أحمد بن حنبل إلى بشار بن برد إلى الحلاج، والحل بالنسبة إليه يكون بالفصل بين الحاكم ورأيه، بحيث لا يعيق سلطانه رأي الآخرين إن لم يوافقوه في رأيه وهو أمر يتطلّب الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الفكرية[3].
- سيطرة سلطان الماضي على الحاضر: فالأمة اعتادت على التلقين، حتى أصبحت لا تنتج إلا شروح وشروح على الشروح: “وما قالوه، وما أعادوه ألف ألف مرة، ولا أقول أنّهم أعادوه بصورة مختلفة، بل أعادوه بصورة واحدة تتكرر في مؤلّفات كثيرة. فكلّما مات مؤلّف، لبس ثوبه مؤلّف آخر، وأطلق على مؤلّفه اسمًا جديدًا؛ فظن أن الطعام يصبح أطعمة كثيرة إذا تعددت له الأسماء”[4].
- تعطيل قوانين الطبيعة بالكرامات: ويتمثل هذا الوجه بإيمان كافة شرائح الأمة بوجود شخصيات لها قدرات خارقة قادرة على تعطيل قوانين الطبيعة متى ارتأوا ذلك، وهذا عائق لا يمكن تجاوزه إلّا بالقضاء على العقلية القائمة على الّتفكير السحريّ والخرافيّ[5].
- إهمال القضايا المستجدة على العقل العربي: يهمل العقل العربيّ القضايا التي تعترضه، فيعيد إنتاج المادة المعرفية القديمة، وأبرز تلك القضايا:
*قضية الحرية: وهذه قضية لم يتعرف عليها السلف، خاصة على الصعيد السياسيّ، فالأمة بقيت محكومة: “فهناك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير: أخذ الحكم وراثة، أو أخذه عنوة، وفي كلتا الحالين لا يزحزحه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن، فلا الشعب اختار، ولا الشعب يملك حق العزل”[6].
*قضية المرأة: فالمرأة العربية أصبحت الآن تلعب أدوارًا، لم تكن تلعبها من قبل، بالتالي فلا بد من إعطائها الموقع الذي تستحقه[7].
*الدخول في عصر العلم: حيث لم يعد العلم مجرد كلام بكلام، إنّما انتقل ليتحول إلى الجانب التقني، حيث: “أصبحت أجهزة بالغة الدقة لقياس الانتقال والسرعة وضبط الاتجاهات. ونقل الصوت والضوء، وتحريك الطائرات والغواصات والصواريخ… وباختصار انتقل الإنسان من معرفة “اللفظ” إلى معرفة الأداء”[8].
ب. نظرته إلى التراث: يفرّق زكي نجيب محمود بين العقيدة والتراث، فيعتبر الأول في دائرة المقدس والمطلق الواجب الوجود لأنّه يقوم على عناصر تأسيسية كالقرآن والسنة، والسمة الأساسية لها الإيمان وليس الاستنباط، أي الإيمان بوجود عالم غيب وراء عالم الشهادة، بمعنى وجود عالم آخر وراء هذا العالم الواقعي.
أما الثاني، فهو على الرغم من اتكائه على الأول، إلا أنّه لا يتعدى كونه عنصرًا تفسيريًا، وهو لم يعد ملائمًا لطبيعة المجتمعات الإسلامية في معظم الحالات، فهذا التراث يدور حول محور العلاقة بين الإنسان والله عزّ وجلّ، على حين ما نتلمسه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة هو تبدل هذا المحور ودورانه حول العلاقة بين الإنسان والإنسان[9]، لذلك نحن أمام خيارات ضيقة: “فإما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا، […]، ونحن في ذلك أحرار. ولكنّنا لا نملك في أن نوحد بين الفكرتين”[10]. لأنّ هناك استحالة في التوفيق بينهما، بالتالي عندما نتعامل مع التراث لا بد من العودة إليه واعتماد “مقص” أوكام معه لاستبعاد كل ما هو زائد عن الحاجة إليه، فالكثير من القضايا التي يطرحها العقل الإسلاميّ، لم تعد نافعة في وقتنا الراهن لأنّه قد فقد قيمته: “باستثناء أصول قليلة جدًا فيها أصالة وابتكار، هناك هذه الألوف من المجلدات التي لا تضيف حرفًا واحدًا جديدًا، فهي شروح، وشروح الشروح، وتعليق على تعليق”[11].
وهذا الموقف الذي يتحدث عنه محمود ناتجٌ عن رؤية منهجية، تعتبر أنّ الثقافة العربية الأصيلة تقوم على دعامتين: الإلهام والعقل، الأول ندرك من خلاله ما ينبغي أن يكون وهو متعلق بالوحيّ، والثانيّ نحقق من خلاله ما نبغي أن نحقق، وهذا ما يدفع إلى دخول العصر من باب التوافق معه والأخذ بالمعطيات العلمية التي ينتجها، فإذا نظرنا إلى العالم المحيط بنا نرى الغرب يتقدم يومًا بعد يوم، لأنّه يهتم بالحاضر والمستقبل، أما المجتمع العربي وبحكم اعتباره التراث أمرًا ذات طبيعة ماضوية، يسعى دائمًا للعودة إليه، فيقوم بتكرار ما وصل إليه الأقدمون من علم ومعرفة.
فالتراث بالنسبة إليه ليس أمرًا ذات طبيعة مادية فحسب، إنّما هو مجموعة من القيم الأخلاقية العملية المرتبطة بالأمل التي تساعد في تخطي واقع التخلف الذي يعيشه الإنسان العربيّ، وهذا الأمر يظهر بشكل جديّ عبر طريقة مخاطبة الله عزّ وجلّ للمسلمين، حيث يلاحظ: “كلما ذُكِرَت آية يخاطب فيها الله المؤمنين أضاف إلى ذلك )وعملوا الصالحات(. فكأن الإيمان لا يكون إيمانًا كاملًا إلا إذا اقترن بالعمل الصالح، وصلاحية العمل إنّما تكون بالنسبة إلى الهدف المنشود وإلى نوع الموقف الذي نواجهه”[12].
وهكذا يصبح التراث عبارة عن حركة في التاريخ تظللها القيم الأخلاقية- العقيدية التي تشكل الأرضية التي تقوم عليها جملة من العلوم والأفكار التي لا بد من العودة إليها لفحصها والتأكد من صلاحيتها في الراهن من حياة الإنسان، يقول محمود: “فهذا التراث عالم فسيح الجنات كثير الأبعاد عميق الأغوار، فيه أصول الدين وفيه مذاهب الفقهاء وفيه الشعر وفيه النثر وفيه الفلسفة وفيه كتب المتصوفة، وفيه علوم اللغة بكلّ أنواعها[…]، وليس موقف عصرنا من هذه الفروع الكثيرة متساويًا بالنسبة إليهم جميعًا، بل إنّ فيها ما يظلّ ماضيه هو حاضره وقديمه هو جديده. وفيها كذلك ما كان ماضيه مرفوضًا كلّه أو بعضه عند الإنسان الجديد بعلومه العصرية وبحياته التي تغيرت ظروفها”[13].
فالتقدم الحضاري لا يتمّ من خلال العودة إلى الكتب التقليدية، إنّما يتحقق ذلك من خلال النظر إلى الواقع لرصد التطورات التي تشهدها العلوم، يقول محمود: “إن أوروبا حين نهضت من عصورها الوسطى، كان سرّ نهوضها هو أنّها خرجت من بطون الكتب إلى عالم الأشياء، إلى دنيا الواقع تقرأ كتاب الكون لتضيف علمًا جديدًا إلى علم قديم، وهنا وقف العالم العربيّ مكانه من الورق وما كُتب عليه، ترك أوروبا لتنفرد وحدها بكتاب الطبيعة، فكان لها من الوثبات في الكشف عن أسرار العالم، ثمّ كان للأمة العربية من وقوفها تُعيد ما كانت قد بدأته وفرغت منه، ثم تعيده كرة ثانية وثالثة”[14].
وهكذا يدعو زكي نجيب محمود إلى إعادة النظر بالتراث بمقتضى الوقائع التي استجدت في المجتمع الإسلاميّ، والتي تحثّ على ضرورة تعديل محتواه، ويعود سبب ذلك إلى الأمور التالية:
أ . العديد من المشكلات والمعضلات قد تغيرت، ولم تعد ذات أهمية.
ب. بعض المسائل التي كانت تطرح على العقل العربيّ، والتي شكلت محور اهتمام الفرق الكلامية كمسألة خلق القرآن وصفات الله، لم تعد تمتلك هذه الأهمية ومضمونها لا يفيدنا في شيء: “لننظر إلى حياتنا وما تواجهنا من مشكلات أساسية، لم يعد يصلح لها ما قد ورثناه من قيمٍ مبثوثة في تراثنا، السبب بسيط، هو أنّها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفت أسلافنا”[15].
ج. طبيعة بعض العلوم في تراثنا الفكريّ، التي تقوم على اللاوعيّ أو الأخذ بالجانب السحريّ والأسطوريّ والكلام عن موضوعات لا يمكن إدراكها: “واضحٌ لي أن هذا الجهد الفكريّ كلّه، من أوله إلى آخره، مهما تكن أهميته، وخطورته بالنسبة إلى أسلافنا، فلم يعد بنا حاجة إليه اليوم، إلا في حدود المتشوقين إلى دراسة التاريخ”[16].
د. ابتعاد التراث العربيّ عن اللغة التي ترتبط بالواقع، بل إنّ هذا التراث يقدس اللغة ويحولها إلى أمرٍ مبهم لا يمكن أن يكون ذات منفعة للفكر، وإزاء هذا الواقع يصبح العربيّ كالرحالة الذي يحمل خريطة مضللة لا تدله على الأمكنة الصحيحة[17].
ثالثًا: المصادر المعرفية
تظهر المؤثرات المتعلقة باللغة والأدب من المصادر الأولية الهامة والمركزية في فكر زكي نجيب محمود، فهو ابتدأ باكرًا بالإطلاع على رموز الفكر المصريّ، فقرأ سلامة موسى، وطه حسين، ومحمود عباس العقاد، بالإضافة إلى الدراسات التاريخية لشفيق غربال وأحمد أمين الذي شاركه في العديد من الأعمال، ولكن يبقى أنّ أبرز المؤثرات الحقيقية هي:
أ. السفسطائية: اعتبرهم زكي نجيب محمود من أهم الشخصيات التي ساهمت في تطوير علم البلاغة، وقامت بإدخال العلوم الإنسانية إلى الفكر الإنسانيّ كبديل عن العلوم الطبيعية، فكان منهم اللغويون الذين يبحثون في علوم اللغة وأصلها وأسرارها وطبيعتها، كما بحثوا تراكيب العبارات وشرحوا هوميروس وهزيود.
ب. سقراط: اعتبر محمود سقراط استمرارًا للمدرسة السفسطائية، وقد تأثر بطريقته في التربية، وسعيه لأول مرة في التاريخ أن يحدد معاني الكلمات بدقة في مجالات الحياة الجارية، فسقراط سعى إلى توضيح المعاني، واعتبر الذين انتقدوه: “مذنبون باستخدام الفصاحة وإلقاء خطب مليئة بالمحسنات اللفظية”[18]، إذ إنّ الانصراف إلى العناية بهذه المحسنات ينتهي بالمتحدث إلى إهمال المعنى وغياب المفهوم. وهذا الاهتمام تجلى لديه من خلال ترجمته لمحاورات أفلاطون التي تعكس وجهة نظر سقراط في ماهية الفلسفة.
ج. أفلاطون: وهو يمثل بالنسبة إليه ذروة التفكير الفلسفيّ، لا سيما في ذلك الجانب المتعلق باللغة، ومن خلاله أدرك محمود أنّ نظرية المُثل تقدم المعنى المعقول الثابت الواحد في مقابل المحسوسات أو الجزئيات الكثيرة المتغيرة والتي ينطبق عليها هذا المعنى، وهذا ما يفسر طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر من جهة، ودور المدرك الحسيّ للجزئيات في إبداع اللغة التعبيرية كرمز لهذا المدرك، فكل تفكير في نهاية الأمر هو عبارة عن لغة سواء أكانت منطقية أو سامية، بل وصل معه الأمر للقول: إن التفكير كلام نفسي.
وعلى ضوء نظرية أفلاطون في المثل استطاع محمود أن يعالج قضية الصورة في الفلسفة والفن، وهي من أبرز القضايا المثارة في فلسفة اللغة من جهة قدرة اللغة على التجاوز والانتقال من الواقع المادي إلى المثال المجرد.
د. الفارابي: اهتم محمود بالفارابي لا سيما نظريته في الشعر، التي ترى أنّ الغاية التي يحققها الشعر، هي أن يوحي لقارئه بوقفة سلوكية يريدها له الشاعر، لا بالقول المباشر، بل برسم صورة يكون بينها وبين السلوك المرتجى علاقة الإشارة الموحية، وهذا ما يؤدي برأيه أنّ القصيدة ترسم صورة أو صورًا تتكامل أجزاؤها بحيث يمكن تصورها، وهي تحتوي قوة من التداعي تستجلب به إلى الذهن شبيهًا لها من الخبرة المكنونة عند قارئها، وأخيرًا تحفز صاحبها على اصطناع وجهة للنظر. ينظر بها إلى العالم، فيصطنع بها سلوكه على وجه الإجمال[19].
ه. الجاحظ: وهو من الشخصيات التي تركت أثرًا كبيرًا على محمود، واستفاد منه بعده الأسلوبيّ، الذي ينزع إلى صياغة الأفكار بشكل واضح وعلى القدر الذي تستحقه الفكرة.
و. أبو حيان التوحيدي: وهو في هذا المورد، يستفيد من المقارنات اللغوية التي قام بها التوحيدي من أجل الوصول إلى المعاني الدقيقة، التي تقتضي مطابقة اللفظ للمعنى الماثل في الذهن.
ز. عثمان بن جني: يقف محمود أمامه وقفة متأمّلة، فهو بالنسبة إليه ذلك المفكر الذي ينتمي إلى أصول يونانية، والذي قدم للغة وفلسفتها ما لم يستطع أحد أن يقدمه، فهو لم يقف عند السطح الظاهر من الموضوع، بل حاول الغوص إلى جذوره ومبادئه، فابن جني أول من فرّق بين الكلام والقول، حيث اعتبر الأول هو المفيد لمعناه بينما الثاني هو عبارة عن تحريك اللسان. كما خرج ابن الجني – بحسب محمود – عن النظرة التقليدية لـ”اللغة”، والتي تعتبرها أمرًا توقيفيًا، فأشار إلى الطبيعة الاصطلاحية لها معتبرًا أنّ اللغة تقوم على مبدأ المواضعة والاتفاق، يقول محمود: “وليس يمكن فيما أعتقد أن يكون الأمر على غير هذا الرأي الذي ذهب إليه ابن جني، لا من حيث اللغة العربية وحدها، بل من حيث اللغة على إطلاقها”[20]. ولم يكتف ابن جني بذلك، بل عمل على تحليل بنية اللغة العربية، فاعتبرها لغة كلامية وليست لغة فقهية، فالعربية لغة سمعية تقليدية، وهذا ما دعاهم إلى تغليب المعنى وضبطه.
ح. عبد القاهر الجرجاني: ومع هذا اللغوي يتوقف محمود عند دوره في تحديد معنى النظم والتأليف، حيث اعتبر اللفظ بحدّ ذاته عنصرًا محايدًا لا جمال فيه ولا قبح، لكن الذي يعطيه الجمال الأدبيّ أو يسلبه منه، هو مسايرته للمعاني القائمة في الذهن. ويعتبر زكي أنّ الجرجاني في تحليله للصورة الذهنية اقترب من طريقة تحليل الوضعيين عندما يشترط في العبارة الأدبية أن تلتمس صورة ذهنية توازي في تكوينها المراد ذكرها.
وأبدى محمود إعجابه بكتاب دلائل الإعجاز للجرجاني، ويعود سبب ذلك إلى دعوته لقيام نقد أدبي موضوعيّ، وربطه بين الترتيب النحوي والعقلي واعتباره مماثلًا للترتيب الذي تنساب به المعاني في الذهن، بالإضافة إلى طريقة معالجة الجرجاني للإعجاز القرآني عبر جعل المعنى هو الأصل انطلاقًا من النقاط التالية:
- لا يمكن أن يكون الإعجاز ناتجًا من المفردات، لأن القرآن الكريم استخدم مفردات مستعملة من قبل.
- كما لا يمكن أن يكون في الفواصل، لأنّ القوافي في الآيات كالقوافي الشعرية والإنسان يقتدر عليها.
- ولا يمكن أن يكون في الاستعارة لأنّ بعض آيات القرآن الكريم لا تحتوي استعارة.
فالجرجاني ركّز على المعنى، واعتبر أنّ الإعجاز في النظم والتأليف، أي في نظم المعانيّ والتأليف بينها[21].
ط . مدرسة فيينا: بدأت علاقة زكي نجيب محمود من خلال اطلاعه على كتاب صغير للدكتور آير، الأمر الذي دفعه إلى متابعة أعمال هذه المدرسة التي تناولت الفلسفة من زاوية جديدة، من خلال جعل الفلسفة تحليلًا لقضايا العلم، وإزالة النتوء التي تظهر فيها نتيجة الأفكار الميتافيزيقية، وذلك عبر أداة منطقية شحذها قبلهم فريق من أصحاب المدرسة التحليلية من أمثال برتراند راسل وديفيد مور، وطائفة من علماء الرياضيات الذين شغلتهم علاقة الرياضيات بالمنطق مثل فريجة وبيانو اللذين عملا على إقامة اللغة على أسس رياضية عبر ما سمي فيما بعد بالمنطق الرمزي[22].
وإذا نظرنا إلى أعمال محمود، نرى أنّ هذه الشخصية استفادت من جملة من القضايا التي طرحتها هذه المدرسة منها:
- رفضها للمنطق الأرسطي وطريقة تعامله مع الاسم الكليّ، فهذه الأسماء تشبه التركيبة الرياضية التي تحمل بين رموزها رمزًا لمجهول، كأن نقول: “س عدد فردي”، فهذه القضية لا يمكن الحكم عليها بذاتها، فلا بد قبل الوصول إلى ذلك من تحديد العدد س، فهي كفكرة من الناحية المنطقية ما زالت ناقصة[23]، لأنّ الاسم الكليّ ما زال وصفًا لموصوف مجهول.
- مفهوم الجملة التحليلية التي لا تضيف جديدًا إلى المعرفة الإنسانية.
[1] المصدر نفسه، الصفحة 16.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 17.
[3] راجع: المصدر نفسه.
[4] راجع المصدر نفسه، الصفحة 27.
[5] زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، المصدر السابق. الصفحة 75.
[6] المصدر نفسه، الصفحة 75
[7] المصدر نفسه.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 82.
[9] المصدر نفسه، الصفحة 110.
[10] المصدر فسه، الصفحة 189.
[11] المصدر نفسه، الصفحتان 55-56.
[12] زكي نجيب محمود، ثقافتنا في مواجهة العصر، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة 3، 1983)، الصفحة 53.
[13] زكي نجيب محمود، عن الحرية أتحدث، (القاهرة، دار الشروق، الطبعة 1، 1986)، الصفحة 114.
[14] زكي نجيب محمود، بذور وجذور، (القاهرة، دار الشروق، الطبعة 1، 1970)، الصفحة 125.
[15] زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، مصدر سابق، الصفحة 75.
[16] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، (القاهرة، دار الشروق، الطبعة2، 1974)، الصفحة 125.
[17] راجع: زكي نجيب محمود، حصاد السنين، (القاهرة، دار الشروق، الطبعة1، 1997).
[18] المصدر نفسه، الصفحة 48.
[19] أنظر: زكي نجيب محمود، مع الشعراء، ( بيروت، دار الشروق، 1988)، من الصفحة 229 إلى الصفحة 230.
[20] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، الصفحة 221.
[21] أنظر: زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، من الصفحة 258 إلى الصفحة 263.
[22] زكي نجيب محمود، نحو فلسفة علمية، مصدر سابق، الصفحتان 60-61.
[23] زكي نجيب محمود، قصة عقل، مصدر سابق، الصفحة 104.
المقالات المرتبطة
مقاربة الوجود في الحكمة المتعالية وفق صياغة فلسفية (1)
واجهت الفلسفة في العالم الإسلامي هجومًا شديدًا وعداءً سافرًا في تهافت الغزالي، وفتاوى ابن الصلاح، ومقدّمة ابن خلدون، وموقف ابن تيمية ومدرسته.
الأبعاد الإنسانية للخلاص الإنساني أصل المسؤولية وحدودها ونطاقها
إن فكرة الخلاص هي فكرة إنسانية بمنحة إلهية، فالله سبحانه وتعالى جعل الخلاص الإنساني في شخص المخلص، والمخلص هو المصلح الإنساني، وبالتالي فإن فكرة المخلص فكرة إنسانية يستفيد منها الإنسان بعد معاناته على الأرض من قوى الظلم والظلام والاستبداد والاستكبار.
الحقيقة العرفانية بين الظاهر والباطن
يقوم علم الدلالة على العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى، ويبحث في طبيعة الارتباط بين ما هو مادي تنتظم به الدلالة بوصفه دالًّا لفظيًّا أو كتابيًّا