العنف ظاهرة تاريخية: مطالعة في كتاب العنف في الإسلام المعاصر – معطى بنيوي أم نتاج تاريخي

by الدكتور عفيف عثمان | يونيو 21, 2021 12:45 م

الكتاب: العنف في الإسلام المعاصر – معطى بنيوي أم نتاج تاريخي.

الكاتب: ريتا فرج.

الناشر: المركز الثقافي العربي، بيروت، 2010.

 

ينهض بحث د. فرج على فكرتين: الأولى، أن سمة الإسلام المعاصر هي الحركية (أو الجهادية) والتركيز على السلطة واتخاذ العنف وسيلة لبلوغها. وثانيًا، رفض فكرة الماهوية أو الجوهرانية التي تجعل العنف تكوينيًّا في الإسلام، وتنسب المقولة إلى الاستشراق الغربي، وترد العنف للقطيعة التي وقعت بين الإصلاحية الدينية والدولة الوطنية أو بالحري فشل هذه الأخيرة.

نقطة البدء هي إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924، وما أفضت إليه من نتائج تصوغها الباحثة في ثلاث: نشوء مشروع الدولة الوطنية القومية، وتأرجح الفكر الديني الإسلامي بين السلفي والإصلاحي، وازدياد اتجاهات حركات الهوية والأصالة. وهي إذ تسرد محاولات الإصلاح، من الطهطاوي إلى محمد عبده، وتفصح عن وعي المسلمين لحالتهم الحضارية المتفاوتة مع غرب قوي ومسيطر يمتلك سر الحداثة وصيَغها، فلكي تتبع مآلاته التي لم تفض إلا توكيد الهويَة والنزوع الإحيائي، والدخول في مرحلة تالية هي الحراك الحزبي وتأسيس جماعة “الإخوان المسلمين” على يد الشيخ حسن البنا عام 1928، والتي تعتبرها فرج “أول حزب إسلامي حديث”، و “الحركة الأم لمعظم التيارات الإسلامية المعاصرة”، وهي من أعادت التركيز على فكرة الحكم وعده “من العقائد والأصول”، والإسلام “مصحف وسيف”، وبذا نقع على التعالق بين الديني والسياسي، وعلى السعي لإقامة الحكم الإسلامي بوساطة الجهاد، وترى الباحثة أن التركيز على فكرة القوة أتى عندهم لتبرير الأعمال العنفية.

ومن رحم هذا السيَاق وتسلط الدولة الناصرية، تبلورت فكرة “الحاكمية” (الموروثة من المودودي) عند سيد قطب، ووسمه المجتمع المعاصر بالجاهلية، ومن ثم تبنّت أفكاره جماعات التطرف والعنف. وبذا، قدم قطب وفاقًا للباحثة “المشروعية لقتال أي نظام سيَاسي”. وإلى السيَاقات السياسية والاجتماعية، كان الارتكاس في الحركات الإسلامية “الحزبية” يزداد وضوحًا ومعه اللجوء إلى العنف، نظير حركة التكفير والهجرة التي اعتمدت خطة: دعوة فهجرة فجهاد. ولكي تكون الصورة تامة تعرض فرج للسلفية وجذورها وأهم أفكارها (ومن ضمنها الوهابية)، كما أبرز طروحات الأصولية الشيعية بدءًا من باقر الصدر، وصولًا إلى الإمام الخميني الذي سيترك أثرًا في الجماعات الجهادية وفي خططها.

ولكي تقبض الباحثة على مسار العنف في محطاته التاريخية في بلادنا تعود إلى الماضي البعيد، لترى كيف تمأسس العنف بدءًا مما يُطلق عليه “الفتنة الكبرى” غداة مقتل الخليفة الثالث عثمان، والتي تعتبر أساسها الإمساك بزمام السلطة، بمعنى “الأحق” في تولي أمر المسلمين. وما نجم عن اجتماع السقيفة سابقًا كان قد أرسى تقليدًا في الاختيار في غياب نص صريح في كيفية خلافة الرسول الكريم، ما أدى بحسب فرج إلى تعدد التأويلات الذاتية ومحاولة شرعنتها فقهيًّا. ولأن الغايات المادية تجد صعوبة في تبرير ذاتها، تتصعد في مثالات تجد جذرها في الدين ونصوصه. وقد انزلق النظام السياسي الإسلامي من الشورى والبيعة بعد الرسول إلى الملك العضوض مع معاوية، أو ما يسمى منطق الغلبة.

وفي العودة إلى الحاضر، وانزلاق بعض أطراف الإسلام السياسي (أو الحركي) إلى معاداة الداخل والخارج معًا، أي السلطة والغرب، كان لا بدّ من تأصيل هذا العداء كما أدوات المواجهة، فاسترجعت مفاهيم “دار الإسلام ودار الحرب” وضرورة الجهاد، وأنتجت ما تسميه فرج “فقه جماعات العنف”، وجهدت هذه الأخيرة في تسويغه من خلال وسم الأنظمة السياسية بالكفر ونزع الشرعية عنها وعد الغرب “دار كفر”. واستكمالًا ترصد الباحثة موقف بعض الإسلاميين من الجماعات الدينية الأخرى ولا سيَما المسيحيين، وترى بعينها المشرقية أن العلاقة بين الإسلام والآخرين “لم تتأسس على آلية الإلغاء والإقصاء”.

اتخذ الإسلام الحركي موقفًا عدائيًّا حادًّا من الغرب، بالركون إلى الخبرة التاريخية المريرة معه، مُستذكرًا لحظات الصدام المعروفة من الحروب الصليبية إلى مآثر مؤسسة الاستشراق (قديمًا وحديثًا)، إلى الاستعمار المباشر والتبعية، وما نجم عن ذلك من رسم صور نمطية للإسلام والمسلمين تجعل العنف عندهم تكوينيًّا (وحتى في موروثاتهم) وتجعل الدين نفسه مانعًا من دخول جنة الحداثة الموقوفة على الغرب وحده، وتجهد الباحثة المدققة في تقصي الأسباب الحقيقية للنزاع بين الدارين أو العالمين، خارج إطار حرب الأديان التقليدية.

وبغاية تفحص مقولة العنف على نحو واف، تُدخل فرج في تحليلها عاملًا جديدًا لم ينل حظه من التدبر هو “الجمهور العربي” في عنفه وإشكالية علاقته مع السلطة السياسية ولا سيَما “المستبد العادل”. وترى إلى تعثر قيام الفرد أو “المواطن”، مستعينة بذلك بابن خلدون وبحوث الراحلين الجابري وهشام شرابي. وتنتهي الباحثة إلى سوء العلاقة بين الجمهور والدولة الوطنية، وكذلك إلى حال النزاع بين الحركات الإسلامية والسلطة، ومن ثم تعرُض لمآلاته وأصوله وما جرى في السنوات الأخيرة من “مراجعات” في شأن ممارسة العنف (خصوصًا في مصر)، ومن محاولات تجديد في الخطاب الأصولي.

والحال، لا يحيا الإسلام السياسي معزولًا، بل ينفعل بالمحيط الدولي ويستجيب تحدياته ولا سيَما حقبة التسعينات الزاخرة بالمتغيرات. ولأميركا دور رئيس من خلال اليمين الديني وتحديدًا الحركة الصهيونية المسيحية وأفكار المحافظين الجدد المتسلحة بالقوة والخداع ونظرية “الحرب العادلة”، التي تبنتها إدارة الحكم في واشنطن في عهد بوش الابن وكان من آياتها غزو العراق وأفغانستان. وفي موازة ذلك وبعد أيلول 2001، ركّز الاستشراق الأميركي على مقولة حتمية الصراع بين أميركا والإسلام وكون العنف تكوينيًّا في هذا الدين.

تبسط الباحثة آراء أهم دعاة هذا الاتجاه، برنار لويس، صاحب الرؤية الأحادية الذي كتب: “أن الأصولية هي الأيديولوجيا الوحيدة التي تفهم مباشرة من قبل الشعب”. وبالنتيجة تكونت نظرتان إلى الحركات الإسلامية، واحدة تدعو إلى استيعاب التيار المتشدد وتطويعه، وأخرى تعتبره تهديدًا يجب التخلص منه. وبذا بلور الاستشراق الأميركي، بحسب فرج، صورة نمطية عن الإسلام تجعله معاديًا للديمقراطية والحداثة. ولدحض هذه المقولات تلجأ إلى باحثين غربيين منهم الفرنسي برونو إتيان، لبيَان أن الأصولية والعنف مواكبة للديانات التوحيدية الثلاث، وأن الجنوح إلى التطرف من بعض الحركات الإسلامية هو “نتيجة الأزمات الداخلية وسيادة الأنظمة الاستبدادية”. وقد تتبعت فرج كرايمر في نقده للدراسات الاستشراقية ما بعد الكولونيالية، ولا سيَما أعمال إدوارد سعيد، وموقف بايبس وتحذيره من خطر الإسلاميين وعده العنف أصيلًا في النص القرآني. ومرة أخرى تستعين بالباحثين الفرنسيين للرد على التصورات الأميركية، فأوليفيه روا، صاحب مقولة ما بعد الإسلامية، يرى: “أن العنف ليس إسلاميًّا، إنما هو مناهض للإمبريالية”، في حين يرى بودريار العنف جزءًا من النظام نفسه، أي “أن العولمة المنتصرة تخوض صراعًا مع ذاتها”. ومن ثم تقوم فرج بمعيَة تشومسكي بتشريح السياسة الخارجية الأميركية القائمة على القوة والترهيب والترويع وخرق القانون الدولي والاستعمار، في سبيل تحقيق مصالح العم سام، وترى أن تصادم أميركا مع الإسلام الجهادي حصل بعد 11/9 وخصوصًا مع تنظيم القاعدة. ولهذا الغرض وضعت واشنطن استراتيجيات متنوعة لمحاربة العنف و”الإرهاب” (في بيئته الأولية) من نشر الديمقراطية والإصلاح في العالم العربي، إلى الاشتباك المباشر. وتنتهي الباحثة إلى اعتبار العنف في دولنا “رد فعل” على الأزمات بأنواعها، وعلى السياسة الأميركية المتجبرة وعلى وقائع القهر والاحتلال.

 

 

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13197/violenceinislam/