مطالعة في كتاب الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: نهوض السياسة المدنية على الميتافيزيقا عند الفارابي

مطالعة في كتاب الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: نهوض السياسة المدنية على الميتافيزيقا عند الفارابي

الكتاب: الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة.

الكاتب: دراسة وتحقيق د. حسن مجيد العبيدي.

الناشر: بيروت، منشورات ضفاف، 2014. 357.

 

أطلق المفكر المصري سلامة موسى تعبير “أحلام الفلاسفة” على تفكراتهم في شأن المجتمعات التي عاشوا فيها ورغبوا في تحسينها والارتقاء بها، وذلك بديلًا من كلمة “يوتوبيا”  (لا مكان) ذات الأصل الغربي، التي استخدمها توماس مور ليصف مدينته المثالية. وكان سبق لأبي نصر الفارابي ( 259 هـ – 857 م – 339 هـ – 950 م) إثر أفلاطون في الجمهورية أن استخدم مقولة “المدينة الفاضلة”، مثابة مكان عيش إنساني راق، يحددها في “آراء أهل المدينة الفاضلة”: “فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة، هي المدينة الفاضلة، والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل، والأمة التي تتعاون مدنها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة، وكذلك المعمورة الفاضلة، إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة”.

وفي بغداد درس الفارابي على يد علماء يعيدون أصل تعاليمهم الفلسفية إلى مدرسة الإسكندرية، المدرسة الوثنية الأفلاطونية التي تنصرت في نهاية الحقبة الرومانية، وكان آخر أعضائها قد انتقلوا إلى أنطاكيا وحرّان وبغداد وآسيا الوسطى. وهؤلاء الفلاسفة كانوا من المسيحيين النسطوريين، ورثوا تعاليمهم عن الأفلاطونية المحدثة المسيحية التي نقلها آخر ممثلي هذه المدرسة إلى مدرسة الإسكندرية، كما يقول الباحث العراقي محسن مهدي، أحد أبرز دارسي الفارابي، والذي يبدي استغرابه من تبني هذا الأخير رغم ثقافته الكبيرة هذه، لتراث أفلاطون وأرسطو، إذ رأى أن فلسفتهما تناسب دراسة ملل الوحي، وأن العلم السياسي هو العلم الفلسفي الذي ينبغي أن تتم في نطاقه مثل تلك الدراسة.

والحال، ما زال الاهتمام به وبتصوراته راهنًا في زمن ازدهار مضادات مدينته، أي المدن الفاسقة والجاهلية والضالة والمتبدلة، وتهدف عودة الزميل، الأستاذ في الجامعة المستنصرية،  الدكتور حسن العبيدي، إلى متن الفارابي، في المقام الأول، إلى إبراز استناده للواقع السياسي الذي عاينه وعاشه بمرارة، وهو القرن الرابع الهجري، إبان العصر العباسي المضطرب، حيث ساد الانحلال والفساد، وفقدان السلطة المركزية لهيبتها، وسيادة الجند على مقاليد الحكم. ويؤكد الباحث على أن أفكار أبو نصر أتت ردًّا على تناقضات وإشكالات زمنه، وبمعنى أدق لم يكن عمله الرئيس هذا تأمّليًا بحتًا، بل ثمرة بُنية مجتمعية، ما يقود إلى عد آرائه إسلامية أصيلة، لا تقليدًا أو تأويلًا لفلاسفة الإغريق، فقد أنجزه الفارابي في مرحلة نضجه وتوقفه عن شرح نصوص أرسطو وتلخيصه.

ويعزو العبيدي السبب إلى تركيز الباحثين اهتمامهم على الجانب الميتافيزيقي من كتاب “الآراء”، في حين كان سعي الفارابي لبناء نظام سياسي اجتماعي خاص بمجتمع قائم على العدالة والفضيلة والسعادة، يرأسه فيلسوف يتمتع بخصال عقلية وبدنية معينة. ويُظهر بناء النص أن الميتافيزيقا التي تشغل الجانب الكبير منه موضوعة في خدمة السياسة “والسياسة تقوم منهجيًّا ومنطقيًّا ومعرفيًّا على الفلسفة (الميتافيزيقية) وليس على الأخلاق”، كما يفسر الباحث، ويناقش في سبيل الدفاع عن نظريته في “استقلال” فلسفة الفارابي عن الفلسفة اليونانية وتبعيتها للفضاء الإسلامي السياسي والاجتماعي، الآراء الكثيرة والمتباينة ويفندها، ويسند أطروحته بأصالة الرؤى السياسية للمعلم الثاني بأعمال مبدعين يوافقونه هذا الزعم، رغم اطلاعه على كتاب “الجمهورية”. ومن المفيد التذكير برأي المفكر اللبناني الراحل عمر فروخ في تأريخه للفكر العربي حيث نسب آراء الفارابي إلى التاريخ السياسي للعراق القديم قبل حمورابي، فتأثر في شروط رئيس المدينة بالسومريين والبابليين والكنعانيين، ثم أنه أوجب أن يكون الرئيس نبيًّا فيلسوفًا مثل حمورابي، فهذا الأخير كان مُشرِّعًا تناول شريعته من الإله شمس، كما أن حديث الفارابي عن طبقات المدينة لا صلة له بطبقات الناس في مدينة أفلاطون.

وبدوره، اعتبر محسن مهدي، الذي خص الفارابي بأكثر من دراسة، أن أهمية المعلم الثاني تكمن في أنه استعاد التراث الكلاسيكي وجعله معقولًا داخل السياق الجديد، أي الإسلام ، فالحياة السياسية تهتم بتحقيق الانسجام بين الفلسفة وخاتم الأديان في منظور مختلف، أي منظور العلاقة بين نظام الحكم الأفضل كما فهمه أفلاطون بخاصة وقانون الإسلام السيّاسي.

يعرض العبيدي لحضور الفارابي في الفكر العربي الإسلامي، ولا سيّما عند ابن سينا في “التعليقات”، والغزالي في “تهافت الفلاسفة”، وأيضًا في الفلسفة الأندلسية، وخصوصًا عند ابن مسرة وابن السيّد البطليوسي وابن باجة وابن طفيل… إلخ. وقد حضر الفارابي بقوة في الفكر الأوروبي الوسيط (اليهودي والمسيحي) من خلال الترجمات إلى اللاتينية، وتكفي الإشارة إلى تأثر ابن ميمون به في “دلالة الحائرين”. والبيّن أن الكتب المترجمة هي: إحصاء العلوم، ورسالة في العقل، وعيون المسائل، وكتاب التنبيه على سبيل السعادة، وكتب منطقية وطبيعية وميتافيزيقية وكتاب الموسيقى. ويقول مهدي في مؤلفه المهم “الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية الإسلامية”: إن فكرة “الملة الفلسفية” كما وضعها أبو نصر قد طورت وطبقت من قِبل أبرز شخصيات الفلسفة الإسلامية واليهودية الوسيطة، وكذلك من أولئك المعروفين بأتباع ابن رشد في الغرب اللاتيني، وذلك لتأويل تاريخ مِلل الوحيّ، في تفسيرات النصوص المقدسة لهذه الملل، وكذلك لتحديد مهمة الفلسفة لجهة علاقتها بالإلهيات والفقه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 



المقالات المرتبطة

قصيدة نزار قباني عن الإمام الحسين (ع)

القصيدة من بحر الكامل والقافية الباء الساكنة، وهي عبارة عن حوار دار بين أحد الروافض ومخالف له، وتقع في سبعة عشر بيتًا.

البنائيّة الوظيفيّة (القضايا، المعالم، والروّاد)

مقدّمة إنّ البنائيّة الوظيفيّة هي من النظريّات المحافظة في علم الاجتماع المعاصر، حيث يمكن عدّها من أكثر الاتّجاهات تعبيرًا عن

مشاريع فكرية 20 | الأستاذ حسن رحيم پور أزغدي

المواليد: 1965 م في مدينة مشهد الإيرانيّة. الدراسة: بدأ دروسه الحوزوية في >مدرسة الفيضية< بقم، لكنه لم يتلبّس بالزي الحوزوي.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<