مطالعة في كتاب رسالة الرد على الدهريين: كيف ردّ الأفغاني على نظرية داروين في أصل الأنواع؟

by الدكتور عفيف عثمان | أغسطس 5, 2021 11:51 ص

الكاتب: جمال الدين الأفغاني.

الكتاب: رسالة الرد على الدهريين، تحقيق أحمد ماجد.

الناشر: دار المعارف الحكمية، بيروت، 2017.

 

هناك تاريخ طويل للمعارك الفكريّة المتّصلة بالعلوم، وهي تعبّر عن صراع تخوضه مفاهيم متنوّعة سعيًا منها إلى إيجاد سند لمقولاتها في العلوم. واستطرادًا، تخاض تلك المعارك غالبًا في الفكر الإنساني الذي يعتبر العلم مرجعيّته في إثبات الحقائق ونفيها. ولم يتردّد كثير من المفكرين الدينيّين شرقًا وغربًا، في خوض تلك المعارك ذاتها، ساعين عبرها إلى مدّ جسور بين تياري الفكر الإنساني والديني. حدث ذلك في عزّ صعود الحضارة العربيّة- الإسلاميّة، ثم تواهن تدريجًا. وتجدّدت تلك النقاشات في عصر النهضة العربي الحديث على يد مستنيرين كالإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وأرنست رينان وفرح أنطون وغيرهم.

وفي ذلك السياق، كتب الأفغاني (1838– 1897) رسالة معروفة ليردّ على أنصار المذهب المادي. وفي الأصل، صيغت رسالته تحت عنوان: “حقيقة مذهب النيتشريّة والنيتشريين وبيان حالهم”. ويلاحظ أن كلمة “نايتشر” (معناها: الطبيعة)، هي أصل اشتقاق مصطلحي “نيتشريّة” و “نيتشريّين”، ويعنيان “طبيعيّة” و “طبيعيّين” على التوالي. ويقصد بذلك الإشارة إلى من يعتبرون أن الكون موجود وجودًا طبيعيًّا، مع خلاف على علاقة ذلك بالخالق!

وحين كتابتها، كان الأفغاني منفيًّا في الهند. ونقلها الإمام محمد عبده (1849 – 1905) من الفارسيّة إلى اللغة العربية، عندما كان في منفاه في سورية بين عامي 1882 و1885.

وأصل الرسالة هو استجابة من الأفغاني لمراسلة من مُدرّس هندي لاحظ انتشار “طائفة الطبيعيين” في بلاده. وسأل المُدرّس عن مدى تعارض القول بـ “الطبيعيّة” مع أصول الدين، وهل أنها تفكير جديد أم مذهب قديم، موضحًا أن أصحاب “الطبيعيّة” لم يجيبوه عن أسئلته عنهم.

غايات الرسالة

يصف الإمام محمد عبده الرسالة بأنها “جمعت لإرغام الضالين وتأييد عقائد المؤمنين، ما لم يجمعه مطوّل في طوله، وحوت من البراهين الدامغة، والحجج البالغة، ما لم يحوه مفصل على تفصيله”. وأشار إلى أن الأفغاني وضعها ردًّا على إمعان نهج رآه في حكومة الهند الانكليزيّة، يعمد إلى “إغراء (الناس)  بنبـــذ الأديان، وحلّ عقود الإيمان، وأنّ كثيـــــرًا من العامّة فُتنوا بآرائهم، وخُدعوا عن عقائدهم، وكثر الاستفهام منه عن حقـــيقة ما تدّعيه تلك الجماعة الضالّة”. ويتـــابع عبده: “حداني علوّ الموضوع، وسمّو منزلة الرسالة منه، إلى الاجتهاد في نقلها من لغتها إلى اللغة العربيّة”.

وتفاوتت الآراء في شأن رسالة الأفغاني تلك. إذ ذهب صلاح الدين السلجوقي، سفير أفغانستان في مصر في ستينات القرن العشرين، الذي كتب مقدّمة لإحدى طبعات الرسالة، إلى القول إن الأفغاني لم يرَ ضررًا في أفكار تشارلز داروين المعروفة عن التطوّر والصراع من أجل البقاء، لكنه فرّق بين ما يصلح للطبيعة وما ينطبق على الإنسان. واعترض الأفغاني على الاستناد إلى تلك الفكرة في تفسير تبدّل الأنواع الحيّة أو خلقها أصلًا. واستطرادًا، ألقى الأفغاني اللوم على الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر (1820- 1903)، الذي حاول تطبيق نظرية داروين على الأمور الإنسانيّة والفلسفيّة، في ما سمّي مذّاك بــ “الداروينيّة الاجتماعيّة” (Social Darwinis.).

وأشار الشيخ المصري محمود أبو ريّة، وهو دقّق إحدى نسخ الرسالة ذاتها، إلى أنّها ترد على إنكار الأديان، مشيرًا إلى أنّ الأفغاني فهم أنّ “الطبيعية” أو المادية تتيح أن “يفعل كل إنسان ما يشاء بغير خجل ولا حياء، ولا وازع من ضمير ولا رادع من إيمان”. وكذلك كان الأفغاني يعتقد بأن التقدّم في العلوم يفترض أن يجعل بعض الناس يتقبلون أفكارًا جديدة، لكنه لاحظ أن بعضهم انتهى بهم الأمر إلى أنّهم “تمرّدوا على الأديان، وتحلّلوا من كل فضيلة تزين الإنسان”. وكذلك لفت أبو ريّة إلى أنّ رسالة الأفغاني سعت أيضًا إلى الردّ على “آفة الإلحاد التي وفدت من أوروبا”.

التدقيق في  العام 2017

عام 2017، ظهرت نسخة جديدة مُدقّقة من الرسالة عينها (بيروت، دار المعارف الحكميّة)، تتضمّن تحقيقًا في مقاصدها للدكتور أحمد ماجد. ورأى هذا الأخير أن الأفغاني لم يكتف في الرسالة، بمجرد الاستجابة للسؤال الذي تناول “حركة الإصلاح الاجتماعيّة والثقافية الهندية” التي تزعمها آنذاك سيد أحمد خان، بل سعت إلى الرد على “البعد السياسي والحضاري لتلك الظاهرة”.

وبقول آخر، لم يكن البعد المعرفي للرسالة يتصادم مع الاحتلال الإنكليزي للهند الذي ساند بث أفكار “الطبيعيّين”، بغرض “التعطيل” الذي هو الإلحاد وفاقًا لإدراك الأفغاني. وفي كل الأحوال، لا يمكن تبيان صلة مباشرة بين القائلين بالطبيعة وبنفي الألوهة، كما أنّ لا صلة مباشرة بين العلم الحديث ونظريات تسعى إلى الإلحاد. واستطرادًا، يجدر التنبّه إلى أنّ القول بقدم الكون والمادة لا يؤدّي بالضرورة إلى الإلحاد، بل هناك لاهوتيون وفقهاء وضعوا أفكارًا فلسفيّة عن عدم التعارض بين الأمرين.

 

 

 

 

 

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13503/darwinism/