عاشوراء في “عيد الغدير” لبولس سلامة

by معهد المعارف الحكميّة | سبتمبر 20, 2021 8:20 ص

يعود نظم “عيد الغدير”… للشاعر الأديب بولس سلامة، علاوة على عزم الناظم، كما يفهم من قوله في تصديره للكتاب، إلى ثلاثة أسباب:

أولها: موهبة في سرد القصص المنظومة لفتت الأدباء.

وثانيها: افتقار الأدب العربي للملاحم.

وثالثها: اقتراح السيد عبد الحسين شرف الدين عليه نظم “يوم الغدير”. بعدما كان الشيخ عبد الله العلايلي قد تمنى عليه نظم “أيام العرب”، وقد صح عزم الشاعر نظم ملحمة عنوانها: “عيد الغدير” بعد أن تزاحمت عليه الفكر وأيقظت كوامن الوجدان.

تتضمن هذه المنظومة سبعًا وأربعين قصيدة، عدد أبياتها ثلاثة آلاف وأربعمئة وخمسة عشر بيتًا، أولاها قصيدة بدء عنوانها “صلاة”، وآخرها قصيدة خاتمة تكمل تلك الصلاة، وبينهما قصائد تسرد قصة أهل بيت النبوَّة (عليهم السلام) منذ الجاهلية إلى مأساة كربلاء والتطواف بالهامة الشريفة، فيمثِّل “يوم الغدير” فصلًا من فصول كان لكربلاء فيها ما يزيد على ثلثها.

أتيح لبولس سلامة من الشروط الذاتية والموضوعية ما جعله يُقبل على نظم الملحمة بشغف ويجيده، ومنها:

أولًا: كان شاعرًا موهوبًا مثقفًا مزودًا بثقافة واسعة وعميقة.

ثانيًا: نشأ في أحضان أبٍ شغوف بالسِّير الشعبية، ما كوَّن لديه ملكة خاصة بالقصص الشعري البطولي، متميزة، كان يعبِّر عنها بقوله: “الملحمة في دمي”.

ثالثًا: كان الإخلاص دليله في كل ما كتب، فتجرَّد، كما يقول، من”مذكرات جريح”،”من كل شيء إلا من الحقيقة العارية”.

رابعًا: عانى من آلام الأمراض زمنًا طويلًا، ولدرجة أن سُمِّي “أيوب القرن العشرين”، والألم مطهِّر للذات، ومصفٍّ للنفس، يتيح لمعانيه أن يشارك الناس معاناتهم، وإن كان نظم هذه الملحمة قد اقتضاه ستة أشهر، ثلاثة منها لدرس الموضوع تاريخيًّا، وثلاثة للنظم تخللها من الألم الممضي الذي يذهل البصيرة ما تخللها، فقد كان يختلس الوقت اختلاسًا من الفترات التي يهادنه فيها الألم. فزمن نظم هذه الملحمة التي تسرد قصة أهل البيت (عليهم السلام): بطولات وانتصارات ومآسي هو زمن هادن فيه الألم نفسًا كان الإخلاص دليلها، فجسَّدت الحقيقة شعرًا ينظم ما قاله مؤرخون عصمهم الله من فتنة سلطان غاشم.

يبدأ الشاعر، كما قلنا، بصلاة يرفعها إلى الله سبحانه وتعالى، يطلب منه فيقول:

 يا مليك الحياة أنزل عليَّا عزمةً منك تبعث الصخر حيَّا
 في سبيل الكمال أجر يراعي ملهم البنت مفصلًا عربيَّا
 هات يا شعر، من عيونك واهتف باسم من أشبع السباسب ريَّا
 باسم زين العصور بعد نبي.. باسم ليث الحجاز…
 خير من جلل الميادين غارًا وانطوى زاهدًا ومات أبيَّا
 كان رب الكلام، من بعد طه وأخاه وصهره والوصيَّا
 بطل السيف والتقي والسجايا ما رأت مثله الرماح كميَّا
 يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي، إنني أردت عليَّا

وإن يكن الشاعر، في هذه الصلاة، يذكر بهوميروس عندما الألياذة بالطلب من الآلهة أن تلهمه الشعر، وإجادة الإشادة باسم “آخيل”، فإنه يختلف عنه في غير أمر. ذلك أن سلامة يطلب من الله سبحانه وتعالى، وليس من آلهة الشعر، ويطلب أن ينزل عليه، وهو المريض عمة ليقوى، وما يُسدِّد خطاه، ويطَّهر فؤاده، ويُنزِّه جنانه، ويجري يراعه في سبيل الكمال ليهتف. ليس باسم بطل خارق تسيِّره الآلهة القدر، وإنما باسم بطل السيف والتقى من أشبع الصحارى ريًّا، زين العصور بعد النبي (ص) ورب الكلام.

إن الفرق كبير بين منظورين يروي أولهما تاريخ شعب تختلط فيه الأساطير بالوقائع بالخوارق وينشط فيه الآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال خارقو القوة، ويحكم مسار سعيهم قدر غاشم يحاول الناس الإفلات من قبضته في صراع مرير يقضي فيه عليهم من دون جدوى….، ما يجعل العبث مأساة كبرى، ويروي ثانيهما تاريخ شعب، لم يقل فيه الراوي غير الحق، يدور فيه صراع بين بطل هو فخر التاريخ، وبين قوى الشعر، يرتضي فيه البطل القدر الإلهي، ويسعى إلى مصيره بوصفه طاعة ليحيي الدين، ويخط منهجًا للأجيال القادمة، يبقى نبراسًا ما بقي عيش على وجه هذه الأرض، يتابعه جيلٌ بعد جيل ما يعني أن البطولة اتصال أجيال واستمرار نهج، ومما يقوله الشاعر في هذا الصدد، في خاتمة الملحمة:

 يا إله الأكوان أشفق عليَّا لا تمتني غبَّ العذاب شقيَّا
 مصدر الحق لم أقل غير حقٍّ أنت أجريته على شفتيَّا
 أنت ألهمتني مديح علي فهمي غيدقُ البيان عليَّا
 وتخيَّرت للأمير أهل البيـ ت قلبًا آثرته عيسوَيا
هو فخر التاريخ لا فخر شعب يدعيه، ويصطفيه وليَّا
 لا تقل شيعة هواهُ علي إن في كل منصفٍ شيعيَّا…

وفي سبيل ألا يقول غير الحق عاد الشاعر إلى التاريخ، فدرس، كما يقول، المراجع التاريخية، وقطعًا للظن والشبهات قلما اعتمد مؤرخي الشيعة، بل الثقات من أهل السنة الذين عصمهم الله من فتنة الأمويين، وفي سبيل حل إشكالية التاريخ الشعر/ الشعر التاريخ وهي في رواية تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) أكثر تعقيدًا، إذ ينبغي تحري الدقة والتثبت في الرواية، تقيد، كما يقول، بالتاريخ جهد الاستطاعة، ولو تقيد أكثر لكان كاتبًا بالعدل يخضع التاريخ للقوافي، ويضيف موضحًا فرقًا آخر بين ملحمته هذه وبين الملاحم الأخرى: “ومع الانطلاق الشعري الذي حاولته، فلقد بقيت مغلول الجناحين لا أستطيع أن أخلع على الواقعات من الفن إلا بمقدار، ذلك أن الملاحم تدور على الأساطير؛ حيث يسبح الشاعر ولا رقيب عليه إلا ذوقه، وكتابي هذا محوره التاريخ، والتاريخ حرام على الخيال، حتى في الحوادث العادية، فكيف به عندما يستند معظمه إلى الأحاديث النبوية؟”. وفي سبيل بيان الأحداث التاريخية جعل للكتاب هامشًا يسهل للقراء، وعلى الأخص غير المسلمين منهم تفهم الكتاب.

لم يبتعد الشاعر عن السَّرد، وهو لحمة الملحمة وسداها، إلا بمقدار وفي هذا المقدار تصدَّى لبعض القضايا الفكرية، ومنها ثنائيات الخير/ والشر، الحرية/ والاستعباد، الثورة/ القبول، الظلم/العدل…

وفي ثنايا السرد يلحظ القارئ تصويرًا يتحول به السَّرد إلى سَّرد تصويري أو تصوير سردي، يتألَّق فيه الشعر، ومن نماذج ذلك نقرأ على سبيل المثال:

– في زواج عبد الله والد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم):

 كان ذاك الزواج أقصر عمرًا من حياة الزنابق البيضاء
إن عمر النعماء ومضة حلم فالليالي حرب على النعماء

-في مولد الإمام علي (عليه السلام):

 صبرت فاطم على الضيم حتى لهث الليل لهثة المكدود
 وإذا نجمة من الأفق خفَّت تطعن الليل بالشعاع الجديد
 وتدانت من الحطيم ومرَّت وتدلَّت تدلِّي العنقود
 تسكب الضوء في الأثير دفيقًا فعلى الأرض وابلٌ من سعود
 واستفاق الحمام يسجع سجعًا فتهش الأركان للتغريد
 بسم المسجد الحرام حبورًا وتنادت حجاره للنشيد
 ذرَّ فجران ذلك اليوم: فجرٌ لنهار، وآخر للوليد
هالت الأم صرخة جال فيها بعض شيء من همهمات الأسود
 يهرم الدهر، وهو كالصبح باقٍ كل يومٍ يأتي بفجرٍ جديد

-وفي استشهاد الإمام علي(عليه السلام):

 هبَّ، في الصبح، للصلاة عليّ كصباح يودِّع الأيَّاما
 حاسرًا سار للصلاة، كوجه الحـ ق، والحق لا يطيق اللئاما..

بعد الصلاة البدء، تصوير لواقع العرب في الجاهلية، ولموقع قريش ودورها في هذا الواقع، ولسيدها عبد مناف الذي أهدى للبرية هاشمًا، وهو سيد البطاح، يرفد الحجيج، وتسكب كفه الندى في البوادي، وسير رحلتي الصيف والشتاء…، وقد غار منه ونافسه ابن أخيه أمية، وهو:

 ذلك الأفعوان يقطر سمًّا ملت صلًّا فصار جدَّ الأراقم
ذكر، وصمة الدهور سيبقى كلما همَّ بالشتيمة شاتم

ويتأسس الصراع بين الخير/ فخر التاريخ وبين الشرّ/ الضل، ويستمر بين سلالة للخير تشمل فخرًا، وبين سلالة تتصل أراقم، فيبغي حرب بني أمية على عبد المطلب بن هشام:

 هو حرب، وهل أمية إلا منبع الشرّ، فابنه حقد ناقم

وتتداعى قريش للغدر كالعقبان في فجر الإسلام:

 إذا تداعت قريش للغدر كالعقبان تسطو بالبلبل الغرِّيد
 إن حط المصباح في كل عصر عصفة البحر في الليالي السود…

ويضرم صخر بن حرب (أبو سفيان) نار الحرب ضدَّ الإسلام، وهو كما أسلافه وابنه وحفيده:

 يجمع المال من فجور البغايا ومن العهر يشرب السلسبيلا
 ورث الحقد عن أمية طفلًا ومذ اشتدَّ حارب التنزيلا
 تلك هند وزوجها، فأبو سفيان وغد أبوَّةً وسليلا
 أوليس السرحان جد يزيد أورث الولد طبعه في الهيولى

-في حنين:

 والنبي العظيم لولا علي وبنو هاشم لظلَّ وحيدا
 شمت الداخلون في الدين كرهًا وابن حرب يكاد يتلو النشيدا
 يدخل الذئب في الحظير نفاقًا وهو ما انفك في السريرة سيدا
 زوج هند بل أخبث الناس جدًّا ووليدًا وزوجةً وحفيدا
 يا إلهي لقد لعنت يزيدًا قبل أن تحمل النساء يزيدا

هو ذا “منبع الشر” يتمثَّل ويضرم نار الحرب ضدَّ “فخر التاريخ/منبع الخير”، وإذ يتتبع الشاعر هذا الصراع وصولًا إلى كربلاء، يتتبع أيضًا القضية الأساس من قضايا هذا الصراع وهي الولاية، ومنذ حديث الدار:

 وإذ بالنبي يرسل قولًا رنَّ في مسمع الزمان البعيد
 أنت مني ووارثي وزيري وعلى الحوض أنت بكر شهودي

مرورًا بهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبيت علي (عليه السلام) في فراشه:

 إن ينم في مضاجع الموت حبًّا بالنبي العظيم، فالله ساهر

وبحديث الغدير ومفاده:

 يا إلهي من كنت مولاه حقًّا فعليٌّ مولاه غير نكير
 يا إلهي وال الذين يوالون ابن عمي، وانصر حليف نصيري
 كن عدوًّا لمن يعاديه واخذل كل نكس وخاذل شرير

وصولًا إلى ضياع حق الولي:

 وانجلت عن ضياع حق وليّ كان إلاَّ عن حزنه مشغولا
 وتوالت مبايعات ثلاث طمست نور حقه المأمولا

وبثورة شعبية أوصلت الولي إلى حكم عادل، خاض حربين في الجمل وصفِّين، ثم آلت الأمور إلى كربلاء، حيث أضرم نار الحرب يزيد، من لعنه الله، قبل أن تحمله النساء وهو الابن الأخير لتلك السلالة من الأراقم، ويبدو أن قدرًا يحكم هذا الصراع يسجل الشاعر حضوره عندما يتحدث الشاعر عن “أهل الكساء” فيقول:

 فيجيب النبي: هذا حسين هو سبطي وخامس في الكساء
 وعلت جبهة النبي طيوف كوشاح الغمامة الدكناء
 لمح الغيب! يا لهول الليالي مرعدات بالنكبة الدهياء
 وكأن الجفون تنطق همسًا: “يا إله السماء صِن أبنائي”.

يلمح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغيب، ويرى الليالي مرعدات بالنكبة الدهياء، وهي كربلاء. ويدور الصراع بين نهجين واضحين، وممَّا يدل عليهما، من نحوٍ أول:

 أزهد الناس منذ ما عرف التأريـ خ زهدًا فخلَّد الزُّهَّادا
 رام تقويم كل جذعٍ مريدٍ بهظته أهواؤه فانآدا
 يغمر الناس عدله بالعطايا لا يرى أعبدًا ولا أسيادا
 هاله أن يرى دموع اليتامى والمساكين تمزق الأكبادا
 ويرى المسرفين تنهب بيت المـ ال في جنة النظام اطرادا
 طمست سنة الرسول فأحياها عليّ وجدَّد الأبرادا
هاج سخط القلوب نهجُ علي في صدور تفجَّرت أحقادا

وفي نحوٍ ثان:

 … أرهقتهم عبادة الله فارتدّوا طغاةً تقبِّل الأصناما
 يكرمون الألقاب والمال مجلـ وبًا بجرم، ويعبدون الحراما

ويمضي مسار هذا الصراع الذي بيَّنا طرفيه وموضوعه ونهجيه والقدر الذي يحكمه إلى كربلاء…

في بداية الكلام على كربلاء، يشكل الشاعر فضاء تظهر فيه صورة يزيد، سليل أولئك الأراقم، فيخاطب المؤذن، مكنِّيًا عنه بـ “رافع الصوت داعيًا للفلاح”، طالبًا منه أن يخفض الصوت في أذان الصباح، وأن يترفق بصاحب العرش، المشغول “عن الله بالقيان الملاح”؛ ذلك أن “ألف الله أكبر” لا تساوي، بين كفي يزيد، نهلة راح.

وبعد أن يصف خمرة يزيد أو راحه، الشعلة، يكمل خطاب المؤذن، فيطلب منه أن لا يهتف، وإن يكن لا بدَّ من أذان، لأن هذا أمر لا يستطيع يزيد أن يلغيه، فليعتصم المؤذن بالبحاح، وليهمس كهمس الفجر نديان في سماع الأقاح، ذلك أن سمع صاحب العرش وقف على صدح المثاني ورنة الأقداح، وذكر الله عنده مأتم لأفراحه…، وعقله خافق بخفق نهود، وقلبه بتعتعة السكر، ولسانه خمد فيه النطق ووعيه غاض…

في هذا الفضاء ثنائية قوامها طرفان متضادان: أولهما المؤذن الرافع الصوت داعيًا للفلاح، وثانيها يزيد المشغول عن هذا الصوت وعن ذكر الله بالقيان والخمرة وخفق النهود… وثنائية التضاد هذه تثير مفارقة كبرى تتمثل في أن مهمة يزيد أن يلبِّي الدعاء، بل أن يكون هو صاحب هذا الدعاء، لكنه تحوَّل إلى صاحب عرش يستبدل الفلاح بالقيان الملاح وذكر الله بنهلة الراح، ويستمر في طغيانه إلى أن يفقد عقله فيتعتع قلبه السكر، ويخمد لسانه، ويغيض عينه…

وإن صحا ذات يوم يدعو بالخيول لا لمجدٍ ولا لجهاد، وإنما للسِّباق…، وفي الميدان يخيب فأل الفرسان، إذ يفضح “أبو قيس”، وهو قرد الخليفة، الخيل، وينتهي بنجاح:

 فيزيد يكسو القرود حريرا واليتامي في غصَّة الملتاح
ملأ القصر بالقرود، ولم يهمـ ل كلابًا سخيّة بالنباح
 ويزيد يثيرها لهراشٍ في مقاصير داره الممراح

وهنا تحوُّل، أو مسخ، آخر يتمثل في تحويل وظيفة الخيول والفرسان من المجد والجهاد إلى سباق الخيل وهراش الكلاب، وفي مسخ الفرسان إذ يفوز القرد في السباق وإذ تغدو مقاصير قصر الخلافة ميدان هراش لكلاب كسيت بالحرير في الوقت الذي يجوع فيه فقراء المسلمين ويعرون…

هذا هو يزيد الذي أبى ابن هند.. إلا أن ينصِّبه راية للرَّشاد والإصلاح. وعلى الرغم من آثام الأب الجسام، فهو إزاء الابن كريشة في جناح:

 وليس يخفى على المرَّقشة الأفعى صفير من صلِّها الفِّحاح

وهنا تبرز المشكلة الكبرى: طيف لهذا “الصِّل الفحَّاح”، ابن المرَّقشة، فاقد الدين والعقل والوعي… أن يُنصَّب رايةً للرشاد والإصلاح، أن يبايع خليفةً للمسلمين؟ وكيف للحسين(ع)، وحق الحسين كالإصباح، أن يبايع هذا الصِّل الفحَّاح، وهو يعرف حقيقته، ويعرف عنه، إضافة إلى ما سبق، أنه كان يبكي عندما أخبره والده على أن يكون في عداد جيشٍ وُجِّه لقتال الروم، فهناك في المعركة:

 يتمنَّى اللقاء نجل عليٍّ ويزيد يبكي لذكر السلام

يقتضي مسار الأحداث أن يكون جواب الحسين: لا، لا أبايع…، ويقتضي، أيضًا، أن يفكر الحسين(ع) في الإصلاح والتغيير..، وكأن الزمن يعود إلى أيام مكة وهجرة رسول الله منها إلى المدينة، فيقرِّر الحسين الهجرة من المدينة، حيث يستحيل البقاء في مكة، وتكون هذه الهجرة الهجرة الثانية في الإسلام:

 ذكر السبط هجرة الجد منفيـ يًّا، سقته الآلام جامًا دهاقا

وفي مكة يأتيه نداء أحرار تداعوا في الكوفة، بعدما أرهقهم ظلم الأمويين الذين كموا الأفواه، وسلبوا الأرزاق، وثلموا الدين الحنيف، وارتكبوا المعاصي، أتاه النداء يقول:

 يا ابن بنت الرسول أقدم، وفي صحبك تمشي ملائك أجواقا
 وأغثنا فإنَّ جور يزيد بث فينا الشقاء والإملاقا
 إن تجئنا، فإننا ليزيد قد شحذنا المهنَّد الفلاقا
حنَّ ماء الفرات، يا ابن بنت رسول الله شوقًا متى تغيث العراقا؟

وقبل أن يلبي الحسين الدعوة، ويغيث العراق، يرسل مسلم بن عقيل ليخبر شيعته بأنه نذر للهدى حياته وليختبرهم:

 أتراهم يستأسدون لحقٍّ أو يميلون للنَّسيم المواتي؟

مسار الأحداث يقتضي هذا، أن يبلِّغ الحسين شيعته بحقيقة دعوته وأن يختبرهم، ويلاحظ أن من السرد والخطاب تركيزًا مكثّفًا: أبلغ أنني للهدى نذرت حياتي، وتبين إن كانوا يستأسدون للحق أو يميلون للنسيم المواتي؟ وهذان موقفان متناقضان يتمثلان في صورتين شعريتين.

يصل مسلم إلى الكوفة بعد رحلة صعبة… يبايعه الألوف، ثم ينفضُّون من حوله، مثلًا مع النسيم المواتي.

ويتبين للشاعر، في المواجهة، نهجان يمثِّلهما تساؤل مسلم الوارد في إجابته لشريك بني الأعور عندما عاتبه عندما لم يقدم على قتل ابن زياد، إنه يفقد ذاته إن رام الغدر يقول:

 طالبيٌّ أنا، فلو رمت غدرًا لتلاشت في ساعدي عضلاتي
… أترانا نرد غدرًا بغدرٍ أو شماتًا وخسَّة بشمات

يبقى مسلم وحيدًا، ثم يقتل هو وهانئ، ويرحل الحسين بأهله وأبناء عمه وأنصاره إلى الكوفة، ويجيب من ينصحه بالعدول عن ذلك بأن حفظ شريعة جدِّه تقتضي الخروج:

 فأجاب الحسين: تعلم عبد الله، أني ما رمت جاهًا ومالا
 بل حفاظًا على شريعة جدِّي إن ليل الآثام والبغي طالا

وينحو المنحى نفسه الحوار الذي يدور بينه وبين ابنه علي الأكبر…

وينحو، في منحى آخر، قدري عندما يقول، وكأنه يستعيد ما لمحه جده في الغيب كما مرَّ بنا:

 وقف السبط وهو في شبه رؤيا ألبسته على الجمال جمالا
 قال: إني أرى دماءً وأشلاءً وغدرًا وخسَّة واغتيالا
حفرتي بينها تحفُّ إليها شيعتي، يلثمونها إجلالا

والمنحيان، كما يبدو، ليسا متوازنين أو متضادّين، إذ كان الخروج نفسه الهادف إلى حفظ الشريعة واجب / قدر لا بدَّ منه، وأي تخلٍّ عنه هو تخلٍّ عن أداء الحق الواجب، وهذا ما يفهم من قول الحسين: إن رسول الله قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه. وإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فأداء الواجب/ القدر طاعة لله في سبيل حفظ الدين وهداية الناس وخطِّ نهج لهم:

 قاتلتني آباؤهم، فلقيت الموت منهم، وذقته أشكالا
 كلما قام للصلاة المصلي إذ يحيي محمَّدًا والآلا
 يذكرون الحسين حين يهيب الحـ ق بالناس: حطموا الأغلالا
 فيرون الشهيد سبط رسول الله يدعو للجنه الأبطالا
فيكون القتيل بالطفِّ للأحـ رار رأسًا وللهدى مشعالا.

وهذا الفهم يفسِّر مضيّ الحسين إلى مصير يعرفه، وهنا الاختلاف مع الملحمة، فالوقائع من نحو أول، تاريخية مسبَّبة، مقنعة وليست أساطير أو خوارق، والبطل من نحو ثان، إنسان عادي يخضع لشرور الحياة العادية، والقدر من نحو ثالث ليس مفروضًا من قوى طاغية عابثة قهرًا للإنسان من دون أي هدف ويقاوم من دون جدوى، وإنما هو فعل لصالح الناس يعيه البطل ويرتضيه بوصفه واجبًا، وفعل طاعة، وينفذه مضحيًا ليحقق هدفًا في الدنيا، وهدفًا آخر في الآخرة.

ويمضي الركب من دون أن يعوِّقه العلم بمصير مسلم وهانئ…، ويلتقي بالحر بن يزيد الرياحي، وينتهي الأمر به إلى النزول في كربلاء، ويلحظ الشاعر آية النبل لدى الحسين، في تعامله مع جيش عدوه:

 جاد بالماء، والمياه حياة فأعاش الأراقم الأشرارا
 موقنًا أنه يخلِّص إمَّا أمويًّا أو تابعًا مكَّارا
 آية النبل أن تطيق عدوًّا كيف تدعو من غاثه مختارا!؟

ويكرر الحسين، لدى نزوله في كربلاء، هدفه من طاعة القدر، وينطلق في فعله/ سعيه من رؤية الإسلام الشاملة إلى الحياة:

 إنَّ هدي الدنيا سحابة صيفٍ ومتى كانت الغيوم قرارا؟
حبي الموت يلبس الموت ذلًّا مثلما يكسف اللهيب البخارا
إنما الموت رقدة وانتقال وأجيء الأعاظم الأبرارا….

وتتكرر صورة المِسْخ، فإن يكن يزيد قد تحوَّل بالدِّين الحنيف والخلافة والخيل ودار الخلافة… كما مرَّ بنا آنفًا، فإن يده القاتلة، شمر بن ذي الجوشن، مسخٌ ليس على مستوى تمثيل الشرّ فحسب، بل على مستوى الجسد أيضًا، ففيه عناصر من الثعالب والقرود والحرابي والأفاعي والسعالي والعقارب…، ما يشكل وحشًا يذكِّر بذلك الوحش الذي تحكي الأسطورة أنه فتك بإله الخير البهي الجميل، والفارق أن الخنزير البري وحش أسطورة، وشمر وحش تاريخ يراه الشاعر في هذه الصورة:

 أبرصًا كان ثعلبي السمات أصفر الوجه أحمر الشعرات
 ناتئ الصدغ، أعقف الأنف مسوّد الثنايا، مشوَّه القسمات
 صيغ من جبهة القرود وألوان الحرابي، وأعين الحيَّات
 منتن الرِّيح، لو تنفَّس في الأسحـ ار، عاد الصباح للظلمات
 يستر الفجر أنفه، ويولي إن يصعِّد أنفاسه المنتنات
 ذلك المسخ، لو تصدَّى لمرآة لشاهت صحيفة المرآة…

هذا المسخ يحرِّم ماء الفرات، وهو مشاع للبغايا، للوحش، للحشرات، على الحسين وأهله وأنصاره، وفي مواجهته يقف الحسين: جده الرسول، أبوه علي، أمه خير بنت أمها وردة المشرقين، بيتها مهبط النبوَّة، عمه حمزة أسد الله، عمّه الآخر جعفر الطيار، وليس غيره في الأرض سبط نبي، يسألهم: لماذا تُطفون؟

يجيب شمر:

 ستموتون مثلما تحرق الرمضـ اء، في وهجها طريء النبات
 أو تلبون رغبة ابن زياد علكم تظفرون بالرحمات

ويكون قرار الحسين أن ينصرف إلى قراءة القرآن والصلاة، ويرى مصيره:

 إنني قد رأيت جدي وأمي وأبي والشقيق في الجناتِ
 بشروني أني إليهم سأغدو مشرق الوجه طائر الخطوات

يخبر أصحابه ويخيِّرهم بين البقاء معه والنجاة بأنفسهم، فيقرِّرون البقاء معه، وتدور معركة يغلب فيها في الظاهر الشر والموت، ولكن الغالب الحقيقي هو الهازئ بالحياة في سبيل حياة أفضل في الدَّارين:

 … يغلب الموت هازئٌ بحياةٍ لا يراها إلا عميق سبات
 … قال: يا فضلة النفايات جاءت كالجراثيم من شتيت الجهات
… إن صدرًا يستهدف الحق صرفًا ليس يخشى طعن القنا والظبات

والمغلوب الحقيقي هو كلب لا ينبري لنباحٍ لو درى أنه عديم الرّعاة.

 يلمح الخبز، إذ يهرّ ويعوي فيكون النباح للكسرات

تدور المعركة ويواجه الأبطال مصيرهم، ويعبِّر الشاعر عن نتيجة المعركة مكرّرًا في صورة أخرى ما سبق أن قاله:

 … ينيرون في دفء النصارى فحباهم زرع الخلود نميًّا
 وأراق “العبيد” مهجة أهل البيـ ت، فاستشهد الحسين أبيا
 ومضى للهلاك وغد زيادٍ ولواء الحسين ظلَّ عليا

وتتمثل البطولة، هنا ليس في القتال نفسه قتال الأبطال فحسب وليس في قبول القدر بوصفه طاعة والمضي في تنفيذه فحسب أيضًا، وإنما كذلك في وعي المفارقة العجيبة الثانية والقتال من أجل تغييرها وخط نهج لذلك يتبع على مدى الأزمان، وهذه المفارقة هي، ملاحظة أن الأسماء، هنا رموز تتغير بتغير الأمكنة والأزمنة:

 يا حبيب الحسين، قال حسين: كيف تدعو ولا أرد الجوابا
 عجبًا للزمان يطعن أهل البيـ ت غدرًا، ويستحب الكلابا
 بل ذيول الكلاب، فابن زياد شاقهم في كلابه أذنابا

إن هذا النهج الداعي إلى وعي الواقع الرديء وتغييره ما زال يتَّبع، وبه يخلَّد واضعه ومتبعه، ويتم التغيير، ويبقى ملهمًا للشعراء طوال الزمان، وبخاصَّة أولئك الذين عاشوا أيَّاهم متألمين كما تألم، أبطال كربلاء، ومنهم الشاعر الأديب بولس سلامة الذي يقول في ختام قصيدة الوقيعة:

 دمك السمح، يا حسين ضياء في الدياجير يلهم الشعراء
 أي فضل الشاعر منك  اللآلئ، يصوغ منها رثاء
 شاعر مقعد بريح مهيض كل أيامه عذت كربلاء

                                        

 

 


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13731/ashura-ghadir/