وصايا الإمام الحسين(ع) في مسير ثورته
وصايا الإمام الحسين (ع) أثناء مسيره إلى كربلاء، انطلاقًا من المدنية المنورة، مرورًا بمكة المكرَّمة، ووصولًا إلى كربلاء، مع محطات في الطريق.
سنذكر في هذه المقالة كلمات الإمام الحسين(ع)، لنجد الصلة الموجودة بينها، انطلاقًا من المدينة المنورة وصولًا إلى كربلاء. لأنَّ قرَّاء السيرة ـ بالإجمال ـ يقتطفون بعض الحوادث ويسوقونها في دائرة مجالس متفرقة، ما يبعد صلة الوصل بين كلمات الإمام الحسين(ع)، كذلك عندما يتعرَّض المحاضرون لكلمات ومواقف الإمام(ع)، فإنّهم يقتطعون جزءًا منها انسجامًا مع الموضوع الذي يريدون التركيز عليه. من هنا كانت أهمية التأمل بهذه الوصايا من خلال كلمات الإمام الحسين (ع)، لأنها في الواقع تمثِّل حركة متكاملة ومتواصلة، وتؤسس لحركة تربوية منهجية تثقيفية للأمة على امتداد الزمن. لذا، سنقوم بالربط بين الكلمات بشكل هادف، وسيكون سياقه سياق الوصايا، من دون التركيز على عنوان محدَّد من العناوين الفرعية أو الأساسية في حركة الإمام الحسين(ع).
أولًا: القيادة المؤهلة.
نبدأ من الوصية الأولى عندما أرسل يزيد إلى الوليد بن عتبة يطلب منه أن يأخذ البيعة من الإمام الحسين(ع)، وقد استدعاه إلى مقر إدارته، وهناك جرى حوار انتهى بكلمات للإمام الحسين(ع) قال فيها: “أيها الأمير، إنَّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون، أيُّنا أحق بالخلافة والبيعة”.
حدَّد الإمام من اللحظة الأولى طبيعة المؤهَّل للقيادة، واعتبر أن القيادة التي تبايع هي التي تتميز بصفات محددة، هذه الصفات غير متوفرة في يزيد فهو فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة، ولكنها متوفرة في الإمام الحسين(ع): (إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم)، ففي بداية التحرك لا بدَّ أن نتعرف على القيادة التي نسير وراءها، وعلى القيادة التي نسلمها رقابنا، إذ لا يمكن أن يستخف الإنسان بالموقف، ولا أن يسير مع السائرين كيفما كان، هناك مسؤولية أخلاقية ودينية وسياسية في هذه الدنيا، ومسؤولية في الآخرة حول نوعية الاختيار وكيفية السير، وأي ولي نتولاه وأي قائد نسير تحت لوائه.
ربما ضاع في التاريخ معنى القيادة بالطريقة الصحيحة، واستبدلناها في مرحلة الضغط وفي مرحلة التقية والابتعاد عن المسؤوليات السياسية بالمرجعية، التي تعاطت مع أحكام الأفراد في العبادات والمعاملات ولم تتعاطَ مع مسائل الأمة الكبرى في أغلب الأحيان، لظروف وخصوصيات نقدِّرها ونعرفها جيدًا. إلاَّ أن الغرق في مسائل العبادات الفردية قد يُبعد تمامًا، ويوجِد فاصلًا حقيقيًّا عند الأمة بين فهمها للانقياد مع قيادتها الحكيمة، وقيامها بالتكليف الشرعي التي تشعر أنها قد أدَّته بمجرد الالتزام بالعبادات والمعاملات. هنا يطرح الإمام الحسين(ع) المسألة الجوهرية من اللحظة الأولى، هو لم يقل بأن يزيد غير مؤهَّل ولذلك لا أريد أن أبايعه، بل ذكر أيضًا أنه هو المؤهَّل الذي يستحق أن يكون قائدًا؛ “ومثلي لا يبايع مثله”، لأن مسؤولياتي الجسام تفترض عليَّ أن أكون القائد الذي يتمكن من قيادة هذه المسيرة، بناءً لدور الإمام، ومركز الإمام، وعصمة الإمام، وما عرفناه من شخصيته القادرة على قيادة المسيرة. فالوصية الأولى قبل أن ينطلق المرء هي كيفية اختيار القيادة التي تأخذ بيد الإنسان في المواقف المرتبطة ببناء الدولة وتشكيل الجماعة والقيادة السياسية، ومواجهة أعداء الأمة، وتنقية المجتمع من النفاق، وإيجاد الخط الإسلامي الأصيل، هذا أمر أساس قبل البداية. كل بداية لا ترتبط بقيادة واضحة يمكن أن تتعرض لأخطار كثيرة عند الابتلاء والاختبار، وكل مسيرة لا تعود إلى وليّ أمرها تكون مربكة وضائعة ومنفصلة عن الجماعة، أو تتشكل هناك جماعات مختلفة كلٌّ يغني على ليلاه إن لم تُحسم البداية بشكل صحيح.
ثانيًا: الرضا بالنتيجة.
الوصية الثانية جاءت عندما جرى النقاش مع أم سلمة زوجة رسول الله (ص)، التي عرفت بأنه سينطلق وسيترك المدينة المنورة بناء على ما جرى مع الوليد، فأجابها بكلمات معبِّرة (يا أمّاه قد شاء الله عز وجل أن يراني مقتولًا مذبوحًا ظلمًا وعدوانًا، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرَّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرًا ولا معينًا). هذه الكلمات للإمام(ع) توحي للوهلة الأولى وكأنها تعبير عن النتيجة التي لا يستطيع أن يواجهها، وعن القدر الذي يتحكم بالمسار، وعن الضرورة التي لا مفرَّ منها. لكن في طيات الكلام معنًى أساس لا بدَّ أن نلتفت إليه في كلمات الإمام؛ وصيته وحديثه مع أم سلمة أم المؤمنين(رض)، حيث نقرأ الرضا بالنتيجة التي عرفها الإمام الحسين(ع) قبل أن يُقدم على العمل. فهو لم يتأفف ولم يستنكر ولم يقل شيئًا يعبِّر عن المرارة والأذية الشخصية، استعمل التعابير الدقيقة بقوله: (شاء الله أن يراني قتيلًا)، وهو مسلِّم بهذه المشيئة راضيًا بها، ما يعني أن النتائج المترتبة على الموقف يجب أن تكون مقبولة من الداعين إلى الله تعالى ومن الراضين بمسيرته، لا أن يكون الأمر مرتبطًا بنتيجة دون أخرى، فإذا كان النصر انفرجت أساريرهم، وإذا كانت الشهادة عاشوا حالة المرارة والألم! بل هو قبول بالنتيجة كما أرادها الله سبحانه كجزء من التكليف الشرعي الذي سار عليه الإمام الحسين(ع)، والذي علَّمنا من خلاله أن نقبل النتائج مهما كانت، طالما أننا اخترنا مسار الإسلام، فهذا المسار يتطلب تضحيات وأعمال جسام، وقد يُكلِّف مآسٍ كثيرة تصل إلى الأولاد والأهل، وإلى الذبح والسبي والقتل، وإلى أبشع الأعمال في مواجهة حالة الشرك والانحراف، مع ذلك على المؤمن في هذه المسيرة أن يكون راضيًا قانعًا، فما يحصل لا يقرِّب أجله، ومن يتراجع لا يؤخر أجله، فليكن الرضا بقضاء الله تعالى هو الأمر السائد، من أجل أن يعبِّر الإنسان عن أهليته لهذا التكليف الشرعي وعن قناعته ودوره.
ثالثًا: تحديد الهدف.
قبل أن يغادر الإمام الحسين(ع) المدينة المنورة كتب كتابًا إلى أخيه محمد بن الحنفية اشتهر بالوصية، ولعل البعض لم يلتفت لماذا كتب الإمام الحسين(ع) مع أن الحوار جارٍ بينه وبين أخيه، ومع أنه تحدَّث وخطب عدة مرات معه ومع غيره، قبل أن يغادر وفي كل المحطات التي سار إليها في مكة وأثناء الطريق والخطب التي ألقاها في كربلاء، كان يتحدث مشافهة أمام الناس ويخطب بينهم لكن هذه الحادثة قد تكون الوحيدة في كل مساره، كتبها كتابة وأودعها لمحمد بن الحنفية ما يعني أن الإمام (ع) أراد أن يوثق للأمة نصًّا يعبِّر عن تحديد الأهداف بدقة، ليطمئن أنها بمفرداتها وكلماتها قد وصلت إلى جميع الناس، وأن مشروع الإمام الحسين(ع) مبني على ميثاق وأهداف محددة سلفًا ومعروفة تمامًا. فلا يقبل الإمام لا التأويل ولا الاحتمالات، هذه الوصية كتبها بخط يده وهي تعالج أمرين أساسيين:
الأمر الأول: تحدِّد الأهداف.
الأمر الثاني: تتعاطى مع كيفية استجابة الأمة لهذه الوصية، وتحدِّد موقفه من الاستجابة أو عدمها.
هو لم يضع أهدافًا مجردة، وإنما وضع الأهداف ووضع الاحتمالات التي يمكن أن تجري، وحدَّد موقفه من كل نتيجة من النتائج التي يمكن أن تحصل، معتبرًا بأن الأهداف تتحقق على كل حال سواء حصلت الاستجابة من الأمة أم لم تحصل.
قال في وصيته: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية، إن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الله، وأن الجنة حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.. إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمـًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق”. خرج الإمام للإصلاح في الأمة، هذا الإصلاح يتطلب أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر؛ أي يتطلب التصدي، أما السبيل إلى ذلك فهو سيرة محمد وعلي(ع)، وبالتالي نجد أن الإمام قد حدَّد أهداف حركته بإجراء عملية إصلاحية في واقع الأمة، مستندًا إلى القرآن الكريم كإطار نظري، وإلى السيرة النبوية الشريفة ومواقف الإمام علي(ع)، ليقدِّم للأمة نموذجًا في الإصلاح. كيف ستتعاطى الأمة؟ أكمل الإمام قوله: “فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق”؛ الذي يقبلني يعمل مع الله، “ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين”؛ أي أن الإمام طرح الاحتمالين أو النتيجتين: إما أن يستجيب الناس وهذا يعني أنهم استجابوا لدين الله وكانوا مع الله، وإما أن لا يستجيب الناس فلن يثنيني هذا الأمر يا أخي عن عزمي، “وهذه وصيتي إليك وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”.
الوصية إذًا، تحدد أهداف التحرك، الإصلاح في الأمة، والنتيجة المتوقعة قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية، لا علاقة للنتيجة المادية بالأهداف، لأن الإمام يعتبر بأن الأهداف تتحقق بمجرد حركته وقيامه سواء وافقه الناس أو خالفه الناس، هذا ما أراد إيصاله إلينا وتعريف الأمة عنه. قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾[1]، على قاعدة التسليم المسبق بما أمر الله به تعالى والرغبة الأكيدة للعمل بشريعة الله المقدَّسة.
رابعًا: تثمير الموقف.
عندما وصل الإمام الحسين (ع) إلى مكة المكرَّمة عرف أخوه محمد بن الحنفية بأنه يريد أن ينتقل من مكة باتجاه الكوفة استجابة لكتب أهل الكوفة، لكن محمد بن الحنفية لم يكن مطمئنًا لذلك، واعتبر خروج الإمام سلام الله عليه خطرًا عليه، فجاءه ناصحًا لمنعه من الخروج، على الأقل أن يبقى في مكة المكرَّمة أو أن يذهب إلى مكان يجد فيه استجابة مباشرة. وكان تركيز ابن الحنفية على بقاء الإمام في مكة المكرَّمة بأنه يشكِّل له حصانة لأنه في جوار الكعبة، ومن الصعب أن ترتكب الأعمال الشنيعة هناك، فهي حماية بشكل أو بآخر لحركة الإمام الحسين(ع). أجابه الإمام: (يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت)؛ يدل التعبير من الإمام بشكل واضح بأنه يريد أن يتجنب نتيجة لا يريدها. لا يريد أن يُقتل في الحرم، ولا يريد أن يستباح دمه في الحرم، ولا يريد أن تصبح القضية في محل آخر، قضيته ليست أن يحافظ على نفسه هناك ولا يتمسك بإمكانية الحماية من خلال بيت الله المقدَّس، لأن هذا البيت قد يُنتهك. وبالتالي مع اغتياله في الحرم أو قتله هناك ستكون النتيجة الطبيعية بأن يتحرك الحاكم ليعطي تفسيرات مختلفة عن معركة الإمام بسبب المكان والتوقيت، فيكون الإمام قد خسر النتيجة التي يرغبها والتي أرادها من خلال حركته ومساره. من هنا رفض الإمام نصائح أولئك الذين دعوه ليبقى في مكة، ورفض أن يُقتل في مكان لا يؤدي إلى النتيجة المرجوة، فهو يمكن أن يُقتل في الحرم ثم تقول الدولة آنذاك بأن قاتله شخص مستنكر فيقتلونه حتى لو كلَّفوه بالقتل، تحت عنوان الانتقام للإمام الحسين(ع)، عندها يصبح مقتولًا كفرد من دون قضية، يُقتل قاتله ويُقفل الملف بشكل كامل. فبدل أن تكون القضية قضية إصلاح في الأمة، تتحوّل إلى مسألة شخصية لها علاقة بقتل وقتل للقاتل ما يُبعد الإمام(ع) عن تحقيق أهدافه، ولذا غادر مكة المكرَّمة في يوم التروية لأنه كان معتقدًا أن بقاءه بين هذا العدد الكبير قد يضيع دمه بشكل سهل تحت عنوان الفوضى وعدم الضبط، وهي عناوين يمكن أن يطلقها الحاكم بشكل سهل. إذًا، أراد الإمام (ع) من خلال كلمته أن يقول للأمة بأن تمايز الموقف يجب أن يكون حاضرًا في حركة القيادة وفي حركة الناس، ولا يصح أن يترك الإنسان الخيار ليتحكم الآخرون به، بل يجب أن يكون الخيار بيد صاحب المبادرة، لينطلق في الوقت المناسب وإلى المكان المناسب وفي الزمان المناسب كي يحقق الأهداف، وبطبيعة الحال لا يستطيع القائد أن يحدِّد كل التفاصيل بدقة، هناك جزء من الأحداث تكون بيده والجزء الآخر لا يكون بيده، عليه أن يستفيد مما يستطيع توقيته والتحكم فيه بشكل مباشر.
خامسًا: مسؤولية الأمة.
حدّد الإمام ووضح مسؤولية الأمة، هذه الأمة يجب أن تتعرف على الحق وتسير في ركابه، قال الإمام(ع): “لا محيص عن يوم خطًّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين، لن تشذ على رسول الله لُحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه وينجز بهم وعده، من كان باذلًا فينا مهجته وموطّنًا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحًا إن شاء الله تعالى”.
وضّح الإمام للأمة بأنها مسؤولة وعليها أن تختار، لا يستطيع الناس عزل أنفسهم عن المسؤولية، ولا يستطيع الناس التنكر لواجبهم في الاختيار. أيها الناس إذا أردتم طريق الاستقامة فالأمر واضح (رضا الله رضانا أهل البيت)، وبالتالي من أراد أن يحقق رضوان الله، عليه أن يسير على خط أهل البيت(ع). وإذا لم يذهب الناس معنا، فمعنى ذلك أنهم أخطأوا الاختيار، وأنهم ساروا في طريق منحرف، فرضا الله تعالى في هذا المسار، (من كان باذلًا فينا مهجته وموطنًا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا)، لا يستطيع الإنسان أن يدّعي أنه مع الله ثم لا يكون مع أهل البيت(ع)، ولا أن يُعلن المبايعة ثم لا يتحمل مسؤوليته في ذلك، وأن يتحمل الصعوبات والدماء وما يمكن أن ينتج من هذا الاختيار. هذا الخط يبيِّن أن الأمة مسؤولة وقد وضَّح الإمام(ع) بما لا لُبس فيه مسؤولية الأمة في ذلك، وكيف تختار، وأن هذا الاختيار محكوم بنتائج محددة نراها بشكل مباشر من خلال السير مع أهل البيت(ع).
سادسًا: كشف النفاق والمنافقين.
لا يمكن أن تسير المسيرة من دون أن يتم كشف وتقديم التوضيحات لهؤلاء السائرين على هذا الطريق، وقد لاحظنا من بعض كلمات الإمام(ع) أنه كان قاسيًا عليهم وكان واضحًا في آن معًا، خاطبهم بشكل مباشر، أراد أن يضعهم أمام المسؤولية بشكل مباشر. قال عندما أنهى صلاة العصر وكان مع جيش الحر الرياحي قبل أن يحضر عمر بن سعد فيما بعد، قال: “أما بعد أيها الناس، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمد(ص) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أبيتم إلا الكراهية لنا والجهل بحقنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليَّ به رسلكم، انصرفت عنكم”. عندما عرض (ع) عليهم الانصراف كان يعلم بأن هذه الرسالة لن تصل فقط إلى هؤلاء، بل ستصل إلى من يأتي بعدهم، هذه الرسالة توضح أن الإمام لم يكن راغبًا بالقتال من أجل القتال، ليس هدفه قتالهم فهم الذين أمرهم ابن زياد وجاء بهم إلى هنا، بل هدفه طرح التغيير الإسلامي. إذا كانوا هم الأدوات لقتاله فهو لا يريد أن يقاتلهم لأنه لا يريد الأدوات، فدعوته (ع) للانصراف عنهم ليست هروبًا من المسؤولية ولا من المعركة، إنما هي كشفٌ لهم أنهم منافقون وأنهم سائرون في الطريق الخاطئ وأنهم خالفوا كتبهم، وأصبحوا أعوانًا للظلمة، فهو يريد أن يحمِّلهم مسؤوليتهم ويكشف زيفهم في آن معًا، ويفضح أمام التاريخ أن هؤلاء لم يكتفوا بعدم الالتزام بما كتبوا بل دخلوا إلى المعسكر الآخر حيث برز نفاقهم بشكل عملي من خلال أدائهم.
سابعًا: تحديد التكليف الشرعي.
ما هو التكليف الشرعي؟ وما هي الخطة التفصيلية المباشرة التي انطلق من خلالها إمامنا الحسين(ع)؟ في موقع على الطريق اسمه (البيضة) يقع في مسار الإمام(ع) بين مكة وكربلاء، اجتمع مع جماعة الحر فقال: “أيها الناس، إن رسول الله(ص) قال: من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًّا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنة رسول الله(ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقًّا على الله أن يدخله مُدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيَّر”. تكليفكم الشرعي أيها الناس أن تقاتلوا هذا الحاكم الظالم، لقول رسول الله (ص): “من رأى سلطانًا جائرًا…”، وهو قد ذكر هذه الرواية لأنهم كمسلمين لا بدَّ أن يلتزموا بشريعة الله المقدّسة، ويفترض منهم أن يلتزموا بها، ومن الطبيعي أن تكون الآيات والروايات هي المقياس عندكم، فارتأى الإمام (ع) أن يستحضر حديثًا شريفًا يضعه أمامهم، ثم يطبِّق هذا الحديث بشكل عملي على الواقع الموجود، بحيث يكون المخالف من الذين (لزموا طاعة الشيطان) بشكل مخالف لوصية النبي (ص).
ثامنًا: الحق هو المقياس وليس الحياة.
هنا نقاش كبير بين علماء المسلمين، هل أن وجود الأمة ووجود المسلمين ومصلحة حياة الأفراد مقدمة، أم أن حياة العقيدة وسلامة الالتزام وبقاء الشريعة هو المقدَّم؟ هذا النقاش، حسمه بالإجمال الإمام الحسين(ع) عندما ذكر في (ذي حُسُم): “ألا ترون بأن الحق لا يُعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًّا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما”. حدَّد الإمام المقاييس التي تتطلب دقة في التعاطي معها، فعندما لا يُعمل بالحق ولا يُتناهى عن الباطل لا بدَّ أن يبرز القائد وتبرز الجماعة للمواجهة، الأولوية هنا لنصرة الدين ولو أدى ذلك إلى موت لهذه الجماعة، وهذا مؤشر أساس لفترة أو توقيت التحرك، وهذا ما يفسِّر كيف انتفض وتحرَّك الإمام الحسين(ع) ولم يحصل ذلك مع الإمام الحسن (ع)، ففي عهد حكم معاوية كانت الأسس في الدولة الإسلامية موجودة ويمكن البناء عليها، وأما مع يزيد فقد انسدت الآفاق وأصبح الخطر على العقيدة كبيرًا، يؤكد الإمام أن المحافظة على سيادة الحق هو المقياس وليست الحياة، فعلينا أن نبحث عن بقاء الحق وبقاء راية الإسلام لا أن نبحث عن حياتنا المادية الزائلة.
تاسعًا: أخلاقية الإسلام.
أظهر الإمام أخلاقية الإسلام في المعركة، فأعطى نموذجًا رائدًا مع الأصحاب المنسجمين الذين أدوا هذه المهمة الكبرى، وذكَّر مرارًا بأسس العقيدة، فلم يمنع عنهم الماء بل قدّمه لهم، ولم يتوقف عن وعظهم بالحكمة والموعظة الحسنة ليعودوا إلى رشدهم، ولم يبدأهم بالقتال ومنع ِأصحابه أن يبدأوهم، وتحمل معاناة المواجهة مع الأهل والأصحاب طاعة لله تعالى، فكان خير قائد وسيّدًا للشهداء، وكان أصحابه خيرة المضحين والمستقيمين.
هذا غيض من فيض مواقف الإمام الحسين (ع)، ذكرتها متسلسلة في أحداثها أثناء الطريق، محاولًا الاستفادة منها لاستخلاص بعض من منهجية الإمام في معركته الكبرى ضد الباطل: كربلاء.
والحمد لله رب العالمين
[1] سورة التوبة، الآية 52.
المقالات المرتبطة
هل يمكن أن تحصل قراءة واحدة للنصّ الدينيّ؟
إن الأرض تتسع لمليارات البشر، وعند هذه المليارات تتنوع المعتقدات والشرائع وتتعدد، ولا تستقر علاقات الأفراد داخل الأمة الواحدة، أو علاقات الأمم والشعوب على أسس عادلة ما لم يحصل عند الجميع إقرار بالتنوع الثقافي، وبالتعدد في مواقع الإنتاج الحضاري.
إدارة العقل
هناك علم إدارة المشاريع، والوقت والمنزل والمدرسة وخلافه، لكن واقعنا يحكي عن حاجتنا لإدارة من نوع مختلف، ليست خارجة عما سبق ذكره، لكنها الأصل وقطب الرحى؛ هي “إدارة العقل”، وإدارته لا تتم إلا من خلال ضبط موارد تغذيته بالأفكار، وخاصة ضبط جودتها وفعاليتها ومدى صدقيتها ومحاكاتها للواقع.
روايات الثواب على البكاء في عمق الشبهات؟!
الحديث في هذه المقالة هو عن النصوص الدينية التي جاءت تبلّغ بكثرة الثواب لمن أبكى وبكى أو تباكى على الإمام الحسين (ع)