الدعاء في القرآن
الدعاء وهو دوّ وعاء= دعاء، كما قلنا، يقوم على حركية الخطاب المتبادل من الداعي والمدعو له الذي هو أيضًا داع.
هذه الحركية ظهرت في عدة آيات في القرآن الكريم، ولكنني أحببت أن ألفت نظركم إلى هذه الحركية الخطابية- الدعاء – بين موسى (ع) والله عز وجل.
﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً﴾[1].
قال: ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾– فعل قال: تحتم الحضور الخطابي، فموسى على بساط الخطاب الإلهي، ولكن هذا الخطاب ليس متداولًا بينهما بـ “أنت أنت” مما يؤكد اختلاف الموقعين، لأن كل منهما يتكلم بصيغة الأنا المحدودة والمطلقة، فالخطاب غير متساوقين، موسى يتكلم من أرض النبوة، أو الخلافة المادية، أما الرب فأناه مطلقة، مما يؤكد ظلمانية ماديته العقلية – الغرق في الشريعة الظاهرة.
لتأتي “لكن” الاعتراضية على “لن تراني” بأمر “انظر” والنظر هنا عين المادة – ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾؛ بأداة العين، لأن رؤية الله لا أداة لها والرؤية غير النظر –
﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾، فإن الاستئنافية مرتبطة بـ إن الشرطية، ثم جاءت فاء الاستئنافية مع سوف تراني، وهي مرتبطة بجسمانية الجبل وجسمانية موسى (الأنا)؛ أي المادية العقلية النظرية للشريعة من جهة ثانية في الظاهر.
وهذا محال أن تثبت المادة في حضور موجدها، لأن النهائي حدّه اللانهائي، إذن إن حد حوار موسى مع ربه هنا الجهل بربه، وبالتالي الجهل بنفسه.
ولا منفذ أو خلاص من موقع الشرك الذي هو فيه إلا أن يتصل بربه وينفصل عن أنانيته وتكثره.
الخطاب الأول: أنا المحدودية مع أنا المطلقة. (أرني أنظر إليك).
الخطاب الثاني: أنا الله مع أنت موسى (لن تراني /انظر إلى الجبل).
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا، جعل الله موسى هو، والمادية هنا (موسى والجبل)، في قبضة الجاعل ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً﴾، الذي يؤكد تنافر موقعي الخطاب أنا موسى وهو الله، جعل هو هو/ جعل الله هو / موسى.
الاثنان في موقع أنا – أنا – مما جعل الجهل بالنفس والرب معًا – في موقع هو هو.
إن فعل “جعْل” يدل على حركيةٍ تركيبيةٍ للعناصر الأربعة في قبضة الجاعل قبل الجعل.
إذن، إنكَّ الجعل في حضرة جاعله – الجبل، وكذلك اندكت عنصرية موسى ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً﴾، والواو= واو المعية للحال (الاندكاك) فيها فخرّت مادية موسى في اندكاك الجبل وصعِقت وزالت أناه في حضرة الرب.
هنا تعرَّف إلى ربه في موقع النبوة (محمد)، وتعرّف إلى ربه في المقلب الآخر الولاية والذي ظهر له متجليًّا والذي هو نور محض متوحد بالحق المطلق.
لقد أشارت الآية الكريمة ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾[2]؛ أي إن الإسراء أو السلوك كما في الثلاثين الأولى، وفيها نال موسى الكمال، والمعراج كان في العشر الأخيرة وفيها نال موسى تمام المعرفة، لذا قال عز وجل: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[3].
جاء اصطفاء الله لموسى بعد أن قال حين استفاق من الصعقة: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[4].
أي تبت من البقية الباقية من النفس، حينها فني موسى في النفس المطلقة ليعود روحًا إلهية عاقلة – مطلقة فكان له البقاء بعد الفناء.
فيكون عند الله من المصطفين في الصف الأول المرصوص في أنسية الوحدة المطلقة، وصفوف العارفين هناك متراصّة كما في المسجد وإمامهم يكون المضمر بين الكاف والنون.
وإن جاز لنا أن ننعته بمقام ولا يجوز لنا، ولكن للتوضيح لا بد أن نقول إنه مقام فيه رُتب، وهذا العالم هو عالم الوحدة المطلقة والعقل فيه مطلق ويجوز لنا أن نسميه “الوحدة المطلقة”.
[1] سورة الأعراف، الآية 143.
[2] سورة الأعراف، الآية 142.
[3] سورة الأعراف، الآية 144.
[4] سورة الأعراف، الآية 143.
المقالات المرتبطة
عبرة في فن التحالفات
أحد الأصدقاء الذي تقاعد منذ زمن من وظيفة رسمية، ومن الذين قاربوا التسعين من عمرهم، وقد خاض غمار العمل السياسي
الهوية من منظور فلسفة الأديان
نطرح مسألة الهوية (كإحدى مكونات شخصية أي شعب) أما استنادًا على مقياس إقليمي قومي
قنوت لا قنوط
نجد في أدعية صاحب زبور آل محمد (ع) الإمام زين العابدين (ع) أدعيةً يستطيع أن يختلي بها العبد بربه في حالاتٍ مختلفة كأنه يؤكد على حاجتنا الدائمة إلى الله تعالى عند الشدائد، والمهمات، والظلامات، والحزن، والرضا بالقضاء، وعند سماع الرعد، والاستسقاء، وغيرها.