by معهد المعارف الحكميّة | سبتمبر 27, 2021 7:02 م
تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هناك قراءات متعددة للنص الواحد. وذلك لاختلاف القرّاء من ناحية، واختلاف أمزجتهم وميولهم وخلفياتهم الفكرية والأيديولوجية من ناحية أخرى. ومن هنا يمكن القول: إن القراءة فعل غير بريء لأنها تعكس مفاهيم مترسبة في ذهن القرّاء، وهذه المفاهيم لها خلفيات فكرية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية وقيمية[1][1]. وبالتالي فإن هذه الخلفيات الفكرية والأيديولوجية تختلف من قارئ لآخر حسب إطاره المعرفي؛ وبالتالي تتعدد القراءات للنص الواحد، ولذلك يمكن أن نحصر عدد أنواع القراءة بعدد القراء ذاتهم.
وتختلف أنواع القراءات طبقًا لاختلاف معايير ثلاث[2][2]:
المعيار الأول: معيار القارئ: وتكون القراءة طبقًا لهذا المعيار عبر التلقي المباشر حيث القراءة الاستدلالية، والاستبطانية التي يشارك فيها المتلقي في تشكيل وإنتاج معنى جديد للنص.
المعيار الثاني: معيار الغرض من القراءة: حيث القراءة التفسيرية أو التأويلية أو التحليلية/التركيبية.
المعيار الثالث: معيار المنهج: وفيه تأخذ القراءة طبيعة المنهج المتبع فيها ومنها: القراءة التاريخية، القراءة الاجتماعية، القراءة النفسية، القراءة البنيوية، القراءة التفكيكية.
ويميز “روبير اسكاربيت[3][3]” من منظوره الاجتماعي للأدب بين نوعين من القراءة:
ويعرض تزفتان تودروف[4][4](Todorov) ثلاثة أنواع من القراءة:
النوع الأول: القراءة الإسقاطية: لا تلتزم بالنص، ولا تركز عليه، وتتجه ناحية المؤلف أو المجتمع، وتتعامل مع النص على أساس أنه وثيقة تاريخية أو اجتماعية تقرر إشكالية أو قضية معينة، فهي تنطلق من خارج النص حيث يسقط القارئ مرجعياته الاجتماعية والثقافية على النص.
النوع الثاني: قراءة الشرح: تلتزم بالنص، ولكنها لا تغوص في أعماقه لتكشف كوامنه وخفاياه، فهي أسيرة المعنى الظاهري للنص فقط، ولا شيء غيره، ولذا فإن شرح النص فيها يكون بوضع كلمات بديلة لنفس المعنى أو من خلال تكرار ساذج لنفس كلمات النص بدون أي إبداع، فهي قراءة تعيد صياغة المكتوب بلغة مغايرة.
النوع الثالث: القراءة الشاعرية: أصلها متحدر من الكلمة اللاتينية Poetica التي تعني عند الفرنسيين في القرن السادس عشر: كل ما هو مبتكر مبتدع خلاق، وخلال القرن السابع عشر ظهر المصطلح بالمفهوم الأرسطي الذي عنى به: فعل أو صنع، ثم أخذ المفهوم بعد ذلك في التطور من المعنى الواسع: الصنع والابتداع والابتكار إلى معنى ضيق ومحدود ليشير إلى: فن التأليف والأسلوب الخاص بالشعر. وعد كل من تودوروف ودوكرو الشاعرية باعتبارها “نظرية للأدب”. هذا المصطلح قديمًا ترجمة العرب إلى بوطيقا أوالى فن الشعر-وقد اعتبر عبد القادر الجرجاني أن اللغة المجازية هي نبض الشعرية ومع مرور الوقت أصبحت الشعرية أحد فروع علم الجمال الفلسفي في بداية القرن الثامن عشر. ويعرف ياكبسون مفهوم الشعرية: بأنه كل ما يجعل من رسالة لفظيه أثرًا فنيًّا. هذه القراءة وخاصة عند تودروف تركّز على البنى الداخلية للنصوص وكيفية انتظامها، والتزامها بشروط الإبداع باعتبار أن الشعرية لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل معرفة القوانين التي تنظم ولادة كل عمل إبداعي.
واقترح ريفايتر[5][5] قراءتين في سياق حديثه عن طبيعة العلاقة الجدلية بين النص والقارئ:
وكشف لنا جاك لينهاردت[6][6] عن ثلاثة أنماط من القراءة:
النمط الأول: القراءة الوقائعية Factual: وهي قراءة تتوقف عند سطح النص ولا تتخطاه، حيث يكتفي فيها القارئ بإعادة إنتاج الوقائع والأحداث كما هي في النص بدون تقييم نقدي فهي قراءة خطية للنص.
النمط الثاني: القراءة العاطفية Emotional : وهي القراءة التي يحكمها الحكم القيمي العاطفي، فعند قراءة النص الأدبي يقوم القارئ بترك العنان لعواطفه وقيمه في الحكم على العمل الأدبي ذاته، فيؤيد أو يلوم أو ينقد الشخصيات الماثلة في العمل الأدبي، ويؤكد الكاتبان جاك لينهاردت Jacques Leenhardt وبيير يوجاPierre Jozsa أن هذه القراءة تتأسس على قيم اجتماعية/ثقافية/أخلاقية لدى القارئ، هذه القيم تقوم بوظيفة المثل الأعلى فقد يدين القارىء سلوكًا معينًا للشخصيات ويتهمهم بأنهم أكثر عنفًا أو قسوة، أو يتهمهم بالضعف أو بالليونة أو بالتردد، ويوضح غياب القوة والإصرار لديهم، فهذه الشخصيات تدان طبقًا للإطار القيمي للمتلقي.
النمط الثالث: القراءة التحليلية/التركيبية Analytico – Synthetique وهي القراءة التي تعمل على شرح وتفسير سلوك الشخصيات في النص دون تأييدها أو إدانتها، ويسعى القارئ من خلالها إلى تفكيك وحدات النص ثم كشف علاقاته المتشعبة والوقوف على أسبابه وعلله.
وفي كتاب البنيوية وما بعدها يميز جون ستروك[7][7] بين نوعيين من القراءة:
النوع الأول: القراءة الكامنة: وهي التي يمكن استخلاصها من مجموع العلاقات القائمة في النص نفسه، أي إنها كامنة فيه.
النوع الثاني: القراءة المتعالية: هي القراءة التي تعتمد على معلومات في خارج النص كالسيرة والمعطيات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي تكون حاضرة أثناء قراءة النص.
ويميز محمد عابد الجابري[8][8] بين ثلاثة أنواع من القراءة طبقًا لمعيار القارئ مع النص:
النوع الأول: القراءة الاستنساخية، أو ما يطلق عليها ذات البعد الواحد: هي قراءة تكون خاضعة للنص ترى وترصد ما يراه ولا شيء خارجه، فهي لا تكشف إلا ما يكشفه النص، ولا تتكلم إلا بلسان النص، لتقدّم لنا تعبيرًا مطابقًا لوجهة النظر الصريحة المكشوفة التي يتبناها صاحب النص دون سبر أغوار النص وكشف ألغازه، وهي قراءة تأويلية طبقًا لرأي الجابري.
النوع الثاني: القراءة الاستنطاقية: هي قراءة واعية لكونها تأويلًا تحاول بكل إخلاص أن تساهم في إنتاج معنى النص، وإعادة بناؤه في بنيان متماسك ومنسجم، ليكون معبّرًا عن رؤى وتصورات المؤلف والقارئ معًا، لأن هذه القراءة ذات بعدين: البعد الذي يتحدث منه مؤلف النص، والبعد الذي يتحدث منه القارئ، ومن هنا تكون القراءة ناجحة إذا استطعنا توظيف البعدين معًا في بناء جديد يبدو متناسقًا ومتماسكًا. وهذه القراءة لها مستويان: الأول: مستوى البناء الذي ينطق به النص، والثاني: مستوى استنطاق النص، وذلك للكشف عن بناء آخر ملازم للبناء المباشر المقدم. ورغم أهمية هذه القراءة إلا أنها كسابقاتها تعمل على إخفاء التناقضات والأيديولوجيات المتصارعة في النص بعد تبريرها وتذويبها عن طريق التأويل.
النوع الثالث: القراءة التشخصية: وهذه القراءة تحاول أن تكشف المستور، والمسكوت عنه في النص، كما تحاول أن تبرز عمليات التهميش والإقصاء في النص، وهي تجاهد لكي تقوم بموالفة بين القراءتين السابقتين: القراءة الاستنساخية، والقراءة الاستنطاقية، من أجل كشف وتشخيص تناقضات النص سواء على مستوى السطح أو العمق أو البناء، وكشف تناقضات ونقائض المتكلم في النص. ويتحدد هدف هذه القراءة في تفكيك النص والكشف عن تهافت النص وتعريته من تناقضاته ونقائضه. فالهدف الأسمى لهذه القراءة هو تشخيص العلامات اللامعقولية في النص.
لا جدال أنه يوجد عدد لا يمكن حصره من أنماط القراءة المختلفة طبقًا للمعايير السابقة الذكر مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المعايير ليست مطلقة وإنما هي نسبية، متغيرة، وليست ثابتة فيمكن أن يكون لها أو عليها، وبالرغم من ذلك فهي تشترك في هدف أساسي وهو الكشف عن المعنى والمقصد الذي يبغيه النص وصاحبه، فكل نمط قرائي يكشف لنا عن جانب معين في النص، ولذلك نرى أن هذه القراءات لا تصارع بعضها البعض، ولكنها تنسجم وتتكامل ويبنى عليها، ويمكن صهرها في بوتقة واحدة من أجل الكشف عن المعنى والمغزى من النص، بشرط أن تكون منسجمة مع العقل والواقع، ولا تحرّف الكلام عن مقصده وموضوعه، ولا تلوي عنق النص لإيهام المتلقي بوقائع وقضايا معينة، هي أساسًا ليست موجودة في النص.
[1][9] حبيب مؤنسي، القراءة والحداثة: مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية، (دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب، مكتبة الأسد، 2000)، الصفحة 216.
[2][10] اعتدال عثمان، إضاءة النص، (بيروت: دار الحداثة للطباعة والنشر، 1988)، الصفحة 217.
[3][11] حبيب مؤنسي، القراءة والحداثة، مرجع سبق ذكره، الصفحتان 211و 212.
[4][12] لمزيد من التفاصيل؛
[5][13] عزيز محمد عدمان، حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص الأدبي(مقال) منشور بمجلة عالم الفكر، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مجلد37، العدد الثالث، يناير 2009، الصفحة 83.
[6][14] بيير زيما، النقد الاجتماعي، نحو علم اجتماع للنص الأدبي، ترجمة عايدة لطفي، (القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع،1991)، الصفحتان 319-320.
[7][15] جون ستروك، البنيوية وما بعدها: من ليفي شتراوس إلى دريدا، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، عدد206 فبراير1996، الصفحة 17.
[8][16] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر: دراسة نقدية تحليلية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة 5، 1994)، الصفحات 11-13.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13767/naslkoraan/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.