تقرير ندوة الهوية الحضارية والسردية الذاتية

تقرير ندوة الهوية الحضارية والسردية الذاتية

عقد المنتدى الدولي للحوار المسؤول، ندوة حوارية[1] على مدى يومين متتاليين في مركز معهد المعارف الحكمية، بعنوان: “الهوية الحضارية والسردية الذاتية”. أدارها في اليوم الأول: الأستاذ عدي الموسوي، وشارك فيها كل من: الدكتور حسين رحال، والأستاذ مصطفى الحاج علي.

افتتح الأستاذ عدي الموسوي الندوة مرحّبًا بالضيوف والمستمعين الكرام، ثم تحدث عن أهمية الموضوع وقال: لن أخوض في جدليات الفرق بين الثقافة والحضارة والمدنيّة وانزياحاتها الدلالية ما بين المدارس المعرفية المختلفة. بل ربما يجدر بنا أن نشير إلى ما عُرف بمشروع الخطوة الثانية، الذي تحدث عنه الإمام الخامنئي قبل سنتين تقريبًا. وتشخيصه للهدف الاستراتيجي الذي على المشروع الإسلامي السعي لتحقيقه، وهو الانتقال من مرحلة النظام السياسي المحكوم والحامل للقيم الثقافية الإسلامية، إلى مرحلة النظام السياسي المنتج للحضارة الإسلامية المعاصرة.

وقال: تأتي وقائع هذه الندوة ضمن هذا السياق الإحيائي الذي يتطلّب جهدًا معرفيًّا تأصيليًّا، ينطلق من قراءة في السرديات الثقافية الذاتية، وصولًا إلى تأصيلٍ حضاريّ واضح. وسنكون في وقائع اليوم الأول من هذه الندوة تحت عنوانين: الأول: موقعية المقاومة في تثبيت الهوية الحضارية، والثاني: من الثورة إلى بناء الحضارة.

ثم أعطى الأستاذ عدي الموسوي الكلام للدكتور حسين رحال[2]، الذي تحدث عن الهوية والثقافة وروح الأمة والحضارة، مبتدئًا من موقعية المقاومة في تثبيت الهوية الحضارية. وقال: سوف أتحدث قليلًا عن بعض المصطلحات والمفاهيم الواردة، وسأبدأ من الحضارة وعلاقتها بالهوية. حيث إن هناك كثير من الجدل في العلوم الاجتماعية، ولكني سأقارب الموضوع من داخل علم الاجتماع، وبخاصة في علم الاجتماع الثقافي، باعتبار أنّ هذا الموضوع جزء أساسي من النقاش الدائر هناك.

وقال: اللافت هو التنوّع الفرنسي الألماني في السياقين الثقافيين الحضاريين الألماني والثقافي. حيث كان الألمان يتحدثون عن روح الأمة في الثقافة، ويعتبرون أنّ الحضارة هي التقدم والرقي والتطور المادي والتقني والعمراني في المجتمع، وهم منحازون إلى ثقافة المجتمع. ولاحقًا تم استخدام المصطلحين كأنهما رديفَين.

وبيّن أنّ هناك علاقة واضحة بين الهوية والثقافة. وقال: تركز الهوية على ما هو واعٍ في الثقافة المشتركة لأمة أو لجماعات معينة. وتلعب لعبتها في الاختلاف والائتلاف في ما هو جزء من، وما هو ليس جزء من. لذلك تتعلق المسألة أحيانًا بسياقات الظروف.

ويرى الدكتور رحال أنّ هناك ما هو قارّ في الهوية، وما هو متجدد يمكن أخذه وبناؤه، وهذا الرأي مأخوذ من العلوم الاجتماعية. والتعريفات الأساسية القديمة للهوية جاءت على أنّها جوهرانية صلبة غير قابلة للتغيير. وهو مخالف لرأي العلوم الاجتماعية القائلة إنّ في الهوية ما هو متّسع للدمج وللاستبعاد والإقصاء، الذي يدخلنا في صراع كبير على دور الهوية في الدولة والسلطة والصراع السياسي، باعتبار أنّ مرجعية الهوية تحدد شرعية الانتماء للدولة وللمجتمع.

ولفت إلى أنّ الهوية يمكن أن تكون قابلة للزوال والتفكك كما حصل في الدولة اليوغوسلافية والدولة العثمانية. معتبرًا أنّ النجاح هو مصدر أساسي من مصادر فرض ناعم للهوية. وتدرس العلوم الاجتماعية أيضًا علاقة الرموز الثقافية بالهوية، وعلاقة الهوية بالذاكرة الجماعية وهو مورد نقاش في أوروبا. وهي مركبة أنّها طبقات وأبعاد نتيجة علاقتها بالديناميكية الاجتماعية وتطور معرفتنا وتطورها في علاقتها مع المجتمع.

وأشار الدكتور رحال إلى أنّ أول من لفت إلى مشكلة الهوية عند تأسيس لبنان الصحافي جورج نقاش في مقال قال فيه: “إنّ وطنًا لا يُبنى على نفيَين لأنّ في الهوية ما هو إيجابي للدمج، لم يتشكّل في لبنان مادة تدمج كثيرًا اللبنانيين في مشروع الدولة”.

وفي العودة إلى ديناميكيات تكوّن الهوية في العلوم الاجتماعية قال: إنّ النص لا يعني شيئًا دون أن يكون التحدي وبناء الهوية جزءًا من الصراع الاجتماعي، لأنّ الهوية تنبني، ولم يستطع اتفاق الطائف ترجمة هذه الصيغة إلى أمر اجتماعي عملي. إلى أن جاءت المقاومة وتطور عملها ما أدى إلى تكوين هوية جديدة للبنان، تستطيع الجماعة التي قاومت تقديم نفسها على أنّها بيئة المقاومة. وعندما امتدت المقاومة إلى العالم العربي أصبح هناك هوية تُعرف عند الآخر عن لبنان أنّه بلد المقاومة.

وبيّن الدكتور رحال أنّ الهوية متعددة الطبقات والأبعاد، فلا تلغي طبقة منها طبقة أخرى. وهي انطلقت من أن تكون إسلامية وفي الوقت نفسه وطنية، وقد أدركت المقاومة ذلك. وهي تنطلق من الذاكرة الشعبية لبيئتها وليست غريبة عنها.

وتابع قائلًا: لقد عززت المقاومة روح الانتماء إلى الجماعة من جهة، وإلى الهوية المشتركة لكل العرب. وعلى مر النضال الفلسطيني لدينا ذاكرة جماعية تتعلق بهذا الجانب، ولكن هذا البعد يمكن طمسه مع فشل المشروع العربي والناصري والقومي واليساري في تحرير فلسطين، أو في الصمود في وجه العدو الإسرائيلي في لبنان أو غير لبنان. عليه، فإنّ المشروع الذي يحمل جانب من الهوية ويفشل ينعكس على الهوية نفسها لأنّه لم يكن ناجحًا.

ولفت إلى أنّ المعركة الأخيرة (سيف القدس) استطاعت أن تحبط مفاعيل صفقة القرن وتضرب فكرة التطبيع. وصار أبو عبيدة هو الرمز الفلسطيني والعربي، واستعدنا فلسطينيي 1948، لأننا قدمنا مشروعًا مقاومًا من داخل ثقافتنا، وفي نفس الوقت هو ناجح ولا يتناقض مع الانتماءات.

ثم قال: لقد كرّست المقاومة عملها في لبنان وفي العالم العربي، وكرست نجاح مشروع فشلت الدول فيه، وفشلت المقاومات الأخرى فيه، وهي تمثّل الأمل لأن تكون رافعة الهوية ورافعة المشروع النهضوي العربي في كل الدول العربية.

بناءً على ذلك يوضح الدكتور رحال أنّ الهوية وفق العلوم الاجتماعية تنبني ويُعاد إنتاجها بالنجاحات، وسنغافورة مثال على ذلك، كما أنّ فشل الدولة في العراق جعل الناس تترحّم على الاستبداديين ما قبل الدولة.

ولفت الدكتور رحال إلى أننا استطعنا جزئيًّا تكريس هذه الهوية. ويمكننا في السياسة أن نتكلم عن عرف سياسي ودستوري يعطي الاستراتيجية الدفاعية حقها، وهذا ما يكرّس الاستراتيجية الدفاعية القائمة على الثلاثية التي تعرفونها.

وختم الدكتور حسين رحال كلامه قائلًا: تُكرّس الهوية في المناهج التربوية في تحويل رموز المقاومة إلى رموز للذاكرة الجماعية للشعب كله من خلال التسميات، كتسمية الشوارع والمؤسسات وكتاب التاريخ والتربية الوطنية والمناهج التربوية، وهذا عمل كبير ناقص عندنا. إنّ تكريسنا لهذه الهوية واستمرارها ضروري أن يكون في مجال إعادة إنتاجها، والتي تنسجم مع السياق الثقافي العربي. لا بد من العمل على ترسيخ هذه الهوية النضالية في الثقافة والذاكرة الجماعية وهو أمر بالغ الأهمية.

بعد ذلك انتقل الكلام إلى الأستاذ مصطفى الحاج علي[3] الذي عبّر عن شكره لمعهد المعارف الحكمية على الدعوة وللدكتور حسين رحال لما مدحه فيه، وما وفر عليه من بعض الكلام عن التأسيسات الأساسية المتعلقة بالموضوع الثقافي والحضاري. وقال: أنا لا أتبنّى عنوان البحث المقترح بحرفيّته لأنّه يفترض ضمنًا الثورة كنقطة بداية والحضارة كنقطة وصول ونهاية. بل أنا ممن يؤمنون بالمماهاة بين الثقافة والحضارة. وحتى الذين يميزون بين الثقافة والحضارة يذهبون إلى أنّ الحضارة في النهاية هي أحد تمظهرات الثقافة.

وأشار إلى أنّ هناك تلازمًا بين موضوع الثقافة وموضوع الحضارة. وهناك تعريفات كثيرة أعطيت للثورة تميز بين الثورة الثقافية والسياسية والاجتماعية، فصارت الثورة مفردة تطلق بالعموم على كل فعل له عامل اجتماعي ما، ويقوم بعمل تغييري ما خاصة إذا كان هذا العمل عميق الجذور ويطال البناءات الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية أو السياسية.

وتابع الأستاذ الحاج علي: إنّ فعل الثورة يشتغل بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وهو قرار بالانعتاق من أفكار الماضي والحاضر مجذوبًا بالتوق إلى المستقبل. وليس الزمن هو البعد الذي يحكم الثورة وإلا صارت مجرد حدث مضى. والثورات الحقيقية هي فعل خلّاق تقوم به الشعوب ويتجاوز الزمن، لذا هي محكومة بدفق الحياة.

وأضاف قائلًا: ليست الثورات مرحلة تطوى، وإنّما هي فعل وجودي مستمر ومتواصل يطوي مراتب الوجود في انشداده اللامتناهي ونزوعه الإنساني المتسامي نحو الكمال النهائي. والثورات في كل مرتبة ترتدي ثوبًا جديدًا يناسبها وهي تؤطر قصتها الخاصة في إطار قصتها الأشمل والأوسع التي ليست إلا قصة التفتّح والازدهار الإنساني في كل أبعاده وتجلّياته.

ورأى الأستاذ الحاج علي: أنّ السياسي إمّا أن يلتزم المجتمع وإما أن يقهره. والالتزام يفجر أجمل وأسمى ما في المجتمع، بينما القهر يكبت ويكبح ويعطّل أجمل وأسمى ما فيه. والقهر يؤسس للثورات ويمنحها بُعدها الإحيائي والكينوني، لأنّ السياسي القاهر يحوّل بقهره المجتمع إلى أشياء.

بعد ذلك أشار إلى تفاعل متبادل بين التغيير الاجتماعي والتغيير، الذي يحدث في الشخصية الاجتماعية، والعلاقة بين الشخصية الاجتماعية والبنية الاجتماعية. وقال: العامل البشري يبقى مفتاح القصة كلها باعتباره واسطة التفاعل والتأثير المتبادل. والتغيير مشروط ليس بالوعي المجرد فحسب، وإنّما بحدوث تغيير عميق في الضمير الإنساني، وبظهور شيء جديد يكرّس الناس حياتهم من أجله، ويحلّ محل ما هو موجود الآن حتى لو تطلّب التضحيات. وهنا تكمن أهمية مقولة الإيمان والدوافع الدينية لما تملكه من قدرة على حقن القناعات العقلية بحرارة وطاقة وشغف دافعة للرجال والنساء لإنجاز التغيير المطلوب.

وأكّد الأستاذ مصطفى الحاج علي أنّ سماحة السيد القائد يضع الثقافة بندًا أولًا في جدول اهتماماته وهمومه. وهي هنا عملية إجرائية وعملية أكثر منها نظرية، لذا نراه يتبنى التعريف الرائج للثقافة ببعدها الذاتي وهو العقل، وبعدها الموضوعي الذي يشمل مجموع العادات والأوضاع الاجتماعية، والآثار الفكرية والأساليب الفنية والأدبية، وأنماط التفكير والإحساس والقيم الذاتية في مجتمع معين.

وبيّن أنّ غالبية المواقف الفكرية لسماحة السيد القائد المتصلة بالثورة والثقافة في إيران تتعامل مع مهمّتين أساسيتين:

الأولى: داخلية تركز على قيمة ومنزلة الثقافة وتشخيص أمراضها ونقاط ضعفها ونقاط قوتها، وصولًا إلى تحديد الإجراءات العملية لكيفية الاستفادة من عوامل القوة هذه، ومعالجة عوامل الضعف والإمساك بأسباب النهوض مجددًا.

الثانية: خارجية تركز على البعد الصراعي والتنافسي خصوصًا، ومع الغرب عمومًا والولايات المتحدة تحديدًا. وهو يرى أنّ الموقع المتقدم لإيران ودورها الوظائفي الإنساني والحضاري لا يستقيم من دون خوض معركة متواقتة على الجبهتين الداخلية والخارجية. لأنّ المعركة الداخلية فضاؤها الاستراتيجي خارجي والمعركة الخارجية مردودها الاستراتيجي داخلي.

وفي سياق متصل مع ما سبق قال الدكتور الحاج علي: يقيم سماحته تلازمًا موضوعيًّا بين الحرب والثورة، وبين الأخيرة والثقافة. والعلاقة بينهما قديمة قِدم الثورات ذاتها، التي إما مسبوقة وإما مصحوبة بحرب للتحرير، وإما مؤدية إلى حروب دفاعية وعدوانية، كما هو حال الثورة الفرنسية مثلًا.

ورأى أنّ الثورة الثقافية ملازمة للثورات والثقافات من دون مسيرة التاريخ وقوانين التطور والصراع والتنافس، وهي ميدان التوحّد، ثورة في الثقافة وثقافة في الثورة. والثقافة بكل شعبها بمثابة الروح من أي مجتمع. وهي أهم من القضايا الاقتصادية والسياسية لأنّها تحدد هوية أي شعب وشاكلته المعنوية. وهذه الهوية هي التي يجب على الجميع حراستها والسعي فيها والدفاع عنها.

وأكّد الأستاذ الحاج علي، على ضرورة تقوية المسألة الثقافية لتصبح المسألة الأولى من خلال أسس محكمة ومؤسسات فعالة لأنّ ذلك هو ضمانة تقدم البلد في جميع المجالات. والدور المصيري للثقافة بحسب سماحته لا يطال الواقع الحاضر فحسب، وإنما لها دور مشهود في صناعة المستقبل. مبيّنًا أنّ ضعف العامل الثقافي هو السبب في سقوط الحضارات وزوال المدنيّات.

وكخلاصة لما تقدم، استخلص الأستاذ الحاج علي ما يلي:

 أولًا: إنّ القضية بالنسبة إلى الإمام الخامنئي هي مهمة جهادية نضالية، تستدعي تشريح الواقع الثقافي والإمساك بوسائطه المتنوعة ضمن برنامج عمل واسع يرمي إلى تحقيق أهداف الثورة الإسلامية.

ثانيًا: الكينونة هي الحقيقة الأسمى بكل ما كان وكل ما يكون وكل ما سوف يكون. ولأنّ روح الثقافة هي الإسلام في إيران، فإنّ جوهر هذه الثقافة يتقوّم بمدى علاقتها مع الله بما هو الحقيقة الأسمى التي تمنح هذه الثقافة بعدها المتعالي وعمقها الميتافيزيقي.

ويوضح الأستاذ الحاج علي أنّ الهدف الكلي لحقارة الدنيوي هو تحقيق ثقافة التملك والاستحواذ في عملية اشتهاء لا نهاية لها إلا الدمار الإنساني. وتعمل العولمة بما هي أداة للهيمنة على تفكيك العلاقة بين الثقافة والمجتمع من خلال تغريب مضامينها، وتفكيك وسائطها وتعليق أدوارها.

وختم الأستاذ مصطلفى الحاج علي بالقول: تقدم العولمة ثقافة الدالّ الخالي من أي مدلول، لأنّها لا تفقه إلا ثقافة السلعة التي تعزز ثقافة التملك والاستهلاك. والمطلوب هو تشيئة كل شيء تسهيلًا للاستحواذ عليه من الخارج. كما أنّ المطابقة بين السياسي والسلطوي له ممر أساسي هو تفكيك الدولة ككيان ما يسهّل الاستحواذ عليها والنفاذ إلى مكوناتها والهيمنة عليها. وعندما يجري تخريب وإفساد الثقافة المحلية يسهل تحويلها إلى ثقافة تابعة لا تملك حتى إرادة التبعية، وهذه أخطر أشكال التبعية لأنّها تسلب التابع حتى وعيه لنفسه كتابع، وتوقعه في فخ الظن بأنه يحسن صنعها.

 

وفي اليوم الثاني للندوة[4] عقدت الحلقة الثانية بإدارة الأستاذ حسن خليفة. شارك فيها كلّ من: الدكتور أحمد ماجد والأستاذ هادي قبيسي. وقد افتتح الأستاذ حسن خليفة الندوة بالترحيب بالضيوف الكرام.

وكانت البداية مع الدكتور أحمد ماجد الذي تحدث عن مميزات الهوية عند الإمام الخامنئي (الهويات من الصراع إلى التنافسية)، وبيّن كيف أنّ الحضارة تعكس حضور الإنسان نحو الصلاح من وجهة نظر الإمام الخامنئي، وهي تنطلق من التوحيد والوحي والقرآن الكريم والمعنويات والتقوى. فابتدأ بتقديم عرض سريع لمسار بحثه، ثم عرّف الهوية والحضارة لغة واصطلاحًا. وقال: الهوية لغة من هوى، وهو: العشق ويكون في الخير والشر. ويأتي بمعنى سقط، ويقال أيضًا للبئر العميق “الهوية” من هَوى. أما اصطلاحًا، فالهوية هي: “الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة”. وقالت الموسوعة الفلسفية إنّ الهوية هي “مصطلح فلسفي يستدلّ به على كون الشيء هو نفسه”. فهذا المفهوم استخدم للكشف عن حقائق الأشياء، وهو يسعى إلى تعريف حقيقة الموجود.

أما الحضارة لغة فهي من حضر، وتأتي بمعنى قدم وأقام. أما اصطلاحًا فقد تنوعت تعريفاتها، فقد اعتبر ابن خلدون أنّها التفنُّن في الترف، وإحكام الصنائع في وجوهه ومذاهبه، وهي تتجلى في العمران. بينما ذهب ويل ديورانت إلى القول إنّها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. في حين جعلها فروخ العادة التي يسير عليها الناس في حياتهم العامة والخاصة في قطر من الأقطار وفي زمن من الأزمان. وذهب الكروي إلى أنها قصة الإنسان في كلِّ ما أنجزه على اختلاف العصور، وتقلّب الأزمان.

ولفت الدكتور ماجد إلى أنّ جميع هذه التعريفات الاصطلاحية ذهبت إلى المنجز سواءً أكان فكرًا أو عمارة أو قيمًا، وإن كان ابن خلدون قد ربطها بالغاية المتمثلة بالترف.

وعن الهوية الحضارية، قال: تدلُّ على المضمر والمؤسس وتذهب باتجاه العياني الملموس، وهي تعطي الحضارات أبعادها الحقيقية، وتجعلها عنصرًا قابلاً للتعريف. وقد ركز القرآن الكريم على أنّ مرجعية الحضارة هي الأصل من خلال آثارها التي تصلح لكي تكون مثلًا يعتبر به الإنسان من أجل صياغة حياته من جديد. من هنا وردت الآيات التي تدل على الأمم الغابرة باعتبارها سننًا يجب أن تدرس من أجل معرفة حركة الإنسان في التاريخ.

وعن الهوية الحضارية عند الإمام الخامنئي قال الدكتور ماجد: ينطلق الإمام من مفهوم أصالة الإنسان في الإسلام، فهو عزيز ومحبوب من منظور الخلق والإنشاء الإلهي، ولكن لا بد من التوجه إلى الله عزّ وجلّ في كلِّ خطوة يخطوها. وقد كرّمه الله ومنحه مواهب يستطيع من خلالها أن يصل إلى كمالته، وقسم هذا التكريم إلى: تشريعي وتكويني، ويتمثل الأول في إرسال الرسل والأنبياء إلى الخلق من أجل أن تتكامل حياة الإنسان. والثاني يظهر من خلال ما يتمتّع به الإنسان من بين موجودات هذا الكون بمواهب إلهية وقابليات معيّنة تميّزه عن سائر المخلوقات.

وأضاف أنّ الحضارة بحسب رأي الإمام الخامنئي، تتأسس على البعد الوحياني الذي يسعى الأنبياء إلى تحقيقه عبر سياقين: الوحي من جهة، والعمل المطابق للوحي الذي يقوم به النبي أو الولي ليرشد الناس إلى كيفية تطبيقه من جهة أخرى. فالنبي هدف إلى إيجاد بيئة سليمة لحياة الإنسان لا يسودها الظلم ولا يحكمها قانون الغاب. وبناءً على ذلك فإنّ الهوية الحضارية هي التي تجعل المجتمع أكثر قدرة على مواجهة الصعاب، فإذا ثبتت أركانها أعطتها القدرة على مقاومة الانزلاق والانحراف عن المسير الحقيقي في تاريخ الإسلام.

وتابع الدكتور ماجد قائلًا: يعتبر الإمام الخامنئي أنّه لا يجوز أن تختلط الهوية الحضارية الحقيقية للإنسانية بالهويات الأخرى على مستوى الأهداف القصوى. وهذه الهوية ليست حكرًا على الإسلام، إنّما هي موجودة في كلّ دين أصيل. كما ويعتبر الهوية الدينية هدفٌ أقصى لا بد من العمل على تحقيقه. والهوية القومية هوية معتبرة لا بد من ضبطها ضمن السياق العام للدين، فهي بمثابة العمود الفقري للشعب، كما أنها تحمل الميزات الثقافية التي إذا تشوهت أدت إلى تشوه الدين نفسه، وهي تمثل خصوصية الذات.

وعن مباني الهوية الحضارية عند الإمام الخامنئي، قال الدكتور ماجد: تستند على البعد القرآني بدلًا من التاريخ والمظاهر المادية للحضارة، وهذا يعود إلى النظرة الكونية التوحيدية لديه، التي تقوم على مجموعة من الأسس، هي:

أولًا: التوحيد، وهو قيمة القيم الذي من خلاله تبنى حياة الإنسان بكلِّ تفاصيلها. لذلك يجب أن لا يستهان بالعلاقة مع الله فهي تعطي المعنى لحياة الإنسان، وما ينطبق على الأفراد ينطبق على المجتمعات الإنسانية. وقد ذهبت الأنظمة الرأسمالية وراء التطور العلمي والصناعي في دولها وحققت الكثير من الأهداف، ولكنها تناست القدرة الإلهية، وهذا ما قادها نحو الاستكبار والعتو، فتحولت إلى مجرد قوة عمياء لا تهتم إلا بمصالحها الخاصة على حساب المصالح الإنسانية.

واعتبر أنّ الحلّ الحقيقي لنمو الإنسان والحضارة بشكل سليم لا يكون إلا من خلال التوحيد والعبودية لربِّ العالمين، والإقرار بعظمته. وهذه العبودية أينما وُجِدت وُجِد الإسلام معها، لذلك ليست الثورة من أجل أن يأتي أشخاص ويذهب آخرون، بل هي لأجل أن تغيّر القيم السائدة في المجتمع كي تكون عزة الإنسان وشرفه في عبودية الله.

ثانيًا: القرآن أو الوحي، فالقرآن الكريم هو كتاب حياة ودستور صادر من جانب الباري عزّ وجل ليطبق في مجال تربية الإنسان وكيفية تنظيم شؤون الحياة ودفعها نحو المستقبل. وبمعزل عنه يفتقد الإنسان الهداية والوعي السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، لذلك نحن بحاجة إليه. وهو يمنع المسلم من الوقوع تحت رهبة الخوف من الأعداء والمستكبرين. فبالنسبة إلى الإمام الخامنئي لا بدّ من أن يعاش القرآن في كلِّ مفصل من مفاصل الحياة. وله حجية على المسلم بالرجوع إليه في كلّ عمل يقوم به وفي كلّ معرفة يتلقاها.

ثالثًا: المعنويات، فالإسلام ثورة إنسان جديد. وهذا الأمر لا يتم إلا من خلال ركنين أساسيين هما: المعرفة التي تتكئ على النصوص الإسلامية، وإيمان صحيح يقوم على المعنويات. ولكي نصل إلى إنسان يحمل هاتين الصفتين، لا بد من:

  • معرفة الذات وينسحب على المجتمع والجماعات.
  • تزكية النفس وإصلاحها وهي نقطة الانطلاق المركزية لإصلاح العالم من وجهة نظر الإسلام، حيث تعتبر مبدأ لتحقيق كل النتائج.
  • التقوى، وهي قيمة مركزية من القيم التي تبنى عليها الحضارة الإنسانية، لا تقف حدودها ونتائجها على الأفراد، بل هي تؤثر على مجمل الحياة الإنسانية.
  • العقلانية، فقد جعل الإمام من العقلانية أساس قيام الحضارة، وهي ترتبط بالنظرة الكلّية للإسلام وبالأحكام الإلهية. وهي ليست فردية نفعية وإنّما هي عقلانية تتبناها الجماعة، لذلك لا مناص لإيقاظ العقل الجمعيّ سوى التشاور والمناظرة.
  • العدل، فقد سعى الإمام إلى ترسيخ قواعد ثابتة للمجتمع من أجل إنشاء الحضارة، فجعل من العدل أولوية، لأنّه يدخل في صلب كلّ دعوة دينية. ويمتد تأثيره على كثير من الأمور المستقبلية حتى تلك التي تتعلق بالطبيعة. ولا بد من فهم بعده الأخلاقي الذي يتوجه إلى الناس، ويعمل على ارتقائهم من الجانبين الروحي والمادي عبر إيجاد بيئة سليمة لحياة الإنسان لا يسودها الظلم.

ثم بيّن الدكتور ماجد أنّ الهوية الحضارية للإمام الخامنئي تمتاز بطابعها الإسلامي، القائم على أساس وعي الإنسان لدوره بالخلافة على الأرض. وفي هذه الرؤية يختلف الإمام عن النظريات الغربية التي بنت رؤيتها انطلاقًا من الواقع المادي في كيفية بناء الحضارة. حيث رأى آسولد اشبنجلر الحضارة شبيهة بالكائن البيولوجي الحي تمرّ بمراحل وتتشكل نتيجة ظهور روح كبيرة، تساهم في تحديد المصير. وتقوم نظريته على القضاء والقدر والصدفة المتحرّرة من القوانين. وهنا نرى قاعدة الخلاف بينه وبين الإمام الخامنئي في المنطلقات التأسيسية للحضارة، حيث يميل الإمام إلى جعلها غاية إلهية ترتبط بعمران الأرض لإيصال الإنسان إلى كمالاته، في حين أنّها عند الثاني نتيجة الصدفة وهي من نتاج التاريخ البشري.

وأشار الدكتور ماجد إلى ما قد يُقال بأنّ وجهة شبنجلر ليست هي الوحيدة في الحضارة الغربية. فقد اعتبر أرنولد توينبي أن تكوين الحضارات هو نتاج تفاعل، وركز على مفهوم التحدي الذي تتعرض له الشعوب والاستجابة التي تصدر عنها للحفاظ على الذات. وعلى أساس الصراع وضع أسس نظريته، سواء ضد الآخرين أو المجموعات البشرية فيما بينها.

ولفت الدكتور ماجد أنّ الإمام الخامنئي يؤكد قيام الثورة الإسلامية في إيران على أرضية مجاهدة المنظومات الفكرية السائدة في العالم، وعملها على مواجهة التحديات التي اعترضتها. وهذا ما أدى إلى: ضمان استقرار البلاد ووحدة أراضیها وصیانة حدودها التي تعرّضت لتهدیدات جادّة من قبل الأعداء. وأضحت هي الدینمو المحرّك في میادین العلم، وإيجاد البنی التحتیة الحیویة والاقتصادیة والعمرانیة. وارتقت بمستوی التفكير السیاسي لأبناء الشعب ونظرتهم للقضایا الدولیّة. وأخرجت عملیات التحلیل السیاسي وفهم القضایا الدولیة في موضوعات جرائم الغرب وقضیة فلسطین وقضیة إشعال القوی المستكبرة للحروب وممارساتها الخبيثة وتدخّلاتها فی شؤون الشعوب وما إلی ذلك.

بعد ذلك تطرّق إلى الهوية الحضارية في الغرب وقال: هي هوية صراعية تنظر إلى الحضارات الأخرى بعين الريبة، ولا ترى إمكانية للتعايش معها أو استيعابها إلا بعد إخضاعها لمنظومتها الثقافية وتبني قيمها بشكل تام. وقارن بين مشكلة التعريفات الغربية للحضارة والثقافة لا سيما عند هنتنغتون، واعتبرها أدوات تعتمد نظرة جامدة للذات والآخر من أجل إثبات حتمية الصِدام بين الحضارات. بينما نظرة الإمام لهذا الموضوع دينامية لارتباطها بالإنسان ومتطلباته. وهي بحركيتها، تعمل على إثارة الكمالة الإنسانية المشتركة بين جميع البشر دون إغفال الخصوصيات المجتمعية والهويات الفرعية.

وقال: عند الحديث عن الحضارة لا بد من الحركة باتجاه الجوهر أي الإنسان بما هو خليفة، وعلى هذا الأساس تقدم المثل العليا الإنسانية النابعة من الوحيّ الإلهي. مؤكدًا على أنّ الجمهوریة الإسلامیة ليست متحجّرة مقابل الظروف المتجدّدة، لکنّها ملتزمة بأصولها ومبادئها، وتتحسّس لحدودها الفاصلة بینها وبین منافسیها وأعدائها. ووفق هذه النظرة يتحرر الإنسان من كل عبودية إلا عبوديته لله.

وختم الدكتور أحمد ماجد قائلًا: يرى الإمام أنّ المشروع الحضاري الإسلاميّ هو مشروع قُدِّم للإنسانية من خلال الثورة الإسلامية في إيران. ونحن من خلالها أمام فكر جديد للبشريّة يقوم على أساسه نظام سياسيّ في إحدى جهات المعمورة فيجتمع عليه شعب من الشعوب، ويقوم بدعمه وترسيخه ضمن الشروط الضرورية. والنّظام الإسلاميّ هو نظام قد رسم لنفسه نهجًا منطقيًّا للتحرّك وهو حركة دائمة تكامليّة تتمتّع بمراحل مختلفة تضمن لها الاستمرار والخلود، وإذا تواصل هذا النهج فإنّ النتيجة الحتميّة ستكون ازدهار الحضارة الإسلاميّة من جديد واستعادة رقعته الواسعة في العالم.

ثم تحدث بعد ذلك الأستاذ هادي قبيسي عن التقدم الحضاري بين الإمام الخامنئي وكارل شميت، وقال: أظن أنّ تقديم فكر الإمام الخامنئي يصبح أوضح إذا كان بشكل مقارن، وهناك تقارب بين الطرحين لأنّ النموذج الإسلامي الإيراني الذي طرحه الإمام القائد يتحدث تقريبًا عن نفس المجالات التي يناقشها شميت في طرحه عام 1928. والفكر المادي يتحدث دائمًا عن التجربة التاريخية ومشكلاتها بينما الطرح الإسلامي يقدّم الحلول لها والإجابات عنها.

وقال الأستاذ قبيسي: يتحدث شميت في مقالة له صدرت عام 1929 بعنوان (زمن الحيادات واللاتسيس) عن المجالات الفكرية التي حكمت المسار التاريخي الأوروبي تباعًا. وقد ولدت المخيلة السوسيولوجية عنده من خلال مجموع الملاحظات والأحداث والاستنتاجات تخلص به إلى تصور المجالات الفكرية، وهي مظاهر طاغية على الحياة الاجتماعية متولّدة من النشاطات الفكرية الجماعية المشتركة.

وتابع قائلًا: يبدأ شمسيت مقالته بمقدمة تاريخية مختصرة مستعرضًا المراحل التي تحرك فيها العقل الأوروبي خلال القرون الأربعة الماضية وكيف وجد في المجالات الفكرية المختلفة مركز وجوده الإنساني المباشر. بينما يصف الإمام الخامنئي في بيانه (معرفة العالم) الصورة العامة للعالم، وترد هذه الجزئية في البيان بصفته نصًا تأسيسيًا يراد له أن يكون معتمدًا في التفكير والعمل على مستوى الدولة. فالمجالات المركزية التي يتحدث عنها شميت هي نفس المجالات التي يتعرض لها بيان النموذج الإسلامي.

وبيّن الأستاذ قبيسي أنّ القيمة الهامة في طرح الإمام هي وجود معيار للتقدم، بينما في طرح شميت هناك تقدم لكنه ليس محسومًا إن كان تقدّمًا أو تخلّفًا، فهناك صعوبة في إثبات المعيار أو تثبيته. وقال: في عرض هذه المقارنة بين الطرحين سيتم التحدث على أساس ستة عناوين رئيسية:

  • حركة العقل وحيوية العقل بين الثبات والتغير.
  • حركة التقدم وكيفية تشخيص هذا المسار الحضاري.
  • حركة الجمع ضرورة وجود محورية داخل المجتمع حتى يخطو باتجاه التقدم.
  • حركة العلاج ومعالجة مشكلات النهوض الحضاري.
  • حركة الاندفاع وضبطه في مسار النهضة الحضارية.
  • حركة الصراع وإدارة الصراع داخل المجتمع كنتيجة للتقدم الحضاري.

ثم تناول كل عنوان على حدة مبتدئًا بحركة العقل. فإنّ بيان النموذج الإسلامي يحدد موقفه من العالم، ومن ثم يحدد علاقة الإنسان بالعالم، ويقول الإمام القائد: “جعل الله العالم المادي في خدمة الإنسان الذي هو حامل أمانة هذا العالم والذي يعمره وفي صورة الانتفاع الفعال والعادل. إنّ هذا العالم المادي يومّن حاجات الإنسان”. وهناك طرح إسلامي معاصر يتضمن الجمع بين الثبات والحيوية والتغيير. بينما كارل شميت له نظرة نقدية كبيرة إلى الحضارة الغربية ومسارات التطور، يعرض فيها مآلات حركة التطور الغربي بقوله: “إلى جانب التكنولوجيا أصبح الحياد الفكري بلا معنى فكريًّا بمجرد أن تمّ تجريد كل شيء من الدين واللاهوت ثم من الميتافيزيقا والدولة”.

وأضاف الأستاذ قبيسي أنّ الشروط الإسلامية الواردة في البيان تجمع بين كونها خارجة عن التاريخ من حيث مرجعيتها، لكنها داخلة فيه من حيث كونها مؤثرة في مساره، بحيث يمكن ملاحظتها كظاهرة تاريخية في حال التزام المجتمع بها. بينما شميت يصف الحركة الفكرية والتطور الحضاري بأنه كان للحياة الفكرية أربعة مراكز مختلفة وتحرك تفكير النخبة النشطة التي شكلت الطليعة المعنية في القرون المتبدلة حول مراكز متغيرة.

ومن زاوية المقارنة يشير الإمام إلى دور النخبة النشطة في البيان في قوله: “المجتمع يتأثر بالأفراد ولا سيّما بالنخب منهم”. ولكنه لا يعتبر أنّ حركة النخب هي التي تحدد معيار التطور بل تؤثر في المجتمع من حيث فاعلية سعيها نحو الغاية.

وعن حركة الجمع قال الأستاذ قبيسي: إنّ وجود محورية يتمركز حولها الحراك الحضاري داخل المجتمع أمر يتفق عليه الطرحان، لكن تبعًا للفلسفة والرؤية الكونية المختلفة والمنظار المتفاوت بشكل كبير. ففي النظرة الإسلامية يوضح القائد أنّه كلما اقترب الحاكم من العصمة كلما امتدت حركات التكامل إلى المجالات المختلفة داخل الدولة والمجتمع. بينما شميت لا يتحدث عن الشخصية الكاملة المعيارية وإنّما عن النخبة ونشاطها الجماعي، ولكن الشخصيات التي أتمت اعتناق الثقافة الغربية لا اتفاق حول كمالها، فالثقافة الغربية لا تستطيع تعريف كمال الإنسان الفرد ولا المجتمع بشكل متفق عليه.

ويرى أنّ هذه المحورية غير واقعية، وطرح شميت فيه تسامح كبير، فليس هناك محورية شاملة بحيث تصبح التكنولوجيا هي المحدد لكل المجالات الأخرى، ولكنه أراد أن يجمل حركة التاريخ الأوروبي والتحول في مجالاته المحورية فيمكن عندئذ قبول هذا الكلام.

ثم تناول حركة الاندفاع، موضحًا أنّ التطور يحصل، من خلال اندفاع كبير في أحد المجالات الحيوية في المجتمع فتتأثر سائر المجالات الأخرى. وإذا أخذنا منظار شميت وقاربنا من خلاله التجربة الإسلامية لوجدنا أنّها تحركت في مجال رئيسي هو مجال الإيمان. فيكون الفارق الأول بين النظرتين هو أنّ الإسلام يعد بالتقدم في سائر المجالات لا مجرد التأثر بما يجري في المجال المحوري، فقد يكون التأثر المتأتي من التطور التكنولوجي مثلًا مدمرًا للمجالات الأخرى.

والفارق الثاني هو أن شميت يتحدث عن تبدل المجال المحوري. بينما يقدم المنظور الإسلامي مجالًا محوريًّا ثابتًا وهو المحور المعنوي وعلى أساسه يتم ترتيب سائر الشؤون والمجالات وفق النظام الشرعي.

والفارق الثالث هو عدم وضوح تعريف التقدم في المجال المحوري. وقد يكون التقدم منطويًا على الكثير من التخلف والتخريب. بينما في المنظور الإسلامي المرتكز إلى الوحي هناك تشخيص دقيق، بحيث يشير الإمام الخامنئي إلى أنّ الخصائص الأصلية والعامة لهذه الحضارة استثمار أبناء البشر لجميع ما أودعه الله في عالم الطبيعة وفي وجودهم من مواهب وطاقات مادية ومعنوية لتحقيق سعادتهم ونموّهم.

وحول حركة العلاج قال الأستاذ قبيسي: يحدد الإمام في بيانه أربع مجالات أساسية للتقدم، وهي: الفكر والعلم، والحياة، والروح. فيما تحدث شميت عن تعاقب وتغير في المجال المحوري بشكل متتابع، والمراحل هي: اللاهوتي، والميتافيزيقي، والأخلاقي، والاقتصادي، والتكنولوجي. ولكننا كشهود على نتائج مسار التحول الفكري الغربي نرى أنّ المجالات الثلاثة الأولى قد أُقصيت إلى حد كبير من الحياة الواقعية. والنخبة التي امتلكت التحالفات الأقوى حسمت الصراع، وهي ليست عملية تطور نتيجة تداعي تاريخي.

وختم الأستاذ هادي قبيسي كلامه ببيان سريع لحركة الصراع، التي قامت على مسارات التحييد كما يسميها شميت، وكل تحييد كان يولد صراعًا. وقال: إنّ طغيان مجال محوري على آخر كان دومًا مرهونًا للقدرة المادية، وبالتالي كانت مقرونة بتوفر واستخدام القوة. بينما أكّد الطرح الإسلامي بحسب بيان الإمام الخامنئي خطأ الاقتصاد الرأسمالي على الصعيد العملي والتجربة.

 

 

 

 

[1] يوم الأربعاء، 15/9/ 2021.

[2] أستاذ المعرفة والابستيمولوجيا في الجامعة اللبنانية تحديدًا في معهد العلوم الاجتماعية وهو صاحب العديد من المؤلفات والعديد من الأبحاث والمقالات.

[3] باحث ومهتم في مجال الفلسفة السياسية.

[4] يوم الخميس، 16/ 9/ 2021.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الهوية الحضاريةالسردية الذاتية

المقالات المرتبطة

النتاج الفكري لآية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي/ الشيخ حسين السعلوك

من مداخلة الشيخ حسين السعلوك في الندوة الفكرية المتخصصة التي أقامها معهد المعارف الحكمية حول “المشروع الفكري للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي وتأثيراته على الفكر الإسلامي المعاصر”.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<