تطورات الراهن والأفق الثقافي
من الطبيعي القول: إن التحولات والتطورات المتلاحقة التي تجري في مجالنا العربي والإسلامي، تستدعي منا قراءتها بعمق، حتى يتسنى لنا كفضاء مجتمعي، من الاستفادة القصوى من هذه التطورات، والحؤول دون خضوعنا السلبي لمسيرة هذه التحولات.
وهذا يتطلب منا بطبيعة الحال، استدعاء القيم الثقافية القادرة على سبر جوهر هذه التحولات والمعرفة العميقة بطبيعة هذه التطورات واتجاهاتها الراهنة والمستقبلية.
فالأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية لها قاعدة وجذور معرفية وفلسفية وثقافية، ولا يمكن صياغة موقف أو رؤية متكاملة تجاه هذه الأحداث والتحولات بدون معرفة الجذور الثقافية والمعرفية لهذه الأحداث والتحولات.
من هنا، فإن ما تمر به المنطقة من تحولات وتطورات، بحاجة إلى رؤية شمولية تتضمن الأبعاد الثقافية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية، حتى تتوفر لنا الإمكانية المناسبة لقراءة هذه التطورات وصياغة الرؤية الجمعية تجاهها..
فهذه التحولات تحمل في أحشائها الثقافي والسياسي والحضاري، ولا يمكن إدراكها ووعي اتجاهاتها بعمق بدون الرؤية المركبة والشاملة، والتي تتعاطى مع هذه التحولات برؤية متكاملة، لا تلغي السياسي كما أنها لا تختزل الثقافي، وإنما رؤية تحتضن متطلباتهما معًا، وتسعى من الإفادة من معاييرهما وضوابطهما المنهجية وآفاقهما المجتمعية.
وعلى ضوء هذا تتأكد الحاجة في مجالنا العربي والإسلامي إلى إعادة الاعتبار إلى العقل، وذلك لأنه لا يمكن أن نستجيب استجابة حقيقية لهذه التحولات والتطورات، من دون إعادة الاعتبار إلى المكاسب الإنسانية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وهذا الاعتبار لا يتحقق بدون تأكيد مرجعية العقل، الذي يتجه إلى استيعاب كل منجزات الإنسان عبر التاريخ، ويسعى نحو تأكيد تلك الإجراءات والأطر التي استطاعت أن تحقق الاستقرار والسلم المجتمعي للكثير من الأمم والشعوب.
فالمجال الإسلامي اليوم، يمر بظروف تاريخية حساسة، حيث الأحداث تتوالى، والتطورات والتحولات زاحفة في اتجاهات عديدة، وخياراتنا نحن كعرب ومسلمين اتجاهها محدودة.
وفي تقديرنا أن حجر الأساس في بلورة الرؤية والخيار اتجاه هذه التطورات والتحولات، هو إعادة الاعتبار إلى العقل الذي يعني الآتي:
- القبول والتفاعل مع مكاسب الإنسان الحضارية، والعمل الحقيقي والجاد على تبيئة هذه المكاسب والمنجزات، وذلك من أجل تطوير حياتنا السياسية والاجتماعية بما ينسجم ومقتضيات ذاتنا الثقافية والحضارية وتحولات الراهن.
- إذا كانت السمة الجوهرية في تجربة الأنوار الأوروبية، تتجلى في نزعة تمجيد العقل واعتماده مرجعية وحيدة لشؤون الفكر والعالم. فإن اجتراح مشروع رؤية واستراتيجية عربية وإسلامية، هو شأن لا يمكن تصور حدوثه دون ركيزة أساسية لقيامه تتمثل بإعادة الاعتبار لمكانة العقل.
فالمطلوب هو إعادة الاعتبار للعقل وليس اكتشافه. فنحن أتباع دين (كما يقرر أحد المفكرين) يحتم الالتزام بمرجعية العقل وسيادته ومعطياته إلى الدرجة التي يتقدم العقل فيها على الدين.
فالدين لا يعرف إلا بالعقل ولكن العقل لا يعرف بواسطة الدين. فإعادة الاعتبار إلى العقل، لا تعني استنساخ التجربة الأوروبية، وإنما تأتي في سياق إسلامي يتجه إلى إزالة ركام التخلف والانحطاط، ويعمل جاهدًا صوب تأسيس قيم الإنسان وحقوقه في الفضاء المجتمعي للمسلمين.
- إن السائد الثقافي والفكري، هو الذي أوصل العرب والمسلمين بشكل أو بآخر إلى ما هم عليه. لذلك فإن الخضوع للسائد الثقافي والتعامل معه باعتباره مقدّسًا، لا يمكن تطويره وتغييره، هو الذي يزيد من تدهور أوضاعنا وأحوالنا. لذلك فإن إعادة الاعتبار إلى العقل، يعني فيما يعني العمل على تحريك المياه الراكدة، والعمل على تطوير أوضاعنا الثقافية والمجتمعية، حتى تتوفر كل الظروف والعوامل المفضية إلى الانخراط النوعي في مشروع التحولات الراهنة.
وهنا نصل إلى حقيقة أساسية، ينبغي إدراكها بعمق في مجالنا العربي والإسلامي، وهي: أن كل محاولة أو جهد أو مشروع يستهدف التغيير والتجديد في الاجتماع الإسلامي، يأتي من خارج الإمكانات التي يختزنها النص الديني سوف تفشل، وبطريق أولى فإن الفشل سيكون نصيبها إذا جاءت من موقع العداء للدين والتناقض معه.
من هنا فإن إعادة الاعتبار للعقل، لا تعني ممارسة حالة القطيعة أو العداء مع قيم الدين ومتطلباته والعقلية والإيمانية. وإنما على العكس من ذلك تمامًا. حيث إن تأكيد مرجعية العقل، هي من أجل العودة الواعية إلى النص الديني لاستنطاقه وتوليد إمكاناته المختزنة.
وعلى هدى هذا نستطيع القول: إننا في هذه اللحظة التاريخية أحوج ما نكون إلى إعادة الاعتبار للعقل الذي يأتي في مواجهة الخرافة بكل أشكالها وصورها، كما في مواجهة أبعاد التقديس للمألوف والسائد المكتسبة من اعتبارات تاريخية واجتماعية. وإن تحولات المنطقة المتعددة، تدفعنا إلى ضرورة الانخراط السريع في مشروع التغيير والتجديد، ومحاربة كل أشكال الخرافة والاستقالة من المسؤولية، والهروب إلى دهاليز الأسطورة والقصص العجائبية.
إننا لا يمكن أن نتطور ونستفيد الاستفادة القصوى من تطورات اللحظة الراهنة، بدون تأكيد مرجعية العقل، التي تطرد من واقعنا كل أشكال الهروب والانزواء، وتدفعنا بحكمة وبصيرة إلى الأخذ بعالم الأسباب في كل شؤون حياتنا.
فالإنسان فردًا وجماعة عبر التاريخ، لا ينشد وينجذب إلا إلى معالم النور والفكر والحياة. وإن توقف العطاء العلمي بكل مجالاته في الواقعين العربي والإسلامي، هو الذي أدخلنا في الظلام وجعلنا نعيش القهقري، ونبحث بلهفة عن كل نقطة ضوء بصرف النظر عن مصدرها وطبيعتها.
وإن إعادة الاعتبار إلى العقل في المجال الإسلامي، يعني العمل على إعادة الالتزام بمهمتنا التاريخية والحضارية (إخراج الناس من الظلمات إلى النور)، وهذا لا يتأتى بالدعوة المجردة، وإنما بالعمل على تطوير واقعنا وتأكيد حقائق العقل في مجالنا، حتى نتجاوز السائد، ونوقف حالة الانحدار، ونبدأ بإرادة صلبة، وعزيمة راسخة، لربط راهننا بلحظات التاريخ المجيدة، ومكاسب الإنسان المعاصرة، وذلك ليس من أجل الانبهار أو الركون إلى التقاعس والدعة، وإنما من أجل الإضافة النوعية.
لهـذا نجد أن القرآن الحكيم، يؤكد في مسائل العقيدة والحياة على العقل والفكر والبصيرة.
وفي المنظور القرآني (العقل) يساوي الانسجام مع الفطرة في إدراك القوانين العامة والمواقف السلمية في إطار العلاقة مع الموجودات. لذا فإنه يكون في خاتمة الآيات التي تدعو إلى التدبر في المخلوقات، لإدراك وجود الله تعالى، كما يوجد في خاتمة الآيات التي تدعو إلى التأمل في مصير المنحرفين.
وقد قال تبارك وتعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ﴾[1] .
فالأفق الثقافي القادر على التعامل مع تحولات وتطورات الراهن، هو ذلك الأفق الذي يستند في رؤيته وتصوره للأمور على نسبية الحقيقة، وإنه لا يمتلك أحد القدرة على امتلاك الحقيقة المطلقة، وإنما الجميع على حد سواء في التعامل مع النصوص والقيم الدينية، وتتفاوت حظوظهم في تمثل وتجسيد هذه القيم. فتتأسس من جراء هذه الرؤية والعقلية، موجبات الحوار والتسامح، وتتأكد قيم الانفتاح والتواصل، وتزول كل دواعي الإقصاء والنفي والادعاء بامتلاك الحقيقة.
وعلى هذا، فإن الأفق الثقافي القادر على التفاعل مع تحولات المنطقة، هو ذلك الأفق الذي يحتضن قيم الحوار والتسامح والانفتاح والتواصل والقبول بالآخر. وإن مهمتنا الثقافية والفكرية في هذه اللحظة التاريخية، تتجسد في تظهير هذه القيم وإبرازها، وتعميق متطلباتها في الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي.
وإن غياب هذه القيم، من واقعنا المجتمعي، هو أحد المسؤولين الرئيسيين عن تكلس أحوالنا، وتراجع مسيرتنا، وتقهقر أوضاعنا. وإن استمرار هذا الغياب سيكلفنا جميعًا الكثير من الخسائر والكوارث الاجتماعية والسياسية .. وإن بوصلة التحولات تتجه صوب تأكيد هذه القيم والحقائق في الحياة العامة، وإن أي تراخي أو تردد في هذا السبيل، سيفاقم من المشكلات ويعلي من شأن التوترات، ولا يوفر الأرضية والمناخ المناسب للتفاعل الخلاق والمطلوب مع هذه التطورات والتحولات.
وإننا في المجالين العربي والإسلامي، أحوج ما نكون اليوم إلى تلك القيم التي تضبط نزاعاتنا، وتنظم اختلافاتنا، ويحشد كل الإمكانات والقدرات صوب صيانة حقوق الإنسان، والإعلاء من شأن الجوامع المشتركة، تلك الجوامع التي تؤكد على البعد الإنساني مع الاحترام التام بكل الخصوصيات الثقافية والنفسية.
فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين إنسان وآخر في القضايا الأساسية للإنسان، فالعدل لكل الناس، كما أن الظلم مرفوض من كل الناس.. لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى…﴾[2]. والدين الإسلامي لا يلغي إنسانية الإنسان، وإنما يحترمها في كل شؤونها وحاجاتها وفق مقتضى الآية الكريمة ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾[3].
من هنا فإننا بحاجة إلى تنقية عقولنا ونفوسنا وواقعنا، من كل الشوائب والرواسب المضادة لإنسانية الإنسان.
حيث إن عصور التخلف، أنتجت ثقافة ووقائع مضادة للإنسان في إنسانيته، مما فاقم من الإحن والنزاعات.
وإننا مع هذه الهجمة الشرسة التي تتعرض إليها العديد من الدول الإسلامية، بحاجة ماسة إلى إبراز الرؤية الإسلامية للإنسان. تلك الرؤية القائمة على اعتبار أن دم الإنسان وعرضه وماله حرام، ونسعى وفق هذه الرؤية إلى صناعة الحقائق والأطر المناسبة لصيانة إنسانية الإنسان.
[1] سورة الزمر، الآيتان 17و 18.
[2] سورة المائدة، الآية 8.
[3] سورة الإسراء، الآية 70.
المقالات المرتبطة
سؤال الهوية في العالم العربي
تناول الكثيرون مسألة الهوية وعلاقتها بموضوعات متعددة مثل: الهجرة، وشيخوخ السكان، والانتماء
تهافت “العصبية” الليبرالية لدى بعض العرب
صحيح أن الديموقراطية والليبرالية قد تتعايشان ردحًا من الزمن إلا أن ما يفصل بينهما في المعنى، حقلٌ شاسع. وبالتالي إن الخلط المفاهيمي بين هذين المصطلحين أو النمطين من التصورات السوسيو- سياسية يؤدي حتمًا لتعقيد المسالة
“ظاهرة الجهاد والشهادة المجتمعية”
الجهاد والشهادة مفهومان حددهما الإسلام بمعانٍ دينية جديدة، وقيم إسلامية، وأرفدا المجتمع الإسلامي بثقافة أسست الركائز الأساسية للإصلاح والنهضة، هذا ما عبّر عنه الإمام الخميني منذ أكثر من ثلاث عقود