الصادق الأمين

الصادق الأمين

سمتان مجتمعيتان تمثِّلان الأساس الذي تبنى عليه المجتمعات، بحيث لو سادتا في أي مجتمع من المجتمعات البشرية لكانتا كفيلة في إصلاح ذاك المجتمع مهما كانت عقيدته، هما “الصدق والأمانة”. هاتان الصفتان مثّلتا المعنى الإنساني الذي كان يعيشه رسول الله (ص) قبل النبوّة وبعدها، حتى غلبتا على اسمه، ما جعل قريشًا عندما تتحدث عنه تقول: “جاء الصادق الأمين”.

الصدق يرتفع بأخلاقية الإنسان فيجعله أمينًا على الحقيقة، وعلى الناس والحياة، ولا شك بأن الله تعالى قد أودع في شخصية الرسول (ص) كلّ القيم الإنسانية، وكان قلبه يتسع للأمّة كلها، فيتألم لما يتألمون له، ولذلك قدَّمه الله لنا بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾[1]، هذا الرسول لم يأتِ من الملائكة، لأنه لو كان كذلك، لقال الناس فيما يتحرك به: إننا لا نستطيع أن نبلغ مستوى الملائكة، بل كان بشرًا إنسانيًّا.

والصدق هو انفتاحك على الله تعالى في كل كيانك، فتكون صادقًا مع الله، والصدق مع الله هو السير معه سبحانه في كل ما يرضاه ويحبّه، وأن تكون صادقًا مع نفسك فلا تكذب عليها ولا تغشّها، وأن تكون صادقًا مع الناس كلهم، بقطع النظر عن طبيعة هؤلاء الناس، كافرًا كان الإنسان أو مسلمًا، فلا فرق في الصدق بين الصدق مع الفاسق ومع العادل، لأن قضية الصدق والكذب ليست مرتبطة بالآخرين، بل تنطلق من مصداقيتك مع نفسك، التي يتحدد في ضوئها علاقتك بالآخرين، لأن الصدق هو أنت في ما تنفتح به على الحقيقة، والكذب هو أنت في ما تغشّ به الحقيقة، فمسألة الصدق هي مسألة الانفتاح والإخلاص على الحقيقة، في كل المواقف والمواقع، هذا الانفتاح يحتم عليك أن تكون أمينًا.

والأمانة تمثل المسؤولية، البعض يرى بأن الأمانة هي في المال الذي يودع عندك، أو في العمل الذي يوكل إليك، أو في الوظيفة التي تتحمّل مسؤوليتها، أو في الحكم الذي تتحمّل كل موارده ومصادره، نرى بأن الأمانة أوسع من ذلك كله، إنها من التكاليف التي حمّلنا الله تعالى إياها كأمانة، ﴿إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنّها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً﴾[2]. لذلك الأمانة لا تقتصر على أمانة المال، بل تمتد إلى كل مسؤولياتك التي أودعها الله تعالى أو الناس عندك، مالًا أو وظيفة أو تكليفًا.

فالإنسان حين يصدق مع الله ومع الناس ومع نفسه، يستطيع أن يجعل الحياة من داخل نفسه وخارجها تتحرك مع الحقيقة ولا تقترب من الباطل والكذب والزيف والغش والخداع، وهكذا إذا أخذ بالأمانة، فإنه يكون المؤتمن على كل حركة الحياة في مسؤولياتها وحقوقها وواجباتها.

الصدق والأمانة من سمات الأنبياء، وما ميز حياته المباركة قبل البعثة وبعدها، بأنه (ص) لم يعش في ذاته الدائرة الضيّقة، كما يعيش بعض القادة الدائرة العائلية أو الحزبية، كان يتّسع للناس كلّهم، ويتفاعل مع الإنسانية كلّها.

﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾[3]، العنت هو المشقة، يعزّ عليه ويثقل نفسه كلّ ما تواجهونه من مشاقّ، سواء مشقّة الفقر أو المرض أو الأمن، وما إلى ذلك من المشاكل التي تصيب الناس.

﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾، يراقب المجتمع كلّه في كلّ ما يصيبه من نقاط الضعف، فيعمل على تقوية هذه النقاط ليحوّلها إلى نقاط قوَّة، فيعمل لوصول مجتمعه للكمال الإنساني حين يرتفع بالناس إلى المستوى الذي ينفتحون فيه على التقدّم الروحي والثقافي والأمني والسياسي، من خلال حرصه عليهم من أن لا يضيعوا ويدخلوا في المتاهات، التي تسقطهم عن مستوى الأمة.

﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. الرحمة سمة الوجود والعبودية، الله تعالى خلق الخلق برحمته، وأنزل الهداية على خلقه برحمته، فاجتماعيًّا يمكن اعتبار الرحمة أصل العلاقة التي يتسم بها الخالق في علاقته مع مخلوقاته، تتركز في الإنسان برأفةٍ في القلب، ورحمةٍ في الشعور، ظهرت في تعامل الرسول (ص) مع مجتمعه.

﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ [4]. انتقلت الرّحمة إلى أصحاب الرسول(ص)، فتعلّموا منه أن يكونوا الرحماء، فعندما كان الكفّار يتحدّونهم ويريدون إسقاطهم وإضعافهم، كان صحابة النبي(ص)، وأهل بيته(ع)، لا تأخذهم في الله لومة لائم، وكانوا يتعلّمون الشجاعة من رسول الله(ص)، فقد كان الإمام عليّ(ع) يقول: “كان إذا اشتدّ البأس لذنا برسول الله”، لأنّ تلك القوّة كانت قوّة ربانية روحيةً، من خلال ما أودعه الله من سكينة في قلبه، فكان الشديد في مواقع التحدي، حمايةً للإسلام، وحفاظًا على المسلمين، وأراد للمؤمنين أن يكونوا الأشدّاء في مواقع التحدّي، لا شدّة الحقد والعداوة، بل شدّة الموقف، وما أقرب الأمس باليوم يا رسول الله(ص) مع اشتداد التحديات التي تصيبنا من المستكبرين والظلمة والمجرمين أعداء الله والإنسانية، شهدنا فيه الشدة والصلابة في الموقف أمام الآخرين، الذي يحفظ العزة والكرامة، سطرته أم الشهيدة “مريم فرحات” بكلمات ثقال في الميزان الإنساني بعد ساعات من الفجيعة بابنتها لتختصر فيهم قضية وطن بكامله يسعى للعيش برحمة وسلام، وجسدت معنى الولاية التي لا تعني السلطة بحسب الأدبيات السياسية الحديثة، بل وضحت فيها المعنى الحقيقي للتوالي والولاية التي تعني الحب والقرب والحرص على المشاعر”ولا تزعل يا سيد”[5]، هذه الشدة الرحيمة الرحمانية، الصلبة في الموقف تعكس حقيقة العلاقة مع الأمين على الدماء والبلاد، من اتخذ الرسول (ص) أسوة ونموذجًا في الصدق والأمانة، باعتراف العدو قبل الصديق “الأمين العام لا يكذب”.

لا مناص من أن الإنسان بطبيعته الفطرية الاجتماعية يحتاج إلى النموذج، فهو يتبع الأسوة بنمط تفكيره وسلوكيات حياته، عن وعي وعن لا وعي، وحين يخصص الله تعالى ولكم في رسول الله أسوة حسنة هنا دلالة اجتماعية لكافة البشر تخص نبينا الأكرم بأنه الأسوة الحسنة للبشرية جمعاء مقابل الأسوة السيئة، لأن النموذج والأسوة حاجة إنسانية اجتماعية، إما أن يتخذ الإنسان النموذج الحسن، وإما النموذج السيء. بمعنى آخر إما أن يكون نموذجنا الاجتماعي ملك أمير رئيس حزب وغيره، وإما أن يكون الرسول محمد (ص)، وأتباعه من القادة الإلهيين والإنسانيين، ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[6]. الله تعالى جعله (ص) أسوة وقدوة لجميع الناس إلى يوم القيامة، ليس للمسلمين وحدهم وإنما لكل البشرية، وهذا ما أشرنا إليه في البداية، فهو الأسوة والنموذج لكل مجتمع ينشد باتجاه الإصلاح الإنساني بسمتا “الصدق والأمانة” التي عاشهما الرسول(ص) وتصدر بهما على كل النماذج البشرية منذ بداية العمران البشري إلى تاريخنا اليوم فمستقبلنا. أسوة لهم في التزامه بالقيم الإنسانية، وأسوة لهم لمن أراد الارتباط بالله الخالق الواحد وطاعته له، أسوة في أقواله وكلامه وحديثه المنزه عن الخطأ: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هو إلا وحي يوحى﴾. ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾. وأسوة لهم في أخلاقه وسلوكه والتزامه بأحكام الله، ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾.. فقد جسد في شخصيته وفي أقواله وأفعاله ومواقفه وسيرته كل المبادىء والقيم الإلهية والإنسانية، فكان مظهر الكمال الإنساني، وعنوان مكارم الأخلاق، فهو الشخصية البشرية الاستثنائية التي جمعت كل القيم الإنسانية قولًا وفعلًا، فقد جسد القرآن الكريم عمليًّا في أقواله وأفعاله وأخلاقه “أنّه كان خُلُقه القرآن”، لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام وحده هذا ما جعله النموذج الكامل للبشرية. وفي ذكرى المولد المبارك يوم ولادة الرحمة بكل معانيها وتجلياتها ننطلق من اعتبار هذا اليوم هو يوم عالمي لكل البشر لكل من يحمل قيمًا إنسانية سامية.

والمطلوب منا اليوم أن نقدم هذا النموذج، نموذج الأسوة في أفعالنا وتصرفاتنا وممارساتنا الفردية ومواقفنا السياسية وخصوصًا الموقف من القضايا الكبرى، لنتوحد حول القيم الإنسانية التي دعا إليها رسول الرحمة (ص) كل البشر عامة، ونتجاوز كل المفرقات الثقافية في دوائرنا الضيقة باتجاه الدائرة الإنسانية القائمة على إحقاق الحق ورفض الظلم.

 

[1]  سورة الوبة: الآية 128

[2]  سورة الأحزاب: الآية 72

[3]  سورة الوبة: الآية 128

[4]  سورة الفتح: الآية 21

[5]  من كلمة والدة الشهيدة مريم فرحات.

[6]  سورة الأحزاب: الأية 21


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
النبيّ محمّدرسول اللهرسول الله محمد

المقالات المرتبطة

الهوية من منظور فلسفة الأديان

نطرح مسألة الهوية (كإحدى مكونات شخصية أي شعب) أما استنادًا على مقياس إقليمي قومي

من خلال التجربة التاريخية العلاقة الملتبسة بين المنبر|الدين والسلطة|السياسة

توجد علاقة طردية بين المنبر والسلطة، في كل الأديان، ولكننا نكتب عن السلطة والمنبر عند المسلمين، والعلاقة الطردية تعني أنه

مؤمنون وملاحدة

لطالما اشتغل العالم في ثقافاته على التباينات والثنائيات والثلاثيات وغير ذلك..

ويغلب على ظنّي أن السبب في كل هذا يعود لحاجة أي جماعة من الناس تعريف هويتها،

تعليق واحد

أكتب تعليقًا
  1. ينب
    ينب 25 أكتوبر, 2021, 18:41

    بارك الله جهودكم وجعلكم من انصار المهدي عجل الله فرجه الشريف

    الردّ على هذا التعليق

أكتب تعليقًا

<