الإصلاح الديني بين الارتهان السياسي واعتبارات القداسة

by إيمان شمس الدين | نوفمبر 4, 2021 1:06 م

الإصلاح مطلب إنساني واقعي يتناسب طرديًّا مع ميل الإنسان وسعيه نحو الكمال.

فالإصلاح والسعي في سبيله هي حركة وعي للذات وتشخيص الإشكاليات الداخلية المعيقة نحو النهضة والتجديد، هذا الوعي بالذات قد ينتج عن إشكاليات متراكمة دون حلول، ساهمت في تراكم التخلف وتمكين الاستبداد باسم الدين، وقد يكون نتاج تصارع حضاري يثير تساؤلات تدفع نحو مزيد من البحث والتحقيق، وقد يكون نتيجة خمول حضاري يواجه تحديات حضارات أخرى تفرض وجودها على تلك الحضارة وتحاول تغيير معالمها وفرض هويات خاصة وفق تثاقفها الحضاري وبنيتها الخاصة، والتي قد تتعارض جزئيًّا أو كليًّا مع تلك الحضارة الخاملة، مما يدفع المهتمين المتصدين للانخراط في فهم الواقع الخارجي وإعادة النظر في أهم المخاطر التي تهدد وجوده الحضاري، مما يعمّق لديهم وعيهم بذاتهم واندفاعهم في حملات وعي كبيرة تطالب بالإصلاح والنهوض.

وكثيرة هي دعوات الإصلاح التي نادت إلى تصحيح مسار الدعوة الإسلامية، وتصويب المسار الديني في سبيل نظم إيقاع المطالبات النهضوية لتطوير قدرات الإنسان وتمكينه في مشروعه الاستخلافي في عمارة الأرض بما ينفع الناس، والدفع باتجاه تحقيق العدالة الشاملة المرتبطة بحقيقة النهضة.

البدء والمنطلق

الاختصاص في العنوان بالإصلاح الديني ينبع من فكرة أن من يريد دعوة الناس إلى الله وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأولى به أن يمارسه داخليًّا في الذات كي يتمكن من التأثير الخارجي فيكون هنا سعي متوازي بين إصلاح الداخل والخارج، وإلا استمرار عمليات النكوص الحضاري والثبات الزماني والمكاني في فهم الدين وأفكاره، لن ينجح مساعي الإصلاح من قبل المتصدين من العلماء والنخب في المجتمعات، ولن يحدث أي انزياحات في الوعي الاجتماعي أو السياسي، كون انطلاق دعاة الإصلاح من قواعد فيها خلل فهم وإدراك سينعكس على دعوة المصلحين في الخارج ويخل بقواعد النهضة وفق الأسس السليمة.

فالأصل في أي دعوى للإصلاح هو الانطلاق من إصلاح داخل ديني ثم الانطلاق بموازاة ذلك للإصلاح في كل المستويات الاجتماعية والدولتية خاصة في مجال التربية والتعليم وما يتعلق بمناهج التعليم.

والمتتبع للدعوات الإصلاحية تاريخيًّا ومدى تحقيق مطالبها على أرض الواقع من خلال استقراء حال الأمة يمكنه تلمّس مكامن الخلل والنكوص، والنجاح والإنجاز وأسباب كل منهما.

الإصلاح وحقيقة الشعارات

كثيرة هي الشعارات الإصلاحية التي رفعت في سبيل النهضة والتطوير، وعادة تكون الشعارات هي عناوين عامة وخلاصات لمشاريع نهضوية يراد لها أن تفعل على الواقع الخارجي.

لكن مع كثرة دعوات الإصلاح في العالم العربي والإسلامي، إلا أن واقع الحال لا يعكس هذا الكم من الدعوات والحراكات والأسباب كثيرة لكن قد يكون أهمها هو:

  1. أن تكون مجرد شعارات لتحشيد كم عددي من الجمهور، مع عدم وجود رؤى واستراتيجيات حقيقية للمشروع الإصلاحي الذي رفع كشعار.
  2. وجود فارق وفجوة بين المنظرين للعمل الإصلاحي والواقع، وعدم قراءة حيثيات ومعطيات الواقع، وما هي الاستراتيجية الموائمة لإصلاحه سواء آنيًّا أو على المدى البعيد، بالتالي تتحول عملية الإصلاح إلى مجرد نظريات غير قابلة للتطبيق، أو لا يسعى أصحابها للارتقاء بوعي وقابليات الناس وتصويب الواقع ليصبح قابلًا لتطبيق نظرياتهم.

قد يطرح كثير من النخب والعلماء مشاريع إصلاحية فاعلة، وموائمة للواقع ومعطياته ولكنهم لا يكملون فاعليتهم في مشاريعهم لأسباب عديدة أهمها:

* رحيلهم عن الدنيا قبل إتمام رؤيتهم وعدم وجود حملة أمناء يكملون مسيرتهم وتطويرها.

*  وجود حملة لكنهم لم يدركوا أو يستوعبوا المشروع كما طرحه صاحبه، بالتالي يتم حرفه أو تفريغه من أهدافه الكبرى لاختلاف الفهم والإدراك، بل لاختلاف العزائم والهمم.

* قد يدرك الحملة المشروع لكن تدخل أهواءهم ورغبتهم في تحصيل موقع ومكانة، ويحتفظون بكثير من حقائق المشروع الإصلاحي حتى ينسبوا لأنفسهم ويتسلقون به للوصول.

* قد يخشى بعض ورثة  المشروع على مكانتهم الاجتماعية والعلمية، ويخافون من ردات فعل العوام من الناس أو أصحاب الرؤى الكلاسيكية والمتشددة على ما يحمله المشروع من قدرة لزعزعة العادات والتقاليد المخالفة للعقل والشرع، وتصويب كثير من المعتقدات المثقلة بالتوارث عن الأجداد لا بالإثبات والتدليل والبرهنة. بالتالي يخفون معالم المشروع.

* قد يقتلوه في مهده خوفًا وادعاءً لعدم قابلية الواقع الخارجي لهذا المشروع بدل أن يشمّروا عن عزائمهم ويخوضون معركة مع العقول والقلوب لتهيئة الواقع والنهوض بالقابليات.

  1. وجود مشروع نهضوي موائم ولكنه سابق للزمان والمكان، بالتالي مواجهته بالقتل الاجتماعي من خلال تسقيط شخصية حامله، أو محاصرة المشروع بالإرهاب الفكري والاجتماعي.
  2. استيعاب صاحب المشروع الإصلاحي لمشروعه نظريًّا، لكنه لم يدرس الآليات التطبيقية المناسبة للواقع الاجتماعي، وممارسة البعض منهم منهج الصدمة في طرح رؤاه الإصلاحية، والتي وُجهت كثير منها بردات فعل عنيفة، أفقدت ما هو حقيقة في هذه المشاريع قيمتها، وتمزقت كحقيقة، بل سقطت في أذهان أغلب المتلقين لها نتيجة منهج الصدمة وردات الفعل، مما يتطلب عقود وأجيال لإعادة إحيائها مجددًا، وهو ما قد يعني تأخر في التقدم والنهضة سنوات عديدة فقط بسبب منهج خاطئ أو آليات تطبيقية غير مناسبة.

بين الذات وشعارات الإصلاح

دعاة الإصلاح وشعاراته لا ينتمون إلى مدرسة بعينها، ولا الأهداف والغايات أيضًا واحدة، رغم وحدة المدعى والشعار.

ويمكن تقسيم أهداف رفع الشعارات الإصلاحية إلى:

–  أهداف ذاتية: يهدف أصحاب المشروع الإصلاحي لتحقيق مصالح شخصية ذاتية، فيتخذون من هذه الشعارات الإصلاحية جسرًا لتحقيق أهدافهم ومصالحهم، وبمجرد تحقيقهم لذلك ينكصون عهودهم، وينقلبون على كل تلك الشعارات الإصلاحية، بل قد يحاربوها أيضًا في حال هددت مصالحهم الشخصية.

أهداف سياسية: وهؤلاء بذاتهم ينقسمون إلى:

  1. من يمتلك مشروع إصلاحي حقيقي ويرتبطون بالسلطة السياسية اعتقادًا منهم أن ذلك سيشكل لهم جسرًا للعبور نحو تحقيق مشروعهم، فليست السلطة مقصدهم وإنما جسرهم للعبور.
  2. من يرفع شعار الإصلاح كجسر عبور للسلطة وتحقيق مناصب متقدمة في الدولة، كونهم يملكون بسبب شعاراتهم الإصلاحية جمهورًا واسعًا تخشاه السلطة، ويحققون مواقع متقدمة لهم ونفوذ، فالإصلاح جسرهم للعبور للسلطة وليس هدفًا بذاته.
  3. فئة كانت في السلطة وتم التخلي عنهم لانتهاء صلاحيتهم في حسابات السلطة القائمة، وهؤلاء يرفعون شعار الإصلاح ومواجهة السلطة وفسادها لا لأجل الإصلاح بذاته، بل لأجل هدفين:

الهدف الأول: الانتقام من السلطة ومحاولة تغيير شخوصها.

الهدف الثاني: العودة إلى السلطة وامتلاك النفوذ مجددًا.

  1. أصحاب مشروع إصلاحي حقيقي ينشدون العدالة الاجتماعية، ولا يرغبون في تحقيق أي موقع متقدم لهم، بل لا يرتبطون بأي سلطة قائمة، ويعتمدون على نشر الوعي في صفوف الجماهير، ويهدفون لتحقيق العدالة في كافة مستوياتها.

ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن الإصلاح بشكله الواسع ومصاديقه الكثيرة، ولكننا بصدد تسليط الضوء على مصداق من مصاديقه وهو الإصلاح الديني، وإن دققنا أكثر نتحدث عن الإصلاح في الفكر والفهم والمنهج الديني، إن فتح لنا إلى ما سبق طريق رشد وهدى.

تواجه مشاريع الإصلاح الديني خاصة المنتمين للفئة الرابعة، عوائق عديدة أهمها على الإطلاق عائقين:

  1. عائق يتعلق بالإصلاح الداخل الديني واعتبارات القداسة، حيث يواجه المشروع الإصلاحي عدة تيارات داخل دينية تعيقه وتعرقل مسيرته ومحاولاته في الإصلاح ونقد الذات والنهضة.
  2. عائق يتعلق بالإصلاح الخارج ديني أي في محاولات الخروج بالمشروع الإصلاحي للعالم الخارجي وترشيد المجتمعات ووعي الجمهور، ليواجه عوائق عديدة أهمها: الارتهان السياسي ومواجهته لكل أنواع الهيمنة السلطوية والحكوماتية.

الإصلاح الديني واعتبارات القداسة

القداسة هنا كمفهوم عام وكلي له مصاديق كثيرة، وما يعنينا منها قداسة الأشخاص واعتباراتها الدينية والفكرية، وما يعنينا من الأشخاص فقط من هم دون الأنبياء والرسل والأوصياء المنصوص عليهم من قبل الله تعالى نصًّا ونقلًا أو من أخفى الزمان وأحداثه المتراكمة وجودهم الخارجي لكن حقيقتهم باقية كشخوص لها قداستها من الله.

وما يعنينا هنا بالذات دور القداسة الشخصية واعتباراتها الدينية والفكرية في دفع مسيرة الإصلاح أو منعها.

فحينما أشرنا في المقدمة إلى أهمية الإصلاح الداخل ديني وهو الخطوة الأساس في الإصلاح الخارج ديني، فإننا نعني هنا النقد والتقييم والمراجعة على ضوء المستحدثات ومتغيرات الزمان والمكان وتبدل الأدوات والآليات والخطابات، ونحن هنا نقوم بعملية توصيف وليس تقييم للتيارات المدرسية داخل الحوزات الدينية أو من يتبعها من خارج الحوزات، والتي تفاعلت مع مشاريع الإصلاح سلبًا وإيجابًا وآلية تفاعلها في هذا الصدد:

  1. تيار تقليدي أصولي بمعنى أنه يتوقف على النص توقفًا لا يراعي المتغيرات، يتبنى المسار الطقوسي المذهبي التعبدي، ويعتمد عليه في التحشيد العددي للجمهور، وهذا التيار يختلف في داخله شدة وضعفًا في أصوليته، ويظهر هذا الاختلاف جليًّا في سبل مواجهة محاولات الإصلاح:

* قسم منه يكتفي برفض أي محاولات إصلاحية مخالفة لمسلماته ويعتبرها تشكل خطرًا على الأصالة والثوابت وفق ما يراها ويقرأها، ويكتفي بالرد النصي على ذلك.

* قسم آخر من هذا التيار يمارس المواجهة المباشرة من خلال التسقيط الاجتماعي لحامل المشروع، باستغلال عاطفة الجمهور الطقوسية والتعبدية، وبعد تسقيط الشخص في ساحات الجماهير  واتهامه بالخروج عن الدين والمذهب، فيتم محاصرة المشروع ومن ثم تقويضه.

* قسم آخر يستخدم سلطته الدينية الفتوائية، ويصدر فتاوى تكون بمثابة الرصاصة الأخيرة التي تقضي على المشروع وصاحبه. دون تفنيد الآراء ومواجهتها بالدليل والبرهان.

  1. تيار حداثي يواكب المسائل المستحدثة، لكن يتلقف مشاريع الإصلاح كمسلمات، كونه يريد الإصلاح لكنه لا يعكف على المنهج والآليات، يتلقف كل ما هو جديد تلقف المسلمات اليقينية لأنه مسكون بهاجس التغيير والتطوير، وهاجس مواكبة الغرب وأحيانًا محاباته معرفيًّا، حتى لو عن طريق الترقيع.
  2. تيار حضاري أصولي معتدل، ينشد الإصلاح ولكنه يهتم بماهية الإصلاح وآلياته وأدواته، ويدرس حركة الوعي الاجتماعي وقابليتها، ويهتم بالتدرج الهادئ الممنهج في مساره الإصلاحي، فهو يغلف مشروعه الإصلاحي بظواهر تقليدية لكن مبانيه إصلاحية أصولية تأخذ في حسبانها المتغيرات العصرية، لكنه لا يتفاعل مع المتغيرات من موقع المنفعل بها، بل الفاعل بها والتفاعل معها بما يخدم الدين لا بما يقوضه، ولا يخوض معارك شخصانية، بل معركته معرفية تعتمد الدليل والبرهان، ولا يستنزف وقته وجهده في المواجهة والجدل مع مناهضيه، إلا أنه يتوقف على النقود العلمية لتقويم مساراته الإصلاحية على ضوء هذه النقود وفق درجة وجاهتها علميًّا وبرهانيًّا. وهذا التيار لا يمارس الصدمة، وليس له بروز حاد في الساحة، ويتعاون مع المشاريع الإصلاحية النهضوية بتروي ودراسة، فيأخذ بما يلتقي مع مساره ويترك ما يخالف تلك المسارات، لكنه لا يمارس أي دور دفاعي وتحصيني لتلك المشاريع ولا شخوصها غالبًا، حتى لا يتضرر مشروعه وتنكفئ مساراته، وتقوض جهوده. وقد يساهم في تلك المشاريع بطريقة تمهد لمشروعه وتنفعه على المدى البعيد.
  3. تيار يمارس التقية فيظهر تقليدية في المنهج ويبطن حضاريته في المباني والأهداف، لذلك قد يقف هذا التيار في الظاهر ضد مشاريع الإصلاح، لكنه في الباطن يدعمها ويؤيدها.

وهذا لا يعني خلو ساحة المشاريع الإصلاحية وأصحابها من ثغرات، وممارسات خاطئة، بل وفهم خاطئ أحيانًا للإصلاح الديني، بل للفكر الديني بذاته، لكننا نكتفي بتقسيمات هذه المشاريع وأصحابها التي أوردناها في بداية الورقة.

عائق اعتبارات القداسة كان وما زال له انعكاساته السلبية والإيجابية على الحركات الإصلاحية أهمها:

  1. كان للتيار الأصولي التقليدي دورًا فاعلًا في ترشيد كثير من الحركات الإصلاحية، لا بشكل مباشر مقصود، بل بشكل غير مباشر وغير مقصود، كون ردود الأفعال الصادرة عنه كشفت منهجيته في المواجهة، وكشفت ضعف في بعضهم يكمن في ميله الإخباري التوقيفي على النص، وهو ما مكن بعض دعاة الإصلاح والنهضة من كشف ضعفهم بمنطق الحجة والبرهان، وإعادة نظر هذا الفريق من المصلحين في آلياتهم ومنهجهم وبعض رؤاهم.
  2. كرس سلطة العوام لاعتماده على تحشيده العددي لمواجهته وإسقاط المشروع الإصلاحي وأشخاصه، وكرس الموروثات غير المبرهنة في المجال العقدي والممارسات الطقوسية، بل كرس الطقوسية الدينية على حساب العقلانية المرشدة.
  3. ظهر كقوة ردع في وجه الانحرافات المطروحة باسم الإصلاح وقوضها وإن مارس ذلك باستخدام وسائل كالإرهاب الفكري والإسقاط الاجتماعي.
  4. المواجهات الرافضة لأي طرح إصلاحي مخالف للمشهور والإجماع والموروثات العلمية لعلماء بشر سابقين غير معصومين، كرست العمل الفردي على حساب العمل الجماعي، فبات كثير من الشخصيات الدينية ومنها الداعية للنهضة والإصلاح، بات كثير منهم له مشاريعه الفردية الخاصة، إما بسبب خوف البعض على مشروعه بالتالي لا يريد أن يتأثر بأي حملات مضادة لمشاريع أخرى متشاركة معه ومتقاطعة، أو بسبب فقدان الثقة بالساحة الدينية وشخوصها خصوصًا بعد فتاوى التكفير والتضليل وممارسة الاجتزاءات لكلام كثير من دعاة الإصلاح ومحاولة محاورتهم بطريقة تستنطق ما يريده المحاور من الشخص الداعي للإصلاح، ومن ثم تحور أو تجتزئ كلامه لتسقط وتقوض دعوته، وهو ما جعل مساحات الظن السيء تفوق مساحات حسن الظن في الوسط الديني. وكانت النتيجة كالتالي:

* في مواجهة دعاة الإصلاح ومشاريعهم رجحت أصالة المجتمع على أصالة الفرد لتقويض المشروع وإسقاط صاحبه.

* هذه المواجهة كانت نتيجتها الدفع لتكريس أصالة الفرد على أصالة المجتمع، من خلال الدفع بالمصلحين للعمل الفردي، وفقدان الثقة بين العلماء من دعاة الإصلاح أو غيرهم، مما هز كيان العمل الجماعي لحساب العمل الفردي، وأضعف الطاقة الإنتاجية المعرفية وأخّر كثيرًا الإبداع الخلّاق الجماعي.

هذه من وجهة نظري أهم العوائق الداخل دينية وانعكاساتها على مشاريع الإصلاح الداخل دينية.

وهناك عائق خارج ديني يواجه أيضًا المشاريع الإصلاحية، كون ساحة عمل هذه المشاريع هي وعي الجمهور والمجتمعات، وهو ما قد يتطلب حضور سياسي أو تحالفات سياسية لتمكن أصحاب هذه المشاريع من النفوذ والسريان، خاصة في ظل وجود اليوم أنظمة حاكمة تقنن قوانين لحمايتها لا لحماية الجمهور والمجتمعات المحكومة لها.

الإصلاح الديني والارتهان السياسي

تلعب السياسة دورًا بالغ الأهمية سواء في تمكين مشاريع الإصلاح أو إعاقتها، وأحيانًا قتلها في مهدها.

فالإنسان بطبيعته يلجأ تلقائيًّا إلى جهة قادرة متعالية يستمد منها قدرة وجودية، وهذه بذاتها فكرة دينية بغض النظر عن طبيعة هذا الدين، سواء بشري أو إلهي، وكون البشر عبر التاريخ يميلون لعبادة هذه الجهة المتعالية، وتستهويهم الطقوسيات بشكل عام، وهو ما أدركه الإنسان منذ وجوده وأحاط بأسراره وسخر هذه الميول وهذه الطبيعة القهرية في الإنسان عبر التاريخ لتحقيق الهيمنة والنفوذ والسيطرة، وعلى كافة المستويات، وأجلى صورة للسيطرة والنفوذ هو السياسة بما تعنيه من سياسة أمور الناس، والتي تمثلت اليوم كمصاديق في الدول القطرية وأنظمة الحكم فيها.

فالحاكم كصفة وظيفية عبر التاريخ وظّف الدين وتحالف معه من خلال كهنته وممثليه، في سبيل شرعنة وجوده والهيمنة على عقول الناس، وبالتالي الهيمنة على وجودهم وتسخيره لصالح وجوده الخاص ونفوذه وهيمنته على المقدرات والثروات.

فكانت القدرة النافذة والسلطة المهيمنة هي القادرة على فرض الدين وأفكاره على الناس، من خلال تحالفها مع ممثلي هذا الدين فيستفيد كهنته من السلطة في سبيل تسييل أفكارهم وفرضها وتستفيد السلطة منهم في إحكام هيمنتها وبسط نفوذها وشرعنته.

وتتجلى هنا مسارات إصلاحية كان فشلها بسبب الارتهان السياسي، فكانت تنبثق مع تقادم الظلم وإحكام انغلاق العقل، حركات إصلاحية تحاول الثورة لأجل التغيير والنهضة، وعل كثير من الأنبياء والرسل يمثلون مصداقًا لهذه الثورات النهضوية التي تأتي لتحرير الإنسان من أغلال الحاكم السياسي والحاكم الديني، ووصلها بحاكمية الله عبر منهج يعتبر العدالة حجر الزاوية في الدعوة إلى الله، وعبر التاريخ كانت هناك أيضًا حركات إصلاحية ومصلحين ثاروا لأجل الإصلاح والنهضة، إلا أن أغلبهم كان الفشل هو النتيجة الأخيرة لمشاريعهم لأسباب عدة أهمها:

  1. ارتهان بعض هؤلاء المصلحين للساسة والسياسة، باعتبار أنهم قد يسخرون هذا الارتهان في سبيل تمكين مشاريعهم.
  2. دخول بعض المصلحين للإصلاح من بوابة السياسة والسياسيين، مما يؤدي إلى تسخير بعض الساسة لهؤلاء في سبيل مشاريعهم الخاصة، وما أن يتحقق المشروع حتى يتم التخلص من المشروع الإصلاحي وصاحبه.
  3. محاربة الساسة والحكام لكل مشروع نهضوي إصلاحي ديني يمكنه أن ينهض بوعي المجتمع ويعيد صياغة وعيه وأفكاره، بما يقوض هيمنة الحاكم على عقولهم ويهدد وجوده ونفوذه. هذه المحاربة كانت تارة عن طريق ملاحقة أصحاب المشاريع وسجنهم أو قتلهم أو تشويه سمعتهم لإسقاطها اجتماعيًّا، أو إشغالهم بقضايا فرعية وجدالات عقيمة تبعدهم عن غايتهم في الإصلاح، فيموت المشروع ويقضي صاحبه عمره في الرد على هذا ومناقشة ذاك.
  4. الصراعات الوجودية السياسية بين الحكام المختلفين في المنهج والساعين للعب دور إقليمي، هذه الصراعات تدفع نظام سياسي لاستغلال معارضي النظام الخصم خاصة إذا كانوا أصحاب مشاريع نهضوية إصلاحية، تدفعه لاستغلال هؤلاء وتمكينهم لا بسبب الاقتناع بمشروعهم النهضوي، وإنما لإضعاف النظام الخصم واختراق منظومة الدولة من خلال أتباعها، وهؤلاء الذين يتم استغلالهم، قد يجدون ذلك فرصة لاستغلال مزدوج طرفاني، حيث يستغلون استغلال الحاكم لهم، باستغلالهم لذات الحاكم للترويج لمشروعها النهضوي وإثبات نجاعته وجدوائيته في مجتمع هجين عن مجتمعهم، لكنه يمتلك مقومات النهضة، وما إن ينتشرون اجتماعيًّا ويثبتون وجودهم وحضورهم حتى يتحولوا إلى جماعة أو حزب يهدد انتشارهم الحاكم الذي قام باستغلالها، فيعمد الحاكم لتقويض مشروعهم والتخلص منهم بشتى السبل، فلا يمكن لأي أهداف نهضوية ومشروع إصلاحي صالح، أن يحقق أهدافه الصالحة بوسائل غير صالحة، لذلك تفشل كثير من المشاريع الإصلاحية النهضوية لعدم صلاح أدواتها ووسائلها.

إن تداخل السياسي مع الديني تداخلًا لا مبدئيًّا، بل تداخلًا تحركه المصالح ودوافع الهيمنة، قوض كثير من المشاريع الإصلاحية، وأسقط كثير من شخصياتها، فسقطت أفكار الإصلاح مما عمّق التخلف والرجعية وسط نفوذ الحكام بشكل أكبر على عقول الناس.

فإحداث تغيير داخل ديني لا يعني بالضرورة نجاح المشروع وتمكنه، بل لا بد أيضًا في موازاة ذلك إحداث تغيير خارج ديني، فالأول يعيد بناء وعي الذات وينهض بها من ركام أي تخلف أو انغلاق زمني، فتصبح أصيلة بلغة العصر وقادرة على محاكاة الواقع وإشكالياته، والثاني يعيد توجيه وعي الناس وصياغته وفق مقومات النهضة، ويهيئ قابليته للسير قدمًا في نهضة شاملة غايتها العدالة.

السياسة  تلعب دورًا كبيرًا في هيمنة الحضارات وتمكينها ومواجهة مشاريع النهوض والوعي، ومن يملك مالًا أكثر سيملك نفوذًا أكبر، وبالتالي يكون الأقدر على تحريك أحجار الشطرنج.

وتحالف قوة ونفوذ الحاكم مع  القداسات واعتباراتها يشكل سدًّا منيعًا في بعده السلبي في وجه أي نهضة أو تغيير، في اجتماع السلطة والمال وسلاح الفتوى يمثل ثلاثية محكمة في وجه المصلحين من جهة، وسيف مسلط على رقاب الناس وعقولهم.

رؤىة ومقترح

– المنهجة البرهانية لأي مشروع إصلاحي داخل ديني، واعتماد التتبع الدقيق للآراء، ومن ثم طرح مشروع إصلاحي محكم ومدروس على ضوء تجارب السابقين ودراسة أهم نقاط الضعف والقوة وأسباب الفشل والنجاح.

– طرح المشروع من قبل مجموعة تؤمن بضرورة التغيير، وليس من قبل فرد بذاته.

– دراسة قابلية المجتمع ووعيه، والعمل على النهوض بالقابليات إلى مستوى يمكن بعدها طرح المشروع الإصلاحي.

– التدرج في الإصلاح، وعدم ممارسة الصدمة، لأنها ستكلف المشروع وجوده.

– المباشرة الجماعية لطرح رؤى إصلاحية بطريقة علمية، والعمل على انتشارها إعلاميًّا، سيراكم زمنيًّا حركة وعي اجتماعي تدفع باتجاه تسريع عملية التغيير الداخل ديني وعمل إصلاحات حقيقية.

– الابتعاد عن أي رهانات وارتهانات للسياسيين والسلطات، والانطلاق من الجمهور والعمل بين الجمهور ومعه، وعدم الاصطدام بالسلطة خاصة في المراحل الأولى للمشروع.

– الاستقلال المادي والمعنوي والاكتفاء الذاتي من مقومات نجاح العمل الإصلاحي.

– الماكينة الإعلامية والقدرة على الانتشار بكافة الوسائل المتاحة.

– عمل مناظرات تلفزيونية وفي مواقع التواصل الاجتماعي، لطرح الرأي والرأي الآخر أمام عامة الناس، ومناقشة الآراء وتفنيدها وجهًا إلى وجه.

– عدم الانشغال والانجرار إلى معارك جانبية، في الرد على الردود غير العلمية، أو مواجهة سيل التهم ومحاولات التضييق، والفتاوى، بل الاستمرار في الانشغال في المشروع الإصلاحي والانتشار الإعلامي والاجتماعي وإحراز مزيد من الماكينة العلمية.

– عدم الاكتفاء بالعمل الفردي، ومحاولة تشكيل كيان جماعي متفق على كليات المشروع الإصلاحي وأهميته وآلياته التطبيقية، والعمل على الدفع به في وعي الجمهور، وعمل فرق عمل داخل المؤسسات الدينية للمباحثة والمناظرة والسير قدمًا بمنهج قل هاتوا برهانكم.

– النقد العلمي العلني للآراء، وطرح البدائل الصالحة للنهوض والإصلاح، وعدم تقويض الموجود دون دليل ودون بديل صالح مبرهن.

 


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13947/reformation/