التعددية الدينية المعرفية بين خلفيات ومناشئ غربية ورؤية نقدية
إن التعددية الدينية[1] تمثل مفصلًا أساسيًّا من مفاصل الدرس الكلامي الحديث، حيث إن سجالات وإشكاليات متنوعة ومتشعبة قد نجمت عنها وأدى الأمر في كثير من الحالات إلى محاكمتها وإدانتها بقوة وأخرى إلى تبنيها الكامل واعتبارها الوسيلة الفضلى للخروج بالمجتمع الإنساني من مآزق ومآسٍ جلبتها عليه الصراعات الدينية والنزاعات المذهبية. ولقد تراوح الموقف منها بين من رفضها رفضًا قاطعًا على اعتبار أنها بمثابة إنهاء لوجود الدين، وبين من احتضنها بحرارة بغية معالجة التوترات الاجتماعية الناجمة من سيادة الشعور بالأحقية المطلقة الملغية للآخر من قبل كل أنظومة دينية.
مهما يكن من أمر، فإن مما لا شك فيه هو: أن الدين والاعتبارات المنتمية إليه والأيديولوجيات المستنبطة منه، والأحكام القائمة عليه قد أسفرت في حقب تاريخية عديدة عن نشوب حروب ونزاعات كبيرة أراقت دماءً كثيرة، وأحدثت خرابًا واسعًا ودمارًا شاملًا. إن صفحات التاريخ زاخرة بأحداث دامية منشؤها ومنطلقاتها دينية الطبع وقدسية الصبغة راح ضحيتها شخصيات من كافة الأديان والمذاهب. وبصرف النظر عما جرى في القرون الماضية بين الطوائف والأديان والمذاهب من منازعات دموية ومفتتة، فإن الراهن المعيوش أمامنا خير دليل على أن النزاعات الناشئة من التمايز الديني والتفاوت الأيديولوجي لا تزال مصدرًا للعنف والصراع، سواء أكان ذلك فيما بين الأديان، مثلما نلاحظ في بعض الدول الآسيوية الجنوبية، وبعض الأقاليم الإفريقية الغربية والشرقية التي تقطنها مجموعات كبيرة من المسيحيين والمسلمين، أو الذي يجري في عمق مذاهب دين واحد، كما هو الحال في مناطق كثيرة من القارة الهندية وبعض دول الشرق الأوسط.
من الواضح جدًّا، أن مواقف دينية بحتة وقراءات واستنباطات مذهبية شكَّلت خلفية لكثير من هذه النزاعات دون الرغبات السياسية أو غير السياسية. بل أكثر من ذلك، إن نظرة فاحصة في مناشئ النزاعات المذهبية والدينية تبرهن بجلاء على أن أحكامًا شرعية وفتاوى اجتهادية مرتكزة إلى فهم ديني أو مذهبي خاص لبعض المرجعيات الدينية أو المذهبية كانت تصدر بحق المخالف والمختلف من هدر دم ورخصة قتل وتكفير وتفسيق وتنجيس أسست لنزاعات كبيرة في التاريخ الإنساني. جاء التأكيد عليها من خلال تصور يُلقي اللوم كله على العوام ويبرئ ذمة المرجعيات الأيديولوجية.
من لا يدري أن عقلية الاعتزال تمثّل إشراقًا جيدًا وسط جمود وتعصب كبير دام طويلًا؟ ولكن الانفتاح العقلي والنزعة العقلية الاعتزالية لم تمنع هذه المجموعة من ممارسة عقاب أليم ضد المعارضين في ما عُرف في التاريخ الإسلامي بمحنة خلق القرآن الكريم، الحدث الذي كلّف الكثير من الأرواح، وأحدث جرحًا داميًا في جسد الأمة آنذاك. هذا هو حال التوجه الريادي في العقلانية والحرية، فكيف الحال فيما يرجع إلى اتجاهات متعصبة هي مصدر ممارسات تعسفية شنيعة ارتكبت بحق بعض المذاهب الدينية أو المذهبية في ظل ما سمي بالاجتهادات؟
وأشد مرارة مما حدث في الساحة الإسلامية إلى ما شهده التاريخ القروسطي المسيحي من ممارسات قتل وتعذيب وقهر ضد المعارض، تحت غطاء ديني متقدس، وإصدار أحكام قاسية وعنيفة في محاكم تفتيش العقائد ونزاعات دموية مترامية الأطراف فيما بين طوائف مسيحية، أو المعارك والنزاعات التي اندلعت بين أنصار الدين المسيحي واليهود باعتبارهم قتلة النبي عيسى(ع).
وعلى كل حال، فإن الرؤية الحصرية والاحتكارية للحق لدى كل دين وعقيدة مذهبية، والشعور الكامل بأن كل أبواب الحقيقة والنجاة أو الفوز بالجنة والسعادة مغلقة في وجه الطرف الآخر المخالف والمختلف دينيًّا، وعدم ترك المجال لإمكانية حياة ما للتعايش السلمي قد فجَّرت نزاعات لها طابع ديني بعض الأحيان.
من جهة أخرى، إن الواقع العالمي في ظل التطورات العلمية الكبيرة والتقدم والتنمية الشاملة على كافة الصعد بلغ مرحلة من التقارب والتفاعل، حيث جعلت من الصعب لأحد فيها أن يفكر بالعيش المنزوي بمنأى عن الآخرين مهما اختلفوا فكريًّا ودينيًّا. بالإضافة إلى ما سبق فإن تحرر المجتمع الغربي من بطش السلطة الكنسية القاهرة، ومن أجواء الإرهاب الديني السائد في القرون الوسطى قد مكّن النخبة المسيحية من إلقاء نظرات متفحصة على مضامين ديانات أخرى، وبالتالي عدم الصمود قبال خضم من الفصائل الإنسانية والمعطيات الراقية والقيم الاجتماعية التي احتوتها، والإسفار عن الاضطرار إلى الاعتراف ببعضها والتشكيك في اعتبار من هو خارج الدين المسيحي بعيدًا عن الحقيقة كليًّا ومحرومًا من فرصة نجاة، مما عزَّز الاحتمال لدى هؤلاء بأن الديانات قد تلتقي على حقيقة مشتركة سموها فيما بعد بجوهر الدين.
من هنا بالذات قد نشأت حركة أخلاقية وفلسفية معرفية دعت إلى ضرورة التوقف عن الرؤية الحصرية، والاحتكارية للحقيقة ولزوم الاعتراف بالآخر المختلف دينيًّا. وقد تمَّ تعريف هذه الانطلاقة المتسامحة فيما بين الأديان بالبلورالية أو التعددية كمبدأ أو تبنٍّ لفكرة ضرورة تمتع الإنسان بحرية كاملة في اختيار المعتقد، وعدم فرض دين على أحد، واتباع منهج التسامح والتساهل مع الآخر في السلوك والتعايش، رغم اعتقاد هذه المجموعة بأن من ليس على عقيدتهم لا يذوق من النجاة شيئًا في مقابل الحياة. وتوجه آخر قد بلور التعددية الدينية مفاده:
اعتبر أن غير المسيحي في حال تعذره في الوصول إلى العقيدة المسيحية وبقائه على فطرة سليمة إنسانية قد يحظى بالفوز والنجاة وإن كان في ظاهره ليس على هذه الديانة. ويسميه البعض منهم المسيحي المجهول. هكذا تتطور نظرية التعددية لتصل إلى مرحلة هي أكثر رقيًّا وتقدّمًا ما مفاده أن الديانات الأخرى هي تمتلك من الحقيقة شيئًا؛ بل هي شريكة في امتلاك الحقيقة، وأول ما يفرز عن هذه الرؤية هو أنه تبطل في ظل هذه النظرية إمكانية ادعاء دين بامتلاك واحتكار الحقيقة كلها وحده. فإذن قد اكتملت حلقات ثلاث من التعددية هي:
– التعددية الأخلاقية[2]وهي التي تفرض على أتباع دين أن يتسامحوا ويلينوا في سلوكياتهم وتعاملاتهم مع أصحاب دين آخر، دون أن يعني ذلك لديهم الاعتراف بوجود حصة من الحقيقة والنجاة لهم.
– والتعددية الخلاصية أو الاستنقاذية[3] والنجاتية القاضية بأن غير المسيحيين أيضًا يمتلكون فرص الفوز بالنجاة وبالجنة أو الخلاص المسيحي. وفي الحقيقة إن هذا البعد من التعددية هو الذي قد يمكّن المسيحي من الالتزام بالتعددية الأخلاقية السابق ذكرها، لأن وجود اعتقاد بإمكانية تواجد فرصة السعادة لغير المسيحي هو الذي يفتح المجال للتسامح السلوكي والتصرف البعيد عن العنف مع أتباع ديانات أخرى. ومعلوم أن التعددية الخلاصية تقف في وجه الحصرية[4]، بل وفي وجه الشموليين الذين يتنازلون عما يقوله الحصريون في استحالة نجاة غير المسيحي بخطوة تقتضي فتح أبواب الجنة في وجه الأديان الأخرى قليلًا، مع أن الاهتمام الأساسي لـ “جون هيغ” في مشروعه البلورالي كان قد انصبّ في هذين البعدين للتعددية ومتمركِّزًا عليهما، إلا أن تطورًا كبيرًا وهائلًا قد أخذ يستهلك كل جهوده مؤخرًا، وذلك لأجل تركيزه على أخطر مرحلة وأكثر المستويات حساسية في نظريته التعددية وهي: التعددية الدينية المعرفية[5].
يبدو هنا أن “جون هيغ” يركِّز في هذه المرحلة على أن التبيين الديني في الفكر المسيحي ليس أفضل أو أحق من الديانات الأخرى. وهنا إن المتبني لهذه النظرية وبهذا المستوى منها، يرتقي من القول بإمكانية توفر فرصة “الخلاص” و”النجاة ” لغير المسيحي إلى القول بأن “الحقيقة” الكامنة في الدين ليست امتلاكًا خاصًّا وحكرًا على الديانة المسيحية، وذلك لتكافؤ دياناتي حقيّ شامل في فرص الوصول إلى تلك الحقيقة المشتركة، وتوازن الديانات في إمكانية الادعاء بامتلاك الحقيقة مع التأكيد لاستحالة وجود سبيل يثبت أو ينفي من خلاله ذلك الادعاء.
إن “جون هيغ” رغم أنه بطل هذه الساحة والمنظّر الأكبر لنظرية التعددية بهذه المداليل الخاصة، وبذلك قد تمكن من كسر جمود كبير وإفساح المجال للتعايش السلمي فيما بين الديانات المختلفة مع قدر أقل من الاحتكاك، ومع أن نظرية “جون هيغ” استطاعت تحويل الأديان المتصادمة إلى جيران يلتقون على حقيقة واحدة، ويشتركون في إمكانية توفير فرصة الخلاص والإنقاذ للأتباع، وبذلك قد أمكنه إعطاء خدمة كبيرة إلى المجتمع البشري، بيد أن الموضوع ليس بهذه الصورة الأولية وعلى هذا التصور البسيط قد حُسم؛ لأن ما يترتب على هذه النظرية من إشكاليات ومضاعفات على القضايا الدينية لا يستهان به أبدًا كما سنلاحظ لاحقًا.
إن الرؤية التقليصية (Reductionism) أو التوجه التقليلي هو ما يمثل الأساس في إنجاز
“جون هيغ” التعددي ومعنى ذلك هو: أنه بفضل تقليل نطاق حقيقة الدين إلى “تجربة” شخصية تعبّر عن حالة إيمانية بالمطلق أو الحقيقية المطلقة تمكّن من حسم الصراع وبتَّ الأمر. وهكذا قد ضيّق الخناق على الفكر الديني وحاصر حدوده، وقلَّل مساحة الدين إلى ما لا يكون أو لا يمكن أن يكون الاختلاف عليه كبيرًا، وخاصة إذا تحوَّل الدين عنده إلى جوهر باطني أو تجربة دينية باطنية لا يكون في وسع أحد التفكير بتقييمها وإصدار الحكم لها أو عليها.
بهذه المناسبة ينبغي لنا القول: إن البعض قد يتصور أن التعددية “الجون هيغية” هي بالأساس من خلق الليبرالية الدينية الراجعة إلى الليبرالية السياسية، غير أن الأمر وإن لم يكن يغيّر شيئًا من حقيقة أن التعددية الدينية، وبالذات المعرفية والحقيقية منها، هي الأداة الكبرى والخدمة العظمى لمشاريع نظرية وأطروحات فكرية وغير فكرية عديدة مثل الليبرالية السياسية والاقتصادية والعلمانية وكذلك العولمة، ولكنه قد لا يكشف بقوة ووضوح عن وجود مخطط مدبّر من جهات سياسية أو غير دينية في إطلاق هذا المشروع الأنثروبولوجي غير الفلسفي، وخاصة لو أخذنا هنا بعين الاعتبار خلفيات علمية هائلة تكمن وراء هذه التعددية كنتيجة لنظريات شلاير ماخر وغيره ممن ساهم نوعًا ما في كشف النقاب عن تعقيدات هائلة في عملية التكون المعرفي لدى الإنسان، سواء أكان ذلك في “النص” وعلم التأويل فيه، أم في غير النص من بحوث في النقد الأدبي. مهما يكن في الأمر، فإن مواطن كثيرة من هذه النظرية تقبل النقد في اعتقادي وأعمل على المرور عليها كالتالي:
- التعددية المعرفية الدينية تغلق الباب على أي عمل في إمكانية تقييم ذلك البعد الديني الحقيقي، أي تلك التجربة الدينية الإيمانية، وبذلك يصعب التمييز فيما بين الانفعالات والمشاعر الناشئة من اختلالات عقلية أو نفسية وأوهام باطلة تأتي الإنسان عادة تحت ضغط عناصر خارجية أو داخلية، وبين التجارب الصافية والمعبرة عن شهود حقيقي روحاني للإنسان المتدين والمؤمن بالحقيقة المطلقة. هذا وإننا من خلال القواعد الفلسفية والعقلية، نتمكن من القيام بعملية تقييم يخرج بها كثير من الحالات الداخلية المدرجة تحت عنوان التجربة الدينية من إطار الصواب المطلق؛ وعلى سبيل المثال يمكننا الإشارة إلى مبدأ “وجوب الوجود الذاتي” لذاك المطلق، والمحاولة لعملية توفيق فيما بين التجربة الدينية، وبين مواصفات قطعية لذاك الوجود الواجب دون الترتب على ذلك ضرورة توافر معرفة تفصيلية عنه. هنا أرى من الضروري التذكير بأن تقليص مفاهيم ومداليل “العددية” والتي قد تكونت وتراكمت فيها عبر مرور عصور متعددة إلى مستوى المدلول المعجمي لهذه الكلمة وحده يمكننا من تعريضه لنقد ديني داخلي ويسمح لنا بتحويل الإشكالية إلى نقاش ديني غير فلسفي، إلا أن الحقيقة هي تؤيد غير ذلك، حيث إن أي معالجة لتعددية بالمفهوم الاصطلاحي لا بد من أن تتم من الناحية المنهجية خارج إطار الديانات نفسها. والمفروض هو أن نؤسس لنقد موضوعي لها مبني على الأساس العقلي والفلسفي والموضوعي. هنا أعود لأذكّر: إن اعتبار “التعددية المعرفية” بمثابة مصطلح “التسامح”، و”التساهل”، ومن ثم الحديث عن آيات أو روايات داخلية دينية تؤكدها خطأ منهجي كبير؛ ذلك أن التسامح الذي تفرضه التعددية المعرفية هو يختلف جوهريًّا عن الذي يتحدث البعض عنه في ظل استشهادات واستنادات قرآنية أو سنية.
- إن ما كان يمثل خلفيات انطلاق “جون هيغ” وغيره من المنظّرين للتعددية مردَّه إلى توسع العنف الديني الذي يعود بدوره إلى الارتكاز إلى رؤى دينية متصلبة ومتشددة على الصعيد المعرفي، غير أن إشكالية التصادم الديني لا تتطلب ضرورة ممارسة تقليص هائل وجوهري للمضمون الديني، ولا تدعو إلى اعتبار كل ما هو خارج مخيال أو نفس الإنسان من عمل الثقافة والحياة الاجتماعية.
- لا يمكن إنكار أن “جون هيغ” وغيره قد كرَّسوا نظرية التعددية في سياق تاريخي وزمني واجتماعي خاص، وبالذات تحت وطأة عجز تنظيري كبير وأزمة النص فيه – لو صحَّ التعبير – مما دفع فلاسفة الدين وأيضًا فلاسفة اللغة إلى التحرك باتجاه تطوير الهرمينوطيقا ودفعهم صوب القيام بتنظير التعددية بيد أن الفضاءات والمناخات الإسلامية نصًّا واجتهادًا وواقعًا اجتماعيًّا تتميز كليًّا، وقد لا يكلِّف أمر كهذا الدين الإسلامي في سبيل تحقيق مجتمع فيه قمة التعددية والتسامح كل الخسارة التي تحملتها العقيدة المسيحية جرّاء تبنيها لهذه الصيغة التقليلية لدائرة الدين. ولذلك قد يكون من المبرر جدًّا أن أدعو الإخوة إلى قراءة التعددية الجون هيغية في سياقها الزمني والتأريخي تفاديًا لعملية إسقاط تفصيلي على الواقع الإسلامي المعرفي. ولعل غفلة “جون هيغ” عن إدراك صعوبة إمكانية انطباق عقيدة المسيحية الموجودة على الإسلام هي التي دفعته إلى الرهان على التصوف أو العرفان الإسلامي، عندما يتمنى أو يتوقع للإسلام أن يتأزم وضعه في مواجهة العلوم الجديدة … تمامًا مثلما حدث للفكر المسيحي ليبادر الإسلام أيضًا إلى تحقيق صلة فيما بين العلم والإيمان، ومن ثم يشيد بالتوجه الصوفي الإسلامي كمجموعة رشيدة وواعية لعمق مضامين الأديان الأخرى[6]. مع أن الفكر الصوفي المتجاهل للشريعة تحت حجة الوصول إلى “الحقيقة” أم “الطريقة” غير معترف به بالأساس لدى الغالب الإسلامي بالإضافة إلى أنه لا يشكِّل نسبة ملحوظة من النزعة الصوفية ذاتها، ولا نريد هنا أن ننكر ذاك البعد الإيجابي الرحب في بعض التوجهات الصوفية في ظل اهتمام مركَّز بحقيقة الدين ومغزى الرسالة الإسلامية أكثر من شريحة الفقهاء في الغالب، مع ذلك كله فإن المناخ الإسلامي ليس بمنأى كامل عن كل مستويات القراءات المتصلبة والمتشددة المألوفة لدى الدينيين المسيحيين في العصور الماضية. وفي الحقيقة إن درجة من تلك الرؤى الدينية الضيقة قائمة في الوسط الإسلامي، وبقدر ما تتوسع دائرة هذه الممارسات الشديدة والمتحجرة بقدر ما يبرر وجود عديد من الاتجاهات والإصلاحات الانفعالية الغربية مقابل السلوك الكنسي المتجمد. ولعل الرواج النسبي القائم بين شريحة من المثقفين الإيرانيين كنموذج يمثل رد فعل لا إرادي مباشر لاختراق لدى الطرف الآخر أو الجزمية الفكرية عند البعض.
- إن “جون هيغ” يصف الدين كردّ فعل بشري حقيقي اتجاه الحقيقة المتعالية[7]. وبذلك يحاول هيغ إرجاع الاختلافات الدينية إلى اختلافات الناس في مواجهة الحقيقة. إلى هنا قد لا يكون على خطأ، ولكنه أخطأ عندما أبعد تلك الحقيقة من متناول يد الإنسان، وزاد المسافة بين الحقيقة الثابتة والحقيقة المثبتة من خلال عدم اعترافه بمعرفة لدى الإنسان عن تلك الحقيقة، فتحول الدين لديه إلى كائن وصنع بشري لا يعبّر عن الحقيقة في مقام الثبوت، أو بتعبير آخر؛ إنه يعتبر الدين تعبيرًا بشريًّا لتلك الحقيقة الثابتة، فيضع الدين على مرتفع لا يمكن للإنسان مسّه إلا عبر تجربة روحية وباطنية. وقد يصح التعبير عن موقف هيغ اتجاه الدين بالموقف المثالي الديني الذي لا وجود له في الخارج، ولكن تعبيرًا بشريًّا (وليس تبلورًا أو تجليًا على البشر) وردة فعل بشرية هو كل ما نراه. وهنا يتحول الدين إلى مخلوق البشر وتلك الحقيقة تظل بعيدة عن الإنسان، إلا بقدر ما يجربها المتدين! أود أن لا يفوتني هنا ذكر نقطة مهمة وهي: أن هيغ – كما يبدو من أقواله – يرى أن الدين كرد فعل حقيقي للبشر في مواجهة الحقيقة قابل في داخله للنقد والرفض أو القبول، ولكن العويصة هنا هي أنه لا يملك ميزانًا لمعيرة هذا المضمون البشري الذي هو حالة إنسانية للحقيقة تحولّت بفعل إنسانية الإنسان (بكل ما في كلمة الإنسان من معنى وحدود وإطارات) إلى كائن آخر. وخاصة عندما ينص هو على أن الحقيقة يستحيل تبلورها في قوالب وأشكال متناقضة[8] هو متأثر بمقولة الثبوت والإثبات[9] عند كانط والمفارقة السائدة فيما بينهما.
- من تبعات التعددية المعرفية الدينية – حسب التنظير الجون هيغي – هو أن الدين والمعرفة الدينية سيظل في الدائرة “النسبية المعرفية” دون تلك “الحقيقة” الخارجة عن قدرة الإنسان في الوصول إليها (كي لا يظلم “جون هيغ” وينسب إليه القول بالنسبية المطلقة). وحسب رأيه فلا يختلف النبي فيما يقوله أو يدعيه من نبوة أو وحي عن غيره. والتجربة النبوية هي تجربة دينية متميزة يعود السر فيها إلى تميّز النبي في شخصيته الراقية. فإذن باستثناء التجربة الدينية التي يمارسها النبي، فإن الوحي وما يتلفّظه أو ما يأتي به كوحي أو يعبّر عنه بواسطة إمكانيات التعبير الإنساني فإنه دين، بمعنى أنه ردّ فعل إنساني في مواجهة الحقيقة السامية! فتبطل النبوة كشريعة ودين إلهي[10]. وأخيرًا إن نظرة سريعة إلى ركائز أطروحة “جون هيغ” تفرز لنا عدة نقاط نستطيع التعبير عنها بالإيجابيات وهي كالتالي:
- يعتقد “جون هيغ” في ظل التعددية الدينية أن تجسّد المسيح لا أصل له، وبذلك يقترب من العقيدة الإسلامية في نظريته هذه بشكل لافت.
- بات من الممكن تصور حالة من التسامح والتعايش السلمي المتمتع باستقرار فيما بين الأديان والطوائف الدينية؛ إذ إن التعددية الهيغية لا تحصر الحقيقة في دين دون آخر، وهذا ما يعمّق التسامح إلى أبعد حد. ومثل هذا الرأي من شأنه أن يمهّد الطريق للقول بضرورة الاعتراف الكامل لدى العقيدة المسيحية بالدين الإسلامي كدين سماوي، ولزوم توفير المجال الفسيح من قبل سلطات المسيحية العالمية للتحرك الإسلامي؛ وذلك لأجل استحالة القول بأفضلية أو أحقية المسيحية.
- إبراز الإيمان في نظرية “جون هيغ ” يمثّل اقترابًا من جوهر الدين، في وقت أمسى الإيمان الحقيقي متأخرًا لحساب الفقه والشريعة (حسب المصطلح وليس واقع هذه الكلمات). ولا يخفى التركيز الإسلامي الكبير في الخطاب القرآني والسني على النية وقصد الإنسان النابع من الإيمان أو الآيات القرآنية الصريحة في تقديم الإيمان والنية على العمل الصالح.
- فكرة التعددية عند “جون هيغ” تقلِّل من فواصل الأديان، وذلك عندما ينص على صعوبة أو تعذّر إثبات أرجحية دين خاص على غيره.
- التركيز على التقاء الأديان على جوهر موحد وحقيقة متماثلة ينطوي على مقاربة إسلامية دينية في القرآن وسط تأكيدات قرآنية كبيرة لا تعترف بتعدد الأديان كما هو مألوف في الساحة الإسلامية. وإن درسًا سريعًا قرآنيًّا لحالات استخدام لفظ “الإسلام” ومشتقاته سيبرهن على أن المسافة بين ما يسمى بالأديان ليست كما يُتصوّر أحيانًا[11].
- نقل جوهر الدين من الأصول المناسكية الجزمية المسيحية إلى الإيمان والتجربة الدينية قد ليّن الفضاء في الخطاب الديني المسيحي المتصلّب.
- إن اعتباره الدين في قالب النص الديني كرد فعل بشري ليس تعبيرًا بالضرورة عن التجربة الدينية وعن الحقيقة المقدسة، فقد خصّب المجال لهضم مقولة تحريف الكتاب المقدس وتخفيف المقاومة في وجه القائلين به من داخل المعتقد المسيحي أو من خارج جدرانه. مما يدعم احتمال تحرك مستقبلي باتجاه الحديث عن بلورة وإبراز الإشكالية أم حتى المبادرة إلى التقييم.
[1] Religious pluralism .
[2] Normative religious pluralism.
[3] stereological religious pluralism.
[4] Exclusivism.
[5] Episstemological religious pluralism.
[6] John Hick، An interpretation of Religion، P. 378.
[7] محمد لغنهاوزن، الإسلام والتعددية الدينية، الصفحة 121.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 121.
[10] ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾، سورة التوبة، الآية 33.
[11] ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾، سورة الشورى، الآية 13.
﴿وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ سورة البقرة، الآيتان 111 – 112
﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ سورة البقرة، الآية 62.
المقالات المرتبطة
رؤى العالم بنظرة غربيــة: الإثنوجرافيا الجديدة
نشأت الإثنوجرافيا الجديدة New Ethnography في الولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، في سياق الاهتمام بمدخل منهجي يركّز
تساؤلات حول العقل المرجعي في الدراسات الدينية
إنّ الحديث عن موقع ودور العقل المرجعي في الدراسات الدينية؛ سوف يضعنا أمام إشكاليتين تتعلق أولاهما بتحديد المقصود من العقل، أما الثانية فبالمقصود من الدراسات الدينية.
إشكاليّة المِتافيزيقا في الفكر الأوروبيّ
باتت المِتافيزيقا، منذ عصر الأنوار، خارج الدائرة الفلسفيّة، إذ عُدّت قضاياها غير ذات معنًى