by معهد المعارف الحكميّة | نوفمبر 4, 2021 1:10 م
إن التعددية الدينية[1][1] تمثل مفصلًا أساسيًّا من مفاصل الدرس الكلامي الحديث، حيث إن سجالات وإشكاليات متنوعة ومتشعبة قد نجمت عنها وأدى الأمر في كثير من الحالات إلى محاكمتها وإدانتها بقوة وأخرى إلى تبنيها الكامل واعتبارها الوسيلة الفضلى للخروج بالمجتمع الإنساني من مآزق ومآسٍ جلبتها عليه الصراعات الدينية والنزاعات المذهبية. ولقد تراوح الموقف منها بين من رفضها رفضًا قاطعًا على اعتبار أنها بمثابة إنهاء لوجود الدين، وبين من احتضنها بحرارة بغية معالجة التوترات الاجتماعية الناجمة من سيادة الشعور بالأحقية المطلقة الملغية للآخر من قبل كل أنظومة دينية.
مهما يكن من أمر، فإن مما لا شك فيه هو: أن الدين والاعتبارات المنتمية إليه والأيديولوجيات المستنبطة منه، والأحكام القائمة عليه قد أسفرت في حقب تاريخية عديدة عن نشوب حروب ونزاعات كبيرة أراقت دماءً كثيرة، وأحدثت خرابًا واسعًا ودمارًا شاملًا. إن صفحات التاريخ زاخرة بأحداث دامية منشؤها ومنطلقاتها دينية الطبع وقدسية الصبغة راح ضحيتها شخصيات من كافة الأديان والمذاهب. وبصرف النظر عما جرى في القرون الماضية بين الطوائف والأديان والمذاهب من منازعات دموية ومفتتة، فإن الراهن المعيوش أمامنا خير دليل على أن النزاعات الناشئة من التمايز الديني والتفاوت الأيديولوجي لا تزال مصدرًا للعنف والصراع، سواء أكان ذلك فيما بين الأديان، مثلما نلاحظ في بعض الدول الآسيوية الجنوبية، وبعض الأقاليم الإفريقية الغربية والشرقية التي تقطنها مجموعات كبيرة من المسيحيين والمسلمين، أو الذي يجري في عمق مذاهب دين واحد، كما هو الحال في مناطق كثيرة من القارة الهندية وبعض دول الشرق الأوسط.
من الواضح جدًّا، أن مواقف دينية بحتة وقراءات واستنباطات مذهبية شكَّلت خلفية لكثير من هذه النزاعات دون الرغبات السياسية أو غير السياسية. بل أكثر من ذلك، إن نظرة فاحصة في مناشئ النزاعات المذهبية والدينية تبرهن بجلاء على أن أحكامًا شرعية وفتاوى اجتهادية مرتكزة إلى فهم ديني أو مذهبي خاص لبعض المرجعيات الدينية أو المذهبية كانت تصدر بحق المخالف والمختلف من هدر دم ورخصة قتل وتكفير وتفسيق وتنجيس أسست لنزاعات كبيرة في التاريخ الإنساني. جاء التأكيد عليها من خلال تصور يُلقي اللوم كله على العوام ويبرئ ذمة المرجعيات الأيديولوجية.
من لا يدري أن عقلية الاعتزال تمثّل إشراقًا جيدًا وسط جمود وتعصب كبير دام طويلًا؟ ولكن الانفتاح العقلي والنزعة العقلية الاعتزالية لم تمنع هذه المجموعة من ممارسة عقاب أليم ضد المعارضين في ما عُرف في التاريخ الإسلامي بمحنة خلق القرآن الكريم، الحدث الذي كلّف الكثير من الأرواح، وأحدث جرحًا داميًا في جسد الأمة آنذاك. هذا هو حال التوجه الريادي في العقلانية والحرية، فكيف الحال فيما يرجع إلى اتجاهات متعصبة هي مصدر ممارسات تعسفية شنيعة ارتكبت بحق بعض المذاهب الدينية أو المذهبية في ظل ما سمي بالاجتهادات؟
وأشد مرارة مما حدث في الساحة الإسلامية إلى ما شهده التاريخ القروسطي المسيحي من ممارسات قتل وتعذيب وقهر ضد المعارض، تحت غطاء ديني متقدس، وإصدار أحكام قاسية وعنيفة في محاكم تفتيش العقائد ونزاعات دموية مترامية الأطراف فيما بين طوائف مسيحية، أو المعارك والنزاعات التي اندلعت بين أنصار الدين المسيحي واليهود باعتبارهم قتلة النبي عيسى(ع).
وعلى كل حال، فإن الرؤية الحصرية والاحتكارية للحق لدى كل دين وعقيدة مذهبية، والشعور الكامل بأن كل أبواب الحقيقة والنجاة أو الفوز بالجنة والسعادة مغلقة في وجه الطرف الآخر المخالف والمختلف دينيًّا، وعدم ترك المجال لإمكانية حياة ما للتعايش السلمي قد فجَّرت نزاعات لها طابع ديني بعض الأحيان.
من جهة أخرى، إن الواقع العالمي في ظل التطورات العلمية الكبيرة والتقدم والتنمية الشاملة على كافة الصعد بلغ مرحلة من التقارب والتفاعل، حيث جعلت من الصعب لأحد فيها أن يفكر بالعيش المنزوي بمنأى عن الآخرين مهما اختلفوا فكريًّا ودينيًّا. بالإضافة إلى ما سبق فإن تحرر المجتمع الغربي من بطش السلطة الكنسية القاهرة، ومن أجواء الإرهاب الديني السائد في القرون الوسطى قد مكّن النخبة المسيحية من إلقاء نظرات متفحصة على مضامين ديانات أخرى، وبالتالي عدم الصمود قبال خضم من الفصائل الإنسانية والمعطيات الراقية والقيم الاجتماعية التي احتوتها، والإسفار عن الاضطرار إلى الاعتراف ببعضها والتشكيك في اعتبار من هو خارج الدين المسيحي بعيدًا عن الحقيقة كليًّا ومحرومًا من فرصة نجاة، مما عزَّز الاحتمال لدى هؤلاء بأن الديانات قد تلتقي على حقيقة مشتركة سموها فيما بعد بجوهر الدين.
من هنا بالذات قد نشأت حركة أخلاقية وفلسفية معرفية دعت إلى ضرورة التوقف عن الرؤية الحصرية، والاحتكارية للحقيقة ولزوم الاعتراف بالآخر المختلف دينيًّا. وقد تمَّ تعريف هذه الانطلاقة المتسامحة فيما بين الأديان بالبلورالية أو التعددية كمبدأ أو تبنٍّ لفكرة ضرورة تمتع الإنسان بحرية كاملة في اختيار المعتقد، وعدم فرض دين على أحد، واتباع منهج التسامح والتساهل مع الآخر في السلوك والتعايش، رغم اعتقاد هذه المجموعة بأن من ليس على عقيدتهم لا يذوق من النجاة شيئًا في مقابل الحياة. وتوجه آخر قد بلور التعددية الدينية مفاده:
اعتبر أن غير المسيحي في حال تعذره في الوصول إلى العقيدة المسيحية وبقائه على فطرة سليمة إنسانية قد يحظى بالفوز والنجاة وإن كان في ظاهره ليس على هذه الديانة. ويسميه البعض منهم المسيحي المجهول. هكذا تتطور نظرية التعددية لتصل إلى مرحلة هي أكثر رقيًّا وتقدّمًا ما مفاده أن الديانات الأخرى هي تمتلك من الحقيقة شيئًا؛ بل هي شريكة في امتلاك الحقيقة، وأول ما يفرز عن هذه الرؤية هو أنه تبطل في ظل هذه النظرية إمكانية ادعاء دين بامتلاك واحتكار الحقيقة كلها وحده. فإذن قد اكتملت حلقات ثلاث من التعددية هي:
– التعددية الأخلاقية[2][2]وهي التي تفرض على أتباع دين أن يتسامحوا ويلينوا في سلوكياتهم وتعاملاتهم مع أصحاب دين آخر، دون أن يعني ذلك لديهم الاعتراف بوجود حصة من الحقيقة والنجاة لهم.
– والتعددية الخلاصية أو الاستنقاذية[3][3] والنجاتية القاضية بأن غير المسيحيين أيضًا يمتلكون فرص الفوز بالنجاة وبالجنة أو الخلاص المسيحي. وفي الحقيقة إن هذا البعد من التعددية هو الذي قد يمكّن المسيحي من الالتزام بالتعددية الأخلاقية السابق ذكرها، لأن وجود اعتقاد بإمكانية تواجد فرصة السعادة لغير المسيحي هو الذي يفتح المجال للتسامح السلوكي والتصرف البعيد عن العنف مع أتباع ديانات أخرى. ومعلوم أن التعددية الخلاصية تقف في وجه الحصرية[4][4]، بل وفي وجه الشموليين الذين يتنازلون عما يقوله الحصريون في استحالة نجاة غير المسيحي بخطوة تقتضي فتح أبواب الجنة في وجه الأديان الأخرى قليلًا، مع أن الاهتمام الأساسي لـ “جون هيغ” في مشروعه البلورالي كان قد انصبّ في هذين البعدين للتعددية ومتمركِّزًا عليهما، إلا أن تطورًا كبيرًا وهائلًا قد أخذ يستهلك كل جهوده مؤخرًا، وذلك لأجل تركيزه على أخطر مرحلة وأكثر المستويات حساسية في نظريته التعددية وهي: التعددية الدينية المعرفية[5][5].
يبدو هنا أن “جون هيغ” يركِّز في هذه المرحلة على أن التبيين الديني في الفكر المسيحي ليس أفضل أو أحق من الديانات الأخرى. وهنا إن المتبني لهذه النظرية وبهذا المستوى منها، يرتقي من القول بإمكانية توفر فرصة “الخلاص” و”النجاة ” لغير المسيحي إلى القول بأن “الحقيقة” الكامنة في الدين ليست امتلاكًا خاصًّا وحكرًا على الديانة المسيحية، وذلك لتكافؤ دياناتي حقيّ شامل في فرص الوصول إلى تلك الحقيقة المشتركة، وتوازن الديانات في إمكانية الادعاء بامتلاك الحقيقة مع التأكيد لاستحالة وجود سبيل يثبت أو ينفي من خلاله ذلك الادعاء.
إن “جون هيغ” رغم أنه بطل هذه الساحة والمنظّر الأكبر لنظرية التعددية بهذه المداليل الخاصة، وبذلك قد تمكن من كسر جمود كبير وإفساح المجال للتعايش السلمي فيما بين الديانات المختلفة مع قدر أقل من الاحتكاك، ومع أن نظرية “جون هيغ” استطاعت تحويل الأديان المتصادمة إلى جيران يلتقون على حقيقة واحدة، ويشتركون في إمكانية توفير فرصة الخلاص والإنقاذ للأتباع، وبذلك قد أمكنه إعطاء خدمة كبيرة إلى المجتمع البشري، بيد أن الموضوع ليس بهذه الصورة الأولية وعلى هذا التصور البسيط قد حُسم؛ لأن ما يترتب على هذه النظرية من إشكاليات ومضاعفات على القضايا الدينية لا يستهان به أبدًا كما سنلاحظ لاحقًا.
إن الرؤية التقليصية (Reductionism) أو التوجه التقليلي هو ما يمثل الأساس في إنجاز
“جون هيغ” التعددي ومعنى ذلك هو: أنه بفضل تقليل نطاق حقيقة الدين إلى “تجربة” شخصية تعبّر عن حالة إيمانية بالمطلق أو الحقيقية المطلقة تمكّن من حسم الصراع وبتَّ الأمر. وهكذا قد ضيّق الخناق على الفكر الديني وحاصر حدوده، وقلَّل مساحة الدين إلى ما لا يكون أو لا يمكن أن يكون الاختلاف عليه كبيرًا، وخاصة إذا تحوَّل الدين عنده إلى جوهر باطني أو تجربة دينية باطنية لا يكون في وسع أحد التفكير بتقييمها وإصدار الحكم لها أو عليها.
بهذه المناسبة ينبغي لنا القول: إن البعض قد يتصور أن التعددية “الجون هيغية” هي بالأساس من خلق الليبرالية الدينية الراجعة إلى الليبرالية السياسية، غير أن الأمر وإن لم يكن يغيّر شيئًا من حقيقة أن التعددية الدينية، وبالذات المعرفية والحقيقية منها، هي الأداة الكبرى والخدمة العظمى لمشاريع نظرية وأطروحات فكرية وغير فكرية عديدة مثل الليبرالية السياسية والاقتصادية والعلمانية وكذلك العولمة، ولكنه قد لا يكشف بقوة ووضوح عن وجود مخطط مدبّر من جهات سياسية أو غير دينية في إطلاق هذا المشروع الأنثروبولوجي غير الفلسفي، وخاصة لو أخذنا هنا بعين الاعتبار خلفيات علمية هائلة تكمن وراء هذه التعددية كنتيجة لنظريات شلاير ماخر وغيره ممن ساهم نوعًا ما في كشف النقاب عن تعقيدات هائلة في عملية التكون المعرفي لدى الإنسان، سواء أكان ذلك في “النص” وعلم التأويل فيه، أم في غير النص من بحوث في النقد الأدبي. مهما يكن في الأمر، فإن مواطن كثيرة من هذه النظرية تقبل النقد في اعتقادي وأعمل على المرور عليها كالتالي:
[1][12] Religious pluralism .
[2][13] Normative religious pluralism.
[3][14] stereological religious pluralism.
[4][15] Exclusivism.
[5][16] Episstemological religious pluralism.
[6][17] John Hick، An interpretation of Religion، P. 378.
[7][18] محمد لغنهاوزن، الإسلام والتعددية الدينية، الصفحة 121.
[8][19] المصدر نفسه، الصفحة 121.
[20].Noumenon & Phenomena [9]
[10][21] ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾، سورة التوبة، الآية 33.
[11][22] ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾، سورة الشورى، الآية 13.
﴿وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ سورة البقرة، الآيتان 111 – 112
﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ سورة البقرة، الآية 62.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13950/religiouspluralism/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.