مدخل عام إلى القيم أو الإكسيولوجيا

مدخل عام إلى القيم أو الإكسيولوجيا

مدخل

إن مبحث القيم قديم جدًّا بدأ مع بداية الفلسفة، وهو من المسائل التي بحث فيها المفكرون على اختلاف مدارسهم ومبانيهم.

ذلك أن مباحث الفلسفة تشترك في جعل الإنسان يفكر ويتأمل ويتساءل باستمرار عن ماهية الأشياء، مما يساهم في التخلص من السلوك الروتيني والسعي نحو اكتشاف خبرات التواصل سعيًا إلى فهم جديدٍ للمعرفة.

إن مباحث الفلسفة قد قُسمت إلى ثلاثة مباحث رئيسة هي: الوجود (الأنطولوجيا)، المعرفة (الإبستمولوجيا)، القيم (الإكسيولوجيا).

إن تركيزنا في هذا المقال ـ عمومًا ـ سيكون على المبحث الأخير وهو مبحث (القيم) أو (الإكسيولوجيا)، وما يتعلق به من توضيح عام يفيد القارئ والباحث بصورة مختصرة ومفيدة.

القيم أو الإكسيولوجيا

يعد مبحث القيم والذي يطلق عليه بـ (الإكسيولوجيا) من المباحث التي تتعرض لدراسة المثل العليا، والكشف عن ماهيات القيم التي يسعى الجميع لتحقيقها في حياتهم، وثمة ثلاث قيمٍ أساسية هي: (الجمال، والخير، والحق)، ولكل واحدة منها علم خاص يدرس موضوعاتها.

إن الإكسيولوجيا يراد بها: العلم الذي يبحث في ما هو(قيّم) و(ثمين) و(جديد)، وتكون الفلسفة المتصلة به هي (فلسفة القيم) أو(نظرية القيم).

فالقيمة هي: كل ما له شأو في التصور وفي الفعل لدى الأفراد والجماعات([1]).

ولقد شبه (شارل لالو) دور القيمة في الفكر الحديث بفكرة (الطاقة)، أو فكرة (القوة) في العلم الحديث([2]).

إن نظرية القيم أو الإكسيولوجيا من حيث هي مبحث أخلاقي، تدرس مشكلتي الخير والشر، وتطرح مسائل أساسية تتعلق بهما من حيث المفهوم، والصفاتية، والوعي، والمصدرية، والتطبيق، وما شاكل ذلك.

وفي توضيح مختصر لأصل النشأة يمكن أن نقول: لقد قُسِّمت الفلسفة إلى ثلاثة مباحث رئيسة هي: مبحث الوجود (الأنطولوجيا)، مبحث المعرفة (الإبستمولوجيا)، مبحث القيم (الإكسيولوجيا).

ثم إن هذا المبحث الأخير ـ الإكسيولوجيا ـ يضمُّ ثلاثة عناصر محوريّة رئيسة هي: (الجمال)، (الخير)، (الحق).

إن الإكسيولوجيا تدرسُ القيم وينصبُّ اهتمامها على معرفة كيف تكونُ الأشياء جيّدة أم سيّئة، ففلسفة القيم هي فلسفةٌ تهتمُّ بموضوعٍ اسمه القيم، علمًا أنه لو كانَ مفهوم القيمة واضِحًا لما احتجنا لفلسفةٍ تدرسه، فهو مفهومٌ يحومُ حوله غموض كبير، علمًا أن موضوع فلسفة القيم موضوع إنساني بامتياز، يتعلق بالجانب الأخلاقي والسلوكي للإنسان.

إن القيمةُ هي قدرُ الشيء وثمنه، هي تنحدرُ من فعل قام، وتدلُّ على الاستقامةِ والاعتدال، أمّا اصطلاحًا، فالفضلُ يعودُ لإخراج مفهوم القيمة ـ اقتصاديًّا ـ من باب السوق وإدخالها لباب النِّقاش في اللغة الألمانيّة وأصبحت تُسمّى Verte.

إن دخول القيمة إلى المجال الفلسفي كان على يد الفيلسوف الألماني العدمي (نيتشه)، لأنّه كان مُناهضًا للقيم، لذلك هو قد أعدمها.

المؤثرات المجتمعية

إن الكلام عن القيم يتطلب منا الكلام عن المؤثرات في المجتمع، أي المؤثرات المهمة في بناء وتطور التفكير المجتمعي، لذلك فإننا سنتطرق لتلك المؤثرات والتي هي:

  1. البيئة: إن الإنسان ابن بيئته، وآثار البيئة واضحة جدًّا على ملبسه، وعلى كلماته الأولى، وتصرفاته.
  2. الاعتقاديات: أي الاعتقاديات المجتمعية، ولا نقصد الدينية، بل العرفية، وهي كثيرة في المجتمعات، ومتنوعة بتنوع المجتمعات، منها على سبيل المثال؛ إلقاء عقدة الحبل السري (السرة) للطفل في مدرسة ليكون فاهمًا عالمًا، أو إلقائها في الجامع ليكون متدينًا ورعًا، وهكذا.
  3. الدين: (عقائد + عبادات): فإن لدين الإنسان تأثيرًا كبيرًا في بنائه الاجتماعي، وذلك بحسب طبيعة الدين الذي ينتمي له، ويعتقد به.
  4. القانون: (الحاكم، السياسة، السلطة): فإنه وعند جملة من الناس يعد قول الحاكم تشريع، والقانون تشريع، ويعد الحاكم قدوة، فنرى ـ على سبيل المثال ـ تسمية للمواليد على اسمه!.. وهكذا.

إن هذه المؤثرات لها أهمية كبيرة في بناء المجتمع، وفي تطور تفكيره، وتنظيم طبيعة تعاملاته، فمن خلال هذه المؤثرات تدخل القيم كلٌ بحسبه (سيئة) أم (حسنة)، علمًا أن هناك مؤثرات أخرى، لكننا اخترنا أو ركزنا على الأبرز والأشهر منها، والتي لها التأثير الأكثر والواضح في المجتمع.

العلاقة ما بين القيم والأخلاق

لا يمكن إنكار أن هناك تلازمًا واضحًا ما بين القيم والأخلاق عند أغلب الناس، أما عند العلماء وأصحاب الاختصاص فقد وقع الاختلاف في تمييز العلاقة ما بين القيم والأخلاق، وهل هي علاقة تباين؟ أم هي علاقة تساوي؟ وهل أن القيم أعم من الأخلاق؟ أم أن الأخلاق أعم من القيم؟

لذلك قيل: إن الأخلاق تتعلق ـ بوجهٍ عام ـ بمعايير السلوك التي يتحدد بموجبها الإعجاب بموقفٍ معين أو رفضه، احترامه أو إدانته، وربما تسري هذه المعايير على جميع المجتمع فتشكل نوعًا من الميثاق، أو ربما تنطبق فقط على بعض الممارسات المهنية لمجموعة بعينها من هذا المجتمع، والأخلاق هي ترجمة للكلمة اليونانية Ethos التي تعني الطبع، والعادة([3]).

أما القيم فهي من المفاهيم المعقدة ذات الاستخدامات الكثيرة، فتستعمل هذه المفردة في الفلسفة والحقوق وعلم النفس وعلم الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع وعلم الأخلاق، وبذلك سيتعدد تعريفها بتعدد وجودها ضمن العلوم المتعددة والمختلفة، لذا لا نجد لها تعريفًا موحدًا متفقًا عليه حتى في داخل الاختصاص الواحد([4]).

وقد قيل ـ وفق ما تقدم ـ أن العلاقة ما بين القيم والأخلاق هي كون القيم أعم من الأخلاق وشامله لها ولغيرها.

نعم، إن هذا الكلام ـ المتقدم في علاقة القيم بالأخلاق ـ قابل للنقاش، ولا يمكن التسليم به مطلقًا، وهو نظر من زاوية واحدة، وهو رأي من آراء متعددة، لكنه مفيد في مجال البحث واستعراض الآراء.

إن ما تقدم حول القيم ـ في هذا المقال ـ ما هو إلا مدخل عام حول القيم أو الإكسيولوجيا، إن شاء الله تعالى وفي مقالات قادمة سنتعرض لأمور ـ أخرى ـ مهمة تتعلق بالقيم من أجل بناء تصور واضح عنها، وسيكون من ضمن ما سنتطرق له هو بيان المراد بالقيم الإسلامية، والقيم القرآنية، وكل ما يتعلق بذلك.

([1]) العوا، عادل، العمدة في فلسفة القيم، (دمشق: دار طلاس، الطبعة1، 1986م)، الصفحة 42.

([2]) لالو، شارل، الفن والأخلاق، ترجمة: عادل العوا، (دمشق: دار طلاس، الطبعة1، 1970م)، الصفحة 120.

([3]) الحفني، عبد المنعم،  موسوعة الفلسفة والفلاسفة، (القاهرة، مصر: مكتبة مدبولي، الطبعة1، 1999م)، الصفحة 106.

([4]) طالبي، أبو تراب، مفهوم القيم: قراءة تاريخية، فصلية المنهاج، (بيروت ـ لبنان، العدد 75، خريف 2014م)، الصفحة 229.



المقالات المرتبطة

مباني فهم النّص عند الشهيد الصدر: الحلقة 2

سنعرض في هذه المقالة التساؤلات المهمة المرتبطة بإشكالية فهم النص الديني، حتى نرى في المقالات اللاحقة: هل تعرّض السيد محمد باقر الصدر لها وقدّم إجاباته، أم لا.

جدل الدين والدولة في التجربة الغربية

على المستوى الغربي ثمة بلدان وتجارب حاربت الكنيسة الحداثة السياسية والثقافية، فنتج عن ذلك تقلص وتراجع حضور الدين في الحياة

الليبرالية والتعددية الدينية

  إن مسألة التعددية لم تطرح في الأصل فيما يتعلق بالأمر الديني، إنما طرحت في النصف الثاني من القرن العشرين

  1. Amel
    Amel 4 نوفمبر, 2024, 09:11

    مرجع ط

    الردّ على هذا التعليق

أكتب تعليقًا

<