التعددية الدينية في التداول الثقافي الراهن
قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[1]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[2]، وورد في الحديث الشريف “أن الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق”.
قبل أن أباشر الحديث عن التعددية، أحب في البداية أن أشير إلى بعض الخواطر التي مرت بذهني:
الخاطرة الأولى: تتمثل بما ينقل عن الشهيد مرتضى المطهري (رحمه الله) أنه اقترح، حينما كان أستاذًا في كلية المعقول والمنقول في جامعة طهران سابقًا- قبل الثورة الإسلامية وكلية الإلهيات لاحقًا- على الإدارة استحداث قسمًا لدراسة الفكر الماركسي، واشترط أن يكون الأستاذ ماركسيًّا؛ وليس من يتقمص هذا التوجه وهو مسلم، ولعله أراد من ذلك، والاحتمال مني، أن يبحث عن الموضوعية والتجرد في عرض الفكر الماركسي.
الخاطرة الثانية: وردت في خطاب للإمام الخميني (قده) وجهه إلى العلماء والروحانيين بشكل عام في 1667ﻫ.ش وتحدث فيه عن التحجر والتقديس الفكري الذي يعاني منه بعض العلماء، وأشار الإمام في هذا الخطاب إلى واقع كان سائدًا في برهة من الزمان، حيث كان تعلم اللغة الأجنبية كفرًا، وتعليم الفلسفة والعرفان مروقًا وشركًا، ويروي (قده) القصة التالية: لما كنت أمارس تدريس مادة الفلسفة في المدرسة الفيضية شرب ابني- يقصد السيد مصطفى- من كوز ماء، فغضب بعض المقدسين، وطلبوا من الطلبة تطهير الكوز لأنه شرب منه أب هذا الطفل الذي هو يدرس الفلسفة. والمفارقة أريد أن أقارن بين الموقفين بين الشهيد المطهري وبعض المقدسين في المدرسة الفيضية.
الخاطرة الثالثة: نقل لي بعض الثقات عن السيد علي السيستاني أنه كان مدرسًا معروفًا للفلسفة في النجف الأشرف، وقد ترك التدريس في الفلسفة لئلا يُتهم في دينه. هذه المفارقات في الوضع العام التعليمي لدينا بشكل عام.
في ما يرتبط بالموضوع الذي أريد أن أتحدث بإيجاز واختصار حوله؛ يركِّز على التعددية الدينية بالذات مفهومًا وتداولًا. من هنا ينبغي التمهيد التالي أولًا، ومن ثم عرض موجز للتعددية بشكل عام.
السؤال المطروح- وقد طرح في الأوساط المسيحية بالدرجة الأولى- أن المتدين بدين من الأديان كيف يستطيع أن يقيِّم الأديان الأخرى؟ هذا الموضوع كان له طابع كلامي بالدرجة الأولى عند المسيحيين، وبالتعبير الفلسفي طُرح الموضوع بشكل آخر أو من خلال السؤال التالي بأن التعددية الدينية كيف نستطيع أن نفهمها ونبينها للآخرين؟ إذا استثنينا التوجه المادي الموجود في هذا المقام والذي يرى أن الدين عبارة عن مخلوق ذهن بشري، وبغض النظر عما طرحه “باخ” أو “ماركس” في هذا المجال، من خلال نظريته أو الاتجاه الانعكاسي أو النظرة الأفيونية، فإننا نجد البحث الفلسفي والكلامي داخل المسيحية، بشكل عام، يتمحور حول اتجاهات ثلاثة، وذلك في ما يتعلق بالنظر إلى الأديان الأخرى، الاتجاه الحصري، والاتجاه الشمولي، والاتجاه التعددي.
الاتجاه الأول: الاتجاه الحصري، وهو الاتجاه السائد أو الاتجاه المعروف لدى أغلب الأديان بما فيها المسيحية، وفيه يوجد تركيز على بعض المفاهيم المأخوذة أساسًا من الكتب والنصوص المقدسة لدى المسيحية بالدرجة الأولى؛ كما ورد مثلًا في إنجيل يوحنا في الفصل الرابع عشر في الفقرة السادسة أو الآية السادسة عن المسيح أنه يقول ما مضمونه: “أنا الطريق إلى الحقيقة والحياة فمن أراد الوصول إلى الأب السماوي فعليه أن يسلك الطريق من خلالي”. مما يعني أنه لا يمكن الوصول إلى الأب في التعبير المسيحي إلا من خلال المسيح. وهناك في التوجه البروتستانتي متكلمين معروفين من الذين يتبنون هذا التوجه الحصري ولعل الأسماء المعروفة في هذا المجال؛ “كارل بارث”، و”إميل بارنر”، وكذلك “هنريك كرامر” وغيرهم، فمثلًا “كارل بارث” الذي يؤسس أصلًا أساسيًّا في مجال التوجه الحصري من خلال قوله: إن الإله بشكل مطلق يتجلّى في المسيح يعني لا يتجلى في غيره. وكذلك الأمر عند الآخرين. الاتجاه الحصري له خيوطه الأساسية عند النصوص المقدسة المسيحية أي أن الأناجيل الأربعة أو السبعة المتداولة لدى المسيحيين. وبالنتيجة كيف يمكن أن نعالج الأديان الأُخر؟ الجواب واضح، على أساس التصور الحصري أنه لا يمكن تصور النجاة والخلاص والوصول إلى الحقيقة إلا من خلال دين محمد. إذًا، هذا هو التوجه الحصري المتداول عند الكلاميين المسيحيين بالدرجة الأولى.
الاتجاه الثاني: الاتجاه الشمولي، هذا الاتجاه أيضًا يتبنّى امتلاك الحقيقة، ولكن ليس حصريًّا، فيعطي نصيب من الحق والحقيقة للآخرين وللأديان الأخرى، وأي شخص يتدين دينًا آخر يستطيع أن يصل إلى الحقيقة فيكون له نصيب من الحقيقة، إلا أنه وبلا شك، فإن الحقيقة بشكل مطلق هي عند صاحب الدين الشمولي. عندما يتبنى المسيحي الرأي الشمولي يقول: إن هناك شعاع من الحقيقة يمكن للآخرين أيضًا أن يصلوا إليه، ولكن الحقيقة المطلقة هي عند المسيحيين، أو عند مذهب معين من المذاهب المسيحية. في هذا المجال المتكلمين من المسيحيين يتمسكون ببعض النصوص الدينية، والمعروف أن إنجيل لوقا هو النص الأكثر شمولية. وقد ورد في هذا المجال في أعمال الرسل الفصل العاشر الآية 35: “أنني هكذا أرى حقيقة أن الله لا يحمي شخصًا أو قومًا وإنما كل قوم أو كل شخص يخشى الله ويعمل عملًا صالحًا فيقبل منه”. بهذا المضمون نجد نصًّا أيضًا في هذا المجال لـ “جوستان” والذي هو معاصر للوقا، يصرّح في هذا المقال التصريح التالي: بأن الذي يريد أن يعيش مطابقًا للحق، أو طبقًا للحق فأيضًا هو مسيحي، وعلى هذا الأساس فهو يقول: إن الذين لم يدركوا المسيحية ﻛ “سقراط”، أو”هرقليس” فهم أيضًا مسيحيين في الحقيقة، وإنما هم مسيحيين من دون اسم لأنهم عاشوا مع الحق أو أدركوا الحقيقة. في هذا المجال ينبغي أن أشير إلى أن الشعار السابق والسائد للكنيسة كان هو أن الخلاص لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الكنيسة. فالخلاص لا يوجد خارج الكنيسة، إلا أنه بعد المجمع الفاتيكاني الأخير في سنة 1963 إلى 1965 صدر بيان ليتبنى الرأي أو التوجه الآخر بأن الخلاص خارج الكنيسة أيضًا ممكن، ولذلك يعبِّر الدارس المسيحي في هذا المجال “هانس كونغ” بأن هذا البيان هو تحول أساسي من محورية الكنيسة إلى محورية الإله، فالمسيحية بعد المجمع الفاتيكاني الأخير، أو الكاثوليك بشكل أدق، تحولوا من محورية الكنيسة إلى محورية الله، باعتبار أن أي شخص أو أي مذهب أو أي دين آخر باستطاعته أن يصل إلى الله وإن لم يكن من خلال الكنيسة. إذًا، فالاتجاه الشمولي يقول: للآخرين أيضًا نصيب من الحقيقة، وباستطاعتهم أن يدركوا درجة من الحقيقة، وقد لا يملكوا الحقيقةبشكل مطلق وبشكل كامل.
الاتجاه الثالث: اتجاه التعددية، والتي ترتبط بمفاهيم عدة، ولعل أقدم نص مسيحي حول التعددية هو لـ “نيكولاس سوزا” والذي له رسالة باسم رسالة بين الأشكال المختلفة من الأديان. “سوزا” كان في القرن الخامس عشر ميلادي وهو في هذه الرسالة يكتب حول سيناريو معين فيه حوار بين ممثلين لأديان مختلفة، ويصل إلى هذه النتيجة من خلال الحوار بأن يقول: “في جنة العقل يسود الوئام التام بين الأديان المختلفة”.
ونجد التركيز في أقدم نص مسيحي حول التعددية على العقل والعقلانية والارتباط الوثيق بين التعددية وبين العقلانية، وأيضًا بين مفاهيم أخرى واعتبارات أخرى كجوهر أو كلفة الدين، أو التجربة الباطنية للأشخاص، أو التجلي بالنسبة إلى أفراد مختلفين أصحاب أديان مختلفة. هذا التوجه نجده عند الآخرين بعد “سوزا”. لعل ما يُنقل عن المؤرخ والفيلسوف البريطاني المعاصر”أرنولتن بي” أنه ورد في كتابه “خلاصة الحضارات” هذا النص؛ حيث يعتبر أنه من الممكن لنا أن نعترف بأحقية باقي الأديان مع الاحتفاظ بصحة عقائدنا، فلا يرى ملازمة بين الاعتراف بدين آخر وبين عدم القدرة على الحفاظ على العقائد الخاصة والمختصة لهؤلاء الأشخاص.
أقول فيما يرتبط بالتعددية: إن التعددية ترتكز على مفاهيم واعتبارات أساسية، وبالدرجة الأولى قضية العقلانية والتي يشكل العقل فيها معيار أساسي للحكم في صحة القضايا والأفكار الدينية وعدم صحتها. فهنا في التعددية يصبح الحاكم العقل بدل النصوص الدينية والفكر الديني، كما أن – التعددية- مرتبطة بدرجة أساسية بمقولة المعرفة أو كيفية حصول المعرفة.
أشير هنا إلى بعض المساهمات المؤثرة بالفعل في انتشار ورواج التعددية والتي من جملتها الدور الأساسي لـ”كارل بوبر” الفيلسوف والمفكر المعروف الذي له نظرية مختلفة عن النظرية التي كانت سائدة في الغرب؛ أي ثنوية ديكارت ثنوية الذهن والجسم، المعرفة بالنتيجة تحصل من خلال التأثر المتبادل بين الذهن وبين المادة – عالم الفيزياء – ووجود ثنوية عالمين، عالم المادة أو الفيزياء وعالم الذهن، هنا “بوبر” يعطي نظرية جديدة وهي وجود عالم ثالث خارج عالم الذهن وعالم الفيزياء وهو عالم الإيديا أو عالم الإذعانات وعالم المعتقدات، والآن يصير تركيز كثير على القبليات والتي هي في الحقيقة مأخوذة من فكر”بوبر”؛ فهو الذي يركز على دور القبليات في حصول المعرفة أو كيفية حصول المعرفة والفهم، وأنه كيف نصل إلى التفسير أو الرأي الذي يتكون، سواء كان صحيحًا أم لا، فهنا إضافة إلى دور عالم الفيزياء أو المادة والذي كان يركز عليه التوجه الظاهراني المادي والذي كان يعتبر حصول الحقيقة أو حصول المعرفة مرتبطة بإفرازات المخ وتأثير عالم المادة، فهنا وخلال تصور المثالية الذي كان يرى تأثير الذهن وأصالة الذهن، بخلاف ديكارت القائل بالتأثير المتبادل بين المادة والذهن، هنا العالم الثالث أو القبليات أو الأفكار المسبقة أو المعتقدات أو الثقافة أو البيئة والعوامل الأخرى التي هي عالم آخر عالم ثالث عند”بوبر”. هنا أيضًا يوجد عامل له تأثير كبير فيما يرتبط بالتعددية وهو رأي الرياضي والعالم الفيزيائي البريطاني المعروف”روجر بنروز” الذي أعطى نظرية العالم الثالث، والذي هو قريب للعالم الثالث عند “بوبر”، ولكن من خلال الفيزياء، وهو”بنروز” سماها بعالم أفلاطون أو عالم المثل. إذًا من خلال نظرية ميكانيك الكم أو ما يعبَّر عنه بـ ” Quantom theory” وبعد النظريات الجديدة والتي بالأساس راجعة إلى عمل الثنائي شرودنجر وهايزنبرغ، وما كان قائم سابقًا أو ساند نظرية نيوتن؛ بأن الطاقة أمر ثابت وله حالة ثابتة ونظرية “Quantom” التي تقول إن الطاقة ليست أمرًا مستقرًا إنما هناك بشكل أحزمة من الطاقة غير مستمرة فيما يرتبط خصوصًا بالجسميات والذرات، كل ذلك كان له دفع لنظرية “بوبر”، أو العالم الثالث باعتبار أنه ينطلق من عالم الفيزياء وعالم التجاري، ويعطي وجود عالم ثالث والذي سماه بالعالم الأفلاطوني فكان له تأثير.
ونحن ومن خلال مراجعة دراسات عديدة، خصوصًا في إيران، من خلال كتَّاب عديدين، رأيت تأثيرًا كبيرًا لفكر “بوبر” في الكثير من النظريات سواء بالنسبة للتعددية أو بالنسبة للنقد الموجود للاستقراء، وبالتحديد لكتاب الشهيد محمد باقر الصدر “الأسس المنطقية للاستقراء”.
كان لـ “بوبر” على المستوى المعرفي وعلى مستوى النظرية، دورًا كبيرًا لدفع التعددية بشكل عام على المستوى المعرفي، وكان له تأثيرًا كبيرًا على المستوى الديني أيضًا للتواصل الموجود بين نظريات التعددية الدينية والتعددية في مجال المعرفة.
ومن الأمور التي تم التركيز عليها أيضًا فيما يرتبط بالتعددية هو تأثير اللغة أو لغة الدين، ومن الأشخاص الذين عملوا في مجال اللغة وفي مجال التأويل أو Hermontic شلايرماخر والذي كان متكلمًا. هؤلاء فتحوا مجالًا جديدًا فيما يرتبط بالفكر التعددي المرتبط بالتأويل في مجال لغة الدين للتساؤل أن هذه اللغة هل هي لغة مثل باقي اللغات أو لغة إشارية ورمزية؟ فكثيرون اعتبروا أن القضايا الدينية هي قضايا إشارية ورمزية وليست قضايا حقيقية مثل القضايا الفيزيائية أو ما يرتبط بالتجارب والحس فالأمر يختلف، أضف إلى ذلك أنه في التداول الثقافي الموجود خصوصًا في إيران يجري التمسك ببعض النصوص الدينية الموجودة لدينا وخصوصًا لبعض المفكرين، كالاستفادة من بعض العبارات الموجودة لدى ابن عربي خاصة في تفسيره للوحي، إن ابن عربي هو تعددي التوجه في تفسيره للوحي وليس أحادي التوجه. أضف إلى دور الشاعر العرفاني المعروف “جلال الدين المولوي الرومي” فيما له من أشعار، قد استفاد البعض منها التعددية والمفاهيم التعددية الدينية، وأن جلال الدين المولوي لا يركز على الحصرية أو الشمولية بل يتبنى التعددية في مجال التوجه الديني، إضافة إلى نصوص أخرى في هذا المجال من الروايات والآيات، والمجال لا يتسع باستعراض بعض هذه النماذج فأقتصر على هذا المقدار.
[1] سورة الحج، الآية 17.
[2] سورة العنكبوت، الآية 69.
المقالات المرتبطة
نحو تجاوز “الإسلاموفوبيا”
كما احتاج شفاء المريض بالخوف من اللون الأحمر إلى محلّل نفسي يكشف له عن الأسباب الحقيقية والعميقة والمنسبة لمرضه، فإن
عظم الله أجوركم !! إنّها النهضة
لا ينطوي البحث حول عاشوراء على بعد واحد؛ وهو الانفعال العاطفي؛ إذ برغم ما لهذه العاطفة من موقع في تفاعل الناس مع الحدث العاشورائي، وبرغم موضوعية هذا الانفعال تجاه حدث مثَّل جريمة التاريخ في الحياة الدينية.
فلاسفةٌ مَنْسِيون الشيخ عبد الكريم الزنجاني
عُرف عن الأمم شدة تعلقها برجالاتها وأفذاذها، وقد تبالغ أحيانًا في تكريمهم إلى درجة تفوق المستوى الطبيعي للتكريم والمستوى الواقعي لهم!