بحث حول الملائكة الكروبيين
عن البصائر عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي وغيره رفعوه إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم. ثم قال: إن موسى عليه السلام لما سأل ربه ما سأل، أمر واحداً من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا.
من المسائل التي يتفق عليها أكثر الإلهيين أن عالم الإمكان وهو كل ما سوى الله تعالى ينقسم الى غيب وشهادة ويتفقون أيضا على أن سكان الغيب هم الملائكة وسكان الشهادة ينقسمون إلى الإنس والجن وهم المعبر عنهم في النصوص الإلهية بالثقلين، ولكن وقع الخلاف بينهم في ماهية عالم الغيب فهل هو عالم تجرد أم هو عالم مادي لطيف، واختلفوا في مراتبه هل هو مرتبة وجودية واحدة أو أكثر وسرى هذا الخلاف الى طبيعة الملائكة باعتبار أنهم سكان عالم الغيب فمن قال بأنه مادي لطيف قال بمادية الملائكة ولطافتها ومن قال بأنه مجرد قال بتجرد الملائكة.
قال العلامة الطباطبائي في الميزان ج١٧ص١٣: ومن هنا يظهر أن الملائكة موجودات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال والفساد والتغيير. وهذا هو رأي مشهور الحكماء فهم يقولون بتجردها عن المادة. وقد تعرضت الآيات والروايات للكلام عن الملائكة وذكرت تفاصيل كثيرة عنها وعن طبيعتها فقد ورد عن الاختصاص بإسناده عن المعلى بن محمد رفعه إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: إن الله عز وجل خلق الملائكة من نور. وفي تفسير القمي قال الصادق عليه السلام: إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون وإنما يعيشون بنسيم العرش. وقال أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في كلام عن الملائكة: لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان لم يسكنوا الأصلاب، ولم تضمهم الأرحام، ولم تخلقهم من ماء مهين أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك.
وهذا الروايات أقرب إلى التجرد منها إلى القول بالمادية.
وقد ذكرت الآيات والروايات أن الملائكة ليسوا طبقة واحدة بل هم طبقات متفاوتة في الخلقة من حيث المقام الوجودي ومن طبقات الملائكة طبقة تسمى بطبقة الكروبيين وهم أعلى الملائكة وأقربهم إلى الله تعالى.
وفي هذه الرواية التي ذكرها صاحب البصائر ونقلها عنه كثير من العلماء ومنهم العلامة الطباطبائي في الميزان ج١٧، تشير إلى مسألة عقدية مهمة وهي أن الملائكة الكروبيون هم قوم من شيعة أهل البيت من الخلق الأول، وهذه إشارة لطيفة إلى أن الملائكة منهم من هم ملائكة بحسب أصل الخلقة ومنهم من هم ملائكة بحسب المقام، فهناك من يتكامل ويدخل في صراط الملائكية الوجودية ويتحقق بالصورة الملكوتية الملائكية بنحو اللبس بعد اللبس، في قبال من يسير في صراط البهيمية فيتحقق بالصورة الملكوتية البهيمية، ومن يسير في صراط السبعية فيتحقق بالصورة الملكوتية للوحوش.
وهذا النظرية من النظريات التي ابدعتها مدرسة الحكمة المتعالية الصدرائية عندما تبنت أن الإنسان جنس أخير لا نوع أخير، فقد أثبت الملا صدرا أن النفس الإنسانية هي أرقى نتاجات عالم المادة في حركته الجوهرية، ولكنها تعتبر هيولا عالم الملكوت ولها تكاملها الملكوتي، فه تتكامل في بعدها الملكوتي في الصراطات الأربعة بحسب قواها الأربعة، صراط الملكية وهو صراط القوة العقلية، وصراط البهيمية وهو صراط القوة الشهوية، وصراط السبعية وهو صراط القوة الغضبية، وصراط الشيطنة وهو صراط القوة الوهمية، ومن هنا تجد الشريعة تقسم الناس إلى شياطين الإنس وإلى الأنعام والوحوش والملائكة بحسب الصور الملكوتية والتي تعتبر هي الفصل الأخير للإنسان، والنصوص في ذلك كثيرة ومنها قول أمير المؤمنين عليه السلام في النهج يصف بعض الناس بقوله: الوجه وجه إنسان والقلب قلب حيوان. فيوم تبلى السرائر تظهر هذه الصور الملكوتية للناس كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله أنه بكى بكاءاً شديداً لما نزل قوله تعالى: يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا. ولما سُئل قال: يحشر فوج من أمتي على صورة القردة وفوج على صورة الكلاب وفوج على صورة الخنازير وفوج على صورة تحسن عندها الكلاب والخنازير.
وتشير الرواية في قوله عليه السلام: من الخلق الأول إلى نظرية الأكوار والأدوار، التي عبرت عنها الروايات بأن قبل آدمكم ألف أدم وقبل عالمكم ألف عالم، ففي نهاية كل دورة وجودية يرتقي بعض الخلائق بالتكامل الروحي فيكونوا من سكان عالم الجبروت متخطين بكمالهم الروحي عالم الملكوت وجنان عالم الملكوت ويرتقون الى عالم الأنوار القاهرة الجبروتية كما حكى ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ نورُهُم يَسعى بَينَ أَيديهِم وَبِأَيمانِهِم يَقولونَ رَبَّنا أَتمِم لَنا نورَنا وَاغفِر لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [التحريم: ٨].
فهؤلاء يطلبون عالم الأنوار والتجرد التام ومن يدخل عالم العقول والتجرد التام لابد أن يكون عقلا بالفعل لأن العوالم والنشآت بشرط لا من بعضها البعض ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَلَو جَعَلناهُ مَلَكًا لَجَعَلناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسنا عَلَيهِم ما يَلبِسونَ﴾ [الأنعام: ٩]. فالملك إذا أراد أن يسكن عالم المادة فلابد أن يتحقق بالصورة البشرية فيكون بشراً بالفعل، وكذلك من يرتقى في تكامله الوجودي ويسكن عالم الجبروت لابد أن يتحقق بالصورة الملائكية الجبورتية فيكون ملكاً بالفعل، وكذا من يسكن عالم الملكوت لابد أن يتحقق بالصورة الملكوتية، لأن العوالم والنشآت الوجودية بشرط لا من بعضها البعض.وبناءاً على هذه الرؤية التي تقدمها لنا هذه الرواية والتي تقسم الملائكة الى ملائكة بحسب الذات وأصل الخلقة وإلى ملائكة بحسب المقام والتكامل الوجودي قد تنحل إشكالية شمول الأمر الإلهي لإبليس بالسجود لآدم مع أنه لم يكن من الملائكة بحسب الذات ولكنه كان منهم بحسب المقام فهو ملك بالمقام لأنه ممن ارتقى وتكامل وجوديا في عبادته لله تعالى كما ذكر أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يسجد السجدة عمرها ستة آلاف عام وتكلمت بعض الروايات عن عبادته ومقامه قبل سقوطه.
ولم نتعرض لمسألة تحقيق سند الرواية وإشكالية الرفع فيها لأن كثيرا من العلماء اعتمد عليها وسلم بمدلولها ومنهم السيد العلامة الطباطبائي في الميزان وإن لم يعلقوا على مدلولها أو يبينوا النكات التي يمكن أن تستفاد من مدلول الرواية وهذه الرواية في علم السلوك باب يفتح منه أبواب كثيرة.
والله العالم بحقائق الأمور.
المقالات المرتبطة
العلاقة بَيْن الكلمة والنغم في الفكر الصوفي
مِمَّا لا شكّ فيه أنّ أيّ محاوَلة لاستكشاف الرؤية الصوفية ما هي إلا محاولة للإيغال في جوهر الدين وسبر أغواره والكشف عن مكنوناته
الفلسفة السياسية لولاية الفقيه -6 –
يرى العديد من المفكّرين والباحثين الإسلاميين أن أساس الفكر الاجتماعي والسياسي الإسلامي -وعلى أساس ما جاء في القرآن الكريم- هو الفطرة..
الحركـة الجوهريـة والدِّيـن
تتَقَاطعُ الفلسفة عمومًا مع الدّين في المسائل العامة التي تكون موضع بحث مشترك فيما بين الاثنين، ويتمايزان من بعضهما بأن لكلٍ طريقته في الوصول والإيصال